الشّيخ علي يحيى معمر صاحب الفكر الموحِّد
بقلم: أ.د. محمد بن قاسم ناصر بوحجام -
الشّيخ علي يحيى معمّر شخصيّة إسلاميّة وأدبيّة واجتماعيّة، امتازت بالبحث الجاد، والعمل الدّؤوب المتواصل الذي لا يعرف الملل والكلل، في سبيل نشر المعرفة، وكشف الحقائق لمن يجهلها أو يتجاهلها. هو فقيه وأديب ومؤرّخ ورجل اجتماع، وصاحب فكري وحدوي.. نشر العديد من المؤلّفات في الثّقافة الإسلاميّة، وأسهم إسهامًا كبريًا في التّعريف بالفكر الإباضي: عقيدة وفقهًا وتاريخًا وحضارة.. ومن خلال كتابته في هذا الفكر اجتهد في بيان حقيقته، ومنها عرَّجَ وعَرَجَ للدّعوة إلى وحدة المسلمين؛ بالتّركيز على بيان مميّزات هذا الفكر الذي يدعو إلى هذه الوَحدة، بمبادئه وآرائه ومنهجه وممارساته..
لقد كان طول حياته الرّجل الصّادق مع ربّه ونفسه، المحبّ لوطنه وأمّته، الغيور على دينه، الدّاعي لوحدة المسلمين، المجاهد في سبيل جمع شملهم. المحارب للبدع والخرافات، كان في كل ذلك محكّما كتابَ الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، مقتفيًا آثار السّلف الصّالح..
الشّيخ علي يحيى معمّر، من مواليد مدينة (نالوت) (ليبيا) سنة 1919م. تلقّى دراسته بمسقط رأسه، ثمّ في جزيرة جربة التّونسيّة، فمعهد الحياة بالقرارة ( الجزائر ). درَّس في جربة، ومعهد الحياة، وأخيرا في بلده ليبيا، حين رجع إليها سنة 1945 م.
في بلده ليبيا تدرّج في أروقة التّعليم؛ من مدرّس إلى مدير مدرسة، إلى أن استقر به المقام في طرابلس الغرب في وظيف مرموق بأمانة التّربيّة والتّعليم (الوزارة)، وبقي فيه إلى أن وافته المنيّة، رحمه الله سنة: 1400هـ/ 1980م.
كان نشيطا في الحقل الدّيني والأدبي والاجتماعي، شارك في جميع مجالات النّشاط في معهد الحياة: من دروس وجمعيّات أدبيّة وفرق فنيّة ورياضيّة ومسرحيّة، وبرز بخاصّة كاتبًا وشاعرا وناقدًا في صفحات جريدة الشّباب، وهو طالب في معهد الشّباب (معهد الحياة)، وعرف كاتبًا بارزًا في المعركة الأدبيّة التي احتوتها جريدة الشّباب، التي كان يصدرها طلبة معهد الشّباب ( معهد الحياة)، المعركة الأدبيّة التي قامت بين أنصار الرّافعي وأنصار العقّاد في الثّلاثينيّات من القرن العشربن. كان هو رافع لواء العقّاديّين وزميله الشّيخ محمد عليّ الدّبوز (ت 1402ه/1981م) رافع لواء الرّافعيين، على غرار ما ثار من معارك أدبيّة بين أنصار العقّاد وأنصار الرّافعي في مجلّة الرّسالة المصريّة، بعد أن نشر محمد سعبد العريان تلميذ الرّافعي مقالا – بعد وفاته – رفع فيه من أسلوب أستاذه الرّافعي ودافع عنه، وذلك – أيضًا - في الثّلاثينيّات من القرن العشرين.
كان الشّيخعليّ يحي معمّر ينشر مقالاته الدّينيّة والاجتماعيّة والتّاريخيّة والأدبيّة في مختلف الجرائد والمجلّات، خاصة: الشّباب ( معهد الحياة ) المسلمون، الأزهر، الرّسالة، الأسبوع السّياسي، والمعلّم، وغيرها...
إلى جانب ذلك كان ناشطا في إلقاء الدروس والمواعظ في المساجد، وفي صفوف العامّة والطّلبة، عملا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما كان له نشاط في المحال السّياسي بدافع من الحسّ الوطني لخدمة الوطن وقضاياه وشبابه..
أغنى المكتبة الإسلاميّة بمؤلّفات عديدة، تزيد عن سبعة عشر مُؤلفًا (17) عدا التّعليقات والرّدود والمقالات والقصائد والأناشيد والفتاوى (1)
ظلّ المرحوم يناضل ويجاهد في ميدان نشر الفكر الأصيل، والتّوجيه والإرشاد، والتّوعيّة والدّعوة إلى وَحدة المسلمين.. إلى الرّمق الأخير من حياته، وبذلك أدّى ما عليه، فذهب إلى ربّه قرير العين حين قيل له : (يا أيّتها النّفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي ) وكان ذلك يوم الثّلاثاء 27 من صفر 1400 هـــ، الموافق لـــ15من يناير 1980 م. ) رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
ممّا يمتاز به الشّيخ علي يحيى معمر في كتاباته: المناقشة العلميّة الهادئة والجدل المقنع، اللّذان مصدرهما الكفاية العلميّة والأصالة في التفكير، والاقتناع بالمبادئ التي يعتنقها، والاستجابة لقوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ).
كما تمتاز مؤلّفاته باللّغة البسيطة والأسلوب الممتع، عرف عنه – أيضًا - التّواضع للعامّة، والاحترام للعلماء، والتّقدير للآراء المعروضة، لأنّها تمثّل قبل كلّ أيّ اعتبار وجهات نظر مجتهدين، قد يصيبون، وقد يخطئون.
لكلّ ذلك نال في قلوب كبار النّفوس والمنصفين مكانة عالية، وحظي بالتّقدير والاحترام.. قال الشّيخ إبراهيم أبو اليقظان (ت 1393 هـ/ 1973م) مخاطبّا الشّيخ علي يحي معمّر: " تسلّمت شطرا من كتابك ( الإباضيّة في موكب التّاريخ) فتصفّحت مقدّمته، وشطرا منه فوجدته كتابا بديعا في فنّه، وديعا في أسلوبه، ينساب كالماء في الأغصان وقت الرّبيع، وكالنّسيم فيه، يأخذ من يانع الزّهر، ولا يكاد يشعر به الإنسان، إلّا وقد بلغ الغايتين: تجاويف القلوب، ولفائف النّفس، توخيت في أسلوبه الوداعة والبساطة، لا حدّة ولا عنصريّة، ولا إجحاف بحقّ الأمّة في تاريخ أسلافها، هكذا ذهبتَ كالسّهم رأسا إلى اللّبِّ، فاقتنصته بلباقة، وركّزتَه في بؤرة مرص من المريض، بدون أن يشعر بمرارة الدّواء، حتّى يجد راحة الشّفاء، هكذا فليكن الدّعاة، أسلوب متواضع رصين، يأخذ طريقه إلى القلوب بدون استئذان، فبارك الله لك في قلمك السّيال، وفكرك المنتج، وضميرك اليقظ " (2)
بهذا الأسلوب استطاع المرحوم أن يعالج كثيرا من قضايا المسلمين، ويناقش بعضا من اهتماماتهم وانشغالاتهم. من هذه القضايا " وحدتهم وتضامنهم ".
إنّ حاجة المسلمين إلى التّقارب والتّفاهم، هي اليوم أكثر إلحاحا من أيّ وقت مضى، بعد المآسي التي تعرّضوا لها في العصور السّابقة التي اتّسمت بالجهل والتّعصّب والتّسلّط والقهر والاضطهاد، وكبت الحريّات، وتمرير المؤامرات، واختلاق أساليب التّموية، واتّباع سياسة التّشويه والتّزييف والتّحريف، ممّا نتج عنه مجتمع إسلامي ممزّق الأواصر، مشتّت الأفكار، متضارب الأهواء والمشارب. خائر القوى، مذبذب المواقف، كسولا لا يتحرّى نقل الحقائق، ولا يسعى إليها بنفسه، بل يترك غيره يمليها عليه كما يشاء، وتبلّد فكر أبنائه، فلم يعودوا قادرين على استقراء الأحداث ولا استبطان المواقف، ولا إدراك الخفايا، ولا وعي ما يسري في الطّوايا، ولا معرفة ما يدور في الزّوايا..؛ ممّا يخطّط لهم ويدبّر ويجرّون إليه ويجرجرون.. لينال منهم ويضرّهم ويصيب وَحدتهم بالتّمزّق وصفوفهم بالتّشتّت.. فيسهل القضاء عليهم، أو السّيطرة عليهم والتّحكّم فيهم..
انبرى الشّيخ علي يحي معمّر ليعالج داء التّفرّق الذي يتحمّل مسؤوليّته العلماء والموجّهون والمفكّرون وسراة القوم في الدّرجة الأولى؛ فصبّ اهتمامه في توجيه كتاباته لهؤلاء. فسجّل بعض الخطوط العريضة، وذكر بعض الخطوات المهمّة في طريق وحدة المسلمين. نثبت بعض الأسطر منها في هذا المقال القصير..
قال الشّيخ علي يحي معمّر: " والكاتب المسلم حين يكتب عن طائفة أو عن بلد، يجب أن يحرص على الرّباط المتين الذي يربط بين الأمّة الإسلاميّة بمختلف مذاهبها وديارها، وأن يبعد عن قلبه وعن أحاسيسه وعن شعوره معاني التّفرقة والعنصريّة والعصبيّة، تلك المعاني المنتنة التي استغلّتها المصلحة الخاصّة غير المؤمنة، وقامت بها في أحداث الزّمن مطامع فرديّة، وسجّلتها في التّاريخ أقلام مأجورة، أو مغرورة ، أو مخدوعة، على حساب العناصر أو الأجناس أو المذاهب:" (الإباضية في موكب التّاريخ، الحلقة الثّالثة، ص: 11).
قال أيضًا: " وأنا على يقين في نفسي أنّ المذهبيّة في الأمّة الإسلاميّة لا تتحطّم بالقوّة، ولا تتحطّم بالحجّة، ولا تتحطّم بالقانون، فإنّ هذه الوسائل لا تزيدها إلاّ شدّة في التّعصّب وقوّة في ردّ الفعل، وإنّما تتحطّم المذهبيّة بالمعرفة والتّعارف والاعتراف.. فبالمعرفة يفهم كلّ واحد ما يتمسّك به الآخرون ولماذا يتمسّكون به، وبالتّعارف يشتركون في السّلوك والأداء الجماعي للعبادات، وبالاعتراف يتقبّل كلّ واحد منهم مسلك الآخر برضى، ويعطيه مثل الحقّ الذي يعطيه لنفسه (اجتهد فأصاب، أو اجتهد فأخطأ) وفي ظلّ الأخوّة والسّماح تغيب التّحدّيات، وتجد القلوب نفسها تحاول أن تصحّح عقيدتها وفهمها بالأصل الثّابت في الكتاب والسّنّة، غير خائفة أن يقال عنها: تركت مذهبًا أو اعتنقت مذهبًا.." (الإباضيّة بين الفرق الإسلاميّة، ص: 7، 8).
نظرات ثاقبة، وتوجيهات سديدة، وتنبيهات قيّمة.. قدّمها شيخنا وقدوتنا، نابعة من وازع ديني قويّ، وحسّ اجتماعي كبير، وتفكير رصين وتدبير سديد، وحبّ للخير شديد.. ما أجوجنا إلى هذا الفكر الموحّد للصّفوف، الجامع للقلوب، والمنقذ من التمزّق، الحافظ للودّ، الباعث على التعاون على البرّ والتّقوى.. ما أحوجنا إلى هذا الفكر الموحّد ونحن نعيش صراعات ومشاحنات وخيانات واعتداءات، وتباعد فيما بيننا، وتقارب الأعداء في مخطّطاتهم للقضاء علينا، ونحن نسهم في ذلك بتشتّتنا وضرب بعضنا بأنفسنا بكلّ أنواع الضّرب: بالاعتداء، بالنّهب، باسّطو، بالتّعاون مع الأعداء، بخيانة بعضنا...
فليكن في فكر الشّيخ عليّ يحي معمّر ما ينقذنا من هذه السّقطات والزّلاّت، والشّروخ في وحدتنا، والخروق في صفوفنا.. رحم الله شيخنا صاحب الفكر الموحِّد..
المصادر والهوامش:
(1) لمزيد من الاطّلاع على هذه الأعمال تراجع المقدّمة التي وضعناها لكتابه (الإباضيّة دراسة مركّزة في أصولهم وتاريخهم).
(2) من رسالة وجّهها الشّيخ أبو اليقظان إلى الشّيخ علي يحيى معمّر، مؤرّة هكذا: الجزائر يوم 18/09/1964 م.