جَوَانِبُ مُشْرِقَةٌ في حياة الشَّيخ مُبَارَك المِيلِي
بقلم: سمير سمراد-
الهُرُوب مِن قَبْضَةِ الذِّيب!:
رُبِّيَ «مبارك المِيلِي» يتيمَ الأبوين [وُلد في 1898م]، وهُوَ في حجر جدِّه دخلَ الكُتَّاب وَحفظ أجزاء مِن القرآن وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، وَبعد وفاة جدِّهِ «رابح» [ت 1908م]، أَرغمه عمُّه الأكبر على ترك التعليم، ووَجَّههُ إلى العمل الفلاحي والرَّعي، كان الفتى مبارك حزينًا متألِّمًا؛ حيثُ حُرِم مِن رغبته في الاِستزادة مِن العلم، وهكذا مضت نحوُ أربع سنوات على هذه الحال، لم تُثْنِ عزمَ هذا الفتى عمَّا كان تُحدِّثُهُ به نفسُهُ؛ إِنَّهُ السَّفَرُ إلى «مِيلة» قِبلة المتعلِّمين. إلى أن جاء يوم هروبه مِن باديتهم، إلى أقرب مكان يُحقق لهُ أمنيتهُ أو بعضًا منها، إلى زاوية الشَّيخ الحسين قُربَ «مِيلَة»، مشيًا على الأقدام لمسافة نحو 27 كيلو مترًا، قطعها في مسيرة يومين شاقَّين، لم يتردَّد ولم يتهيَّب أن يغامر في تلك الدروب والمسالك الجبلية الوعرة، لأجل تحقيق حلمه وبلوغ أمنيته، ولم يمض نحو أسبوعين وهُو في تلك الأجواء العلمية في الزاوية التي أَوَى إليها، حتى ردَّهُ عمُّه، وانقلبَ بهِ وهو يبكي وينتحِب، وقُطِع مباركٌ عن العلم مرةً أخرى.
لم يزل هذا الفتى عنيدًا!؛ لم ولن يتخلَّى عن الغاية التي لم ينقطع عن التفكير فيها، لقد ظلَّ مُصَمِّمًا على الهُروب لإتمام دراستهِ بِـ«مِيلَة»، لكن عَينُ عَمِّه الذي شدَّدَ عليه الرقابة، كانت تترصَّدُ حركاته ليلَ نهار، وقد كان الناس يُسَمُّونَهُ «الذِّيبْ»!، حتى كان يوم سقطت فيه الثلوج بصورةٍ غير عادية، «كان الثَّلجُ يَصِل للرُّكْبَة»!. بهذه العبارة وصف الشَّيخ مبارك وضعيَّة قريتهِ، فقال في نفسِه: هذه فُرصتي للهُروب مِن ضغطِ عمِّي وَسِجنِهِ؛ لأنَّهُ لَا يتصور أني أهرب في مثل هذا اليوم! وهكذا نجحت خطَّتُهُ في الهروب، مشيًا على الأقدام، رغم أنه لم يسبق له السَّفر إلى «مِيلَة»، التي تفصلُها عن مسقط رأسه 50 كيلو مترًا. هكذا خاضَ هذه الثلوج لا يَعبأُ بخطورة الوضع، ولا بِالبرد الشَّديد، وبإرادةٍ حديديَّة، وعنايةٍ ربانية، وصلَ «مِيلةَ» سالمًا. وتَمَّ لهُ ما أراد. كان ذلك في شتاء عام 1912م، وعُمرُ مبارك (15) خمس عشرة سنة. [«أعلام الإصلاح في الجزائر» لمحمد علي دبوز، (3/32-44)، وَ«ذكريات زمن البراءة» لمحمد المِيلِي، (ص199-200)]
جِدٌّ ومُثابَرَة:
في مراحل طلب العلم؛ الاِبتدائي والمتوسِّط: حفظ أجزاء مِن القرآن وتعلَّم القراءة والكتابة في قريته، وهو دون سن 14 سنةً، وَانتقل إلى «مِيلَة»؛ يأخذ عن عالمها الشَّيخ محمد بن معنصر المِيلِي، فأَتَمَّ حفظَ القرآن، وَأَتقنَ الفقهَ والنَّحوَ، وَقد حفظ نصف متن مختصر خليل. [عبد الحفيظ الجنَّان، والصادق حماني، «البصائر»، عدد 27، (ص2 وَ7)] [«الشَّيخ مبارك الميلي: حياته العلمية ونضاله الوطني» لمحمد المِيلِي (ص345-346 و350)]
أَلمعيَّة ونَجابَة:
في مراحل طلب العلم؛ النِّهائي: قال صديقه الشَّيخ عبد الحفيظ الجنَّان: «أَذكرُ -حينما زُرتُهُ بتونس عام 1923، أيام دراسته- نادرةً طريفةً؛ وهي أنه كان يَمُرُّ بنظره على أوراق دروسه ثم يطويها في المحفظة ولا يحملها وقت الدرس، وبعد الفراغ من الدروس يُوَجِّهُ أسئلةً غريبةً على أساتذته فيُكْبِرُونَهَا، ويَندهِشُ لها الحاضرون. فهذا دليلٌ على قُوَّةِ ذاكِرتِهِ» اهـ [«البصائر»، عدد 27، (ص 7)]
قال تلميذه الشَّيخ محمد الصالح بن عتيق المِيلِي:
«واستمَرَّ يَلمَعُ نَجمُه في أوساط الطلبة، إلى أن شارك في امتحان شهادة التَّطوِيع، فحصل عليها سنة 1925م بِتَفَوُّق، وتقدير مِن لجنة الاِمتحان، حتَّى إنَّهُ لمَّا انتهى من إلقاء الدرس أمامها، قال له شيخ الإسلام «أحمد بيرم»؛ الَّذي كان ضمن اللَّجنة: «أنتَ مُبَارَكٌ علينا، وعلى أُمَّتِك ووَطَنِك» » اهـ [«مذكرات محمد الصالح بن عتيق»، (ص50)]
مَلَكَةٌ راسِخَةٌ في الفُنُون:
قال تلميذُهُ في مدرسة «مِيلَة»: الأستاذ أحمد الغوالمي:
«كان يُمْلِي بالاِرتجال في النَّحو والصَّرف والفقه ومخارج الحروف والمَنطِق وشرح قصيدة السَّمَوْأَل، فتَعجَّبنا! وظنَّ البعض منَّا أنَّه يحفظ ويأتِي، فإذا بنا نراهُ تمادَى على ذلك، ففهمنا أنَّ الرجل أُعجوبةُ زمانه ذكاءً... وذُو ملَكةٍ راسخةٍ في جميع الفُنُون» اهـ [«البصائر»، عدد 27، (ص8)]
المطبعة الجزائريَّة الإسلاميَّة:
ذكرَ تلميذُهُ الشَّيخ أحمد بن أبي زيد قصيبة: أنَّ مشروع المطبعة الجزائريَّة الإسلاميَّة التي تأسَّست بقسنطينة في شهر أفريل مِن سنة 1925م، هُوَ: «مِن بَنَاتِ فِكْرِهِ، وأنَّهُ كانَ مِن الحاملينَ للأستاذ عبد الحميد ابن باديس على تأسيسِهَا» اهـ [«البصائر»، السلسلة الثانية، عدد 26، (ص8)].
وقد صرَّح بنحوٍ مِن ذلك الشَّيخُ عبد الحفيظ الجناَّن؛ حيثُ ذكرَ: أنَّهُ بعد تحصيله على شهادة التطويع من تونس، رجع إلى قسنطينة حاملاً معه مسودة قانون أساسي؛ لِيَحُثَّ الطُّلَّاب وأهل العلم على إنشاء مطبعة كبرى، تطبع المخطوطات وتنشر الجرائد والمجلات؛ لتَحيَى أمتُهُ حياة عمليَّة لا نظريَّة.اهـ[«البصائر»، السلسلة الثانية، عدد 27، (ص7)]
عَادَةُ التَّدخِين وَالإِقلاعُ عنها:
قال سنة (1936م) -فيما رواه ولدُه الأستاذ محمد المِيلِي : «تَعلَّمتُ التدخين عندما كُنتُ طالبًا في تونس، ولما تخرجتُ وذهبتُ إلى قسنطينة، لم أنقطع عن التدخين، كانت مدينة كبيرة، لا يلتفت فيها الناس، لمن يدخن أو لا يدخن، حتى إذا ذهبتُ إلى الأغواط، جلستُ ثاني يوم وصولي، مع مجموعة من رجالها في متجر ثري من أثريائها هو الحاج دْهِينَة. سحبتُ سيجارةً مِن علبة في جيبي، وأشعلتُها، بدَت الدهشة على الحاضرين، ثم قال لي أحدهم: إن التدخين يُعتبر عَيْبًا في نظر السكان، فكيف إذا كان من يُدَخِّنُ عالِمًا دينيًّا! وإذا كان لا بد من التدخين، فلتفعل ذلك عندما تكون في المنزل، أو في مكان لا يراك فيه الناس. ثم قال الشَّيخ مبارك لمَّا روى القصة:
قلتُ: إذا كان عَلَيَّ أن لَا أُدَخِّنَ أمام الناس، فلن أُدَخِّن خفيةً؛ لأنَّ ذلكَ يُعَدُّ في نظري: نِفَاقًا!... وأَردفَ: قرَّرتُ حينئذٍ أن أتوقَّفَ عن التَّدخين. وقد وجدتُ عناءً شديدًا في ذلك. لَكِن صَمَدتُ. وها هيَ السنة التاسعة التي أقلعتُ فيها عن التَّدخين، ولم تَعُد نفسي تَهْفُو إلى السجائر» اهـ [«الشَّيخ مبارك الميلي: حياته العلمية ونضاله الوطني» لمحمد المِيلِي (ص76-78)]
عِفَّةُ شَابٍّ:
لمَّا سافر للعلاج بفرنسا، كتب على كراسة صغيرة كان يُسَجِّل فيها خواطره، كتب في إحدى ورقاتها، تحت عنوان: «لَوْعَة الشَّوق» ما يلي حرفيًّا:
«لَا أَعْلَمُ للشَّوْق سُلطانًا على عواطفِي عَجزَت عن تخفيف وطأتِهِ قُوَّتِي الفِكريَّة إلَّا مرتين:
ـ إحداهما: وأنا شابٌّ؛ علق قلبي فتاة، علقتني هِيَ الأخرى. وكانت حربٌ بين عقلي وهوَايَ. فاز فيها الهَوَى بالحُبِّ العُذريِّ، وفازَ فيها العَقلُ بِالعِفَّة، مع وُجُودِ دَوَاعِي الفاحشَة وفَقْدِ مَوَانِعِها.
رِقَّةُ أَبٍ:
قال:
ثانيتهما: في سفرتي هاته إلى فرنسا لعلاج داء السُّكَّرِي التي دامت من 2/3/1357هـ إلى 29/5/1357هـ= الموافق: 28/5/1938م إلى 27/7/1938م. فقد كنتُ أُريد أن أنسى كلَّ علاقاتي الشخصيَّة والفكريَّة أيَّام علاجي، ففُزتُ إلَّا من ناحية ولدي البِكر «محمَّد»، فقد كُنتُ أَهْتَاجُ لِذِكْرَاهُ حتَّى تَكاد تَنفَلِتُ دُمُوعِي أمام النَّاس، ولولاه لكان غيابي أطوَل» اهـ [«الشَّيخ مبارك الميلي: حياته العلمية ونضاله الوطني» لمحمد الميلي (ص160)]
دَعْوَةٌ وَتَأثيرٌ:
في سنة 1936م، كان الشَّيخ مبارك يُرغِّبُ سُكَّانَ «مِيلَة» في البذل ومَدِّ يد المساعدة لإِبراز مشروع بناء مسجد جامع ومدرسة، فاشتروا أوَّلًا دارًا بِـ: 40 ألفًا [«البصائر»، عدد(7)]، قالت التقارير الفرنسيَّة: «عندما أطلقَ الشَّيخ مبارك فكرةَ بناء مدرسة، لقيت هذه إقبالًا حماسيًّا منقطِع النَّظير، بعضُهم باعَ أرضَهُ ليتبرَّعَ بثمنِهَا، وهناك من تبرَّعَ بالمصوغ، وهناكَ من تبرَّع ببَرَانِيسِهِ، وما لبث أن جمع الشَّيخ مبارك 40 ألف فرنك، اشترى بها منزلًا، حوَّلهُ إلى مدرسة»[«ذكريات زمان البراءة» لمحمد المِيلِي، (ص197)]
وقال الشَّيخ أحمد بن أبي زيد قصيبة: «جَعلَهم المِيلي يُهِينُون المال في طلب المعالي يبذله رجالُهم عن طواعية ويتبرع نساؤُهم عن طِيبِ خاطر بأنفس ما يملِكن مِن حُلِيٍّ ومَصُوغ!» [«البصائر»، السلسلة الثانية، عدد 26، (ص8)]
ونشرت «جمعية حياة الشَّباب» بمِيلَة عام 1936م قائمة المتبرعين لتأثيث مدرستها، وكان منهم: الشَّيخ مبارك المِيلِي، تبرع بِـ: 500 فرنك. [«البصائر»، عدد 7]
تَبَرُّعٌ وَإِحْسَان:
وشرعَ الشَّيخ مبارك بعدُ في بناء المسجد الجامع، يقول الأستاذ محمد المِيلِي – ولدُ الشَّيخ-: «أمَّا المسجد فقد بَنَاهُ فوقَ أَرضٍ اشتراها الشَّيخ مبارك مِن خالِص مالِهِ، مساحتها أربعة آلاف متر مربَّع، شيَّدَ منها منزلًا له، واقتطع منها جزءً جعله بستانًا له، وتبرَّعَ بالباقي (وهو الجزء الأكبر) لِيُبنَى عليهِ المسجِد الجامع» اهـ [«ذكريات زمان البراءة» لمحمد المِيلِي، (ص57 و198)]
حتَّى حَرَم الشَّيخ مُبَارك ونِساءُ «مِيلَة»!:
في سنة 1937م، نشرت «البصائر» قائمة «التَّبرُّعات لِتَشيِيد جامع «مِيلة» الحُرِّ ومدرستها الحُرَّة»، وقدَّمت القائمة الخاصة بالنِّساء، ومِنهُنَّ: «حَرَم الشَّيخ مبارك المِيلِي=(تَبرَّعت بِـ:) مْسَايَسْ» [«البصائر»، السلسلة الأولى، عدد (79)، و(80)]
قال الشَّيخ أحمد حماني المِيلِي في «حديث المتجوِّل» عن زيارته إلى «مِيلة»: «وهل نسي القُرَّاء ما قام به نساءُ «مِيلَة» مِن التَّبرُّعات للجامع؟ ولقد حُدِّثتُ أنَّ أكثر أولئك النِّسوة الكرائم كُنَّ يَتبرَّعن وهُنَّ لَا يملكن أكثر ممَّا تبرَّعن به من الحُلِيِّ، وهذا مُنتهى الكرَم والتضحية، ولقد أَحيَيْنَ بذلك سُنَّة صدر الإسلام عندما كانت النِّسوة يُشاركن في كل حركة مفيدة ويتبرَّعن بحُلِيِّهن للأعمال الجليلة» [«البصائر»، السلسلة الأولى، عدد (107)]
إِرَادَةٌ وجِدِّيَّةٌ في العَمَل:
قال تلميذُه الشَّيخ أحمد بن أبي زيد قصيبة: «كان لا يتخلَّفُ عن حضور الاجتماعات العامة والإداريَّة للجمعيَّة التي كانت تُعقَد غالبًا بالعاصمة، وكثيرًا ما يُسافرُ وهو في منتهى الضعف؛ مضطجِعًا؛ لعجزِهِ عن الجلوس طويلًا!» [«البصائر»، السلسلة الثانية، عدد 26، (ص8)]
تَعَفُّفٌ وَإِبَاء:
اشتدَّ المرض على الشَّيخ مبارك في سنة 1936م، بعد جولةٍ كلَّفَتهُ بها جمعية العلماء، فطلب بعضُ رجال الجمعية أن تُعِين الجمعيةُ الشَّيخَ مبارك على العلاج، وَتَمَّت الموافقة على ذلك بِقرار، لم يعلم الشَّيخ مبارك بذلك الطَّلَب ولا بالقرار، إلَّا بعد حينٍ، فلمَّا علم أنكرَ ذلكَ، وردَّ الإعانةَ ولم يَقبلها، ولَامَ إخوانَه الذين لم يستشيروه في عرض هذه الإعانة، فاعتذروا له بأنَّهم يَعلمون انقباضه من ذلك، وأنَّهم يَنْوُون أن يُنفقوها عليهِ من غير أن يُعلِموهُ. وهكذا لم يَقبض الشَّيخ إعانةً على مرضِهِ مِن الجمعيَّة. [«البصائر»، عدد (114)]
ومَرَّةً أُخْرَى... تَبَرُّعٌ وإِحْسَان:
نشرت «البصائر» في شهر سبتمبر 1937م؛ القائمة الثالثة لِـ «التبرُّعات لِتَشييد جامع مِيلَة الحُر ومدرستها الحُرَّة»، فجاء ذكر اسم: الشَّيخ مبارك المِيلِي؛ تبرَّع بِـ: 520 فرنك. [«البصائر»، عدد (81)، (ص3)]
ومرةً ثالثة...:
نشرت «البصائر» في شهر سبتمبر 1938م؛ القائمة السادسة لتبرعات لتَشيِيد جامع مِيلَة الحر؛ بعد تمام المدرسة؛ فكان مرَّةً أُخرى اسمُ الشَّيخ مبارك المِيلِي؛ مُتبرِّعًا بِـ: 50 فرنك. [«البصائر»، عدد 133، (ص8)]
إِدَارة جريدة البصائر:
حصَّلت جمعية العلماء –ديسمبر 1935م/ أَوَّل 1936م- على الرُّخصة والإِذن بإصدار صحيفة تُمثِّلُها وتكونُ لسان حالها، فكانت «البصائر»، واختِير لإِدارتها ورُشِّح لذلك أَوَّلاً الشَّيخ مبارك المِيلي، فأبَى عليهم وامتنع مِن القبول، واعتذرَ لِعظمِ المسؤولية وثِقَل الحِمل وَجلالة العَرض، فوقع الاِختيارُ بعدُ على الشَّيخ الطيِّب العُقبي، فأدارَها مُدَّةً، ولمَّا رأى هذا الأَخير أنَّهُ صارَ يتحمَّلُ ما لا يُحتَمَل، وأنَّهُ لا يَقدرُ على الاِستمرار، قرَّرَ التَّخلِّي عنها، وأعطى إدارة الجمعية مُهْلَةً أَخيرةً؛ «إلى آخر هذا الشَّهر فقط!»[«البصائر»، عدد 81، (ص6)]، فرأى الجماعةُ أن يكون الشَّيخُ مبارك المِيلِي هُو الذي يتولَّى إدارة الصَّحيفة، فاعتذرَ اعتذارَهُ في المرَّة الأولى، وعُذرهُ هذه المرَّة أَقوى، فقد اشتدَّ عليهِ مَرضُ السُّكَّري، لكنَّهُم هذه المرَّة لم يَتركُوا لهُ الاِختيار ودَفَعُوهُ إليها دفعًا، ولم يَقبلَ «إلَّا مُكْرَهًا إِكْرَاهًا أَدَبِيًّا»، كما قال، وقال أيضًا: «فتقدَّمتُ إلى العمل وأَنَا أُرَدِّدُ قَولَهم في المَثَل: «مُكْرَهٌ أَخَاكَ لَا بَطَل»». وَتَسَلَّمَ إدارتها-ابتداءً مِن عدد 84- وهِي مَدينةٌ بأكثر مِن عشرين ألف فرنك. [«البصائر»، عدد 84، (ص1-2)، وَعدد 156، (ص2)]
قال تلميذه الشَّيخ أحمد بن أبي زيد قصيبة الأغواطي: «أُسندت إليه إدارة «البصائر» في سنة 1937م بقرار من المجلس الإداري لجمعية العلماء؛ فقام بواجبه خير قيام رغم متاعب الصحافة وتكاليفها ورغم المرض المُزْمِن المُضْنِي الذي أنهك قواه ونغَّص عليه حياته... كان يذهبُ مِن مِيلَة إلى قسنطينة كل أسبوع للإشراف على إصدار «البصائر»» اهـ [«البصائر»، السلسلة الثانية، عدد 26، (ص8)]
خِبْرَة بالمطبوعات:
تكلَّم الشَّيخ مبارك (سنة 1937م) عن كتاب «آثار المدينة المنورة» لمؤلفه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري، وتعجَّبَ كيفَ أن الكتاب طبع منذ سنوات، وأنه لم يسمع به، حتى أهداه إليه مُؤلِّفُه، قال: «هذا مع خِبرتنا بكثير مِن تآليف مصر قبل بروزها مِن المطبعة!» [«البصائر»، عدد 80، (ص7)]
مُباركٌ الكاتِب وفِقهُ اللُّغة:
يقول الأستاذ الأديب حمزة بوكوشة: «تدلُّ آثاره [الكتابية] على صدق التصوير والبلاغة في التحرير، ولقد سمعتُ مِن أستاذنا الشَّيخ محمد البشير الإبراهيمي أن علماء الجزائر وأدباءها، لا يلتزمون بالمحافظة على استعمال فقه اللغة فيما يكتبون، وحتى الأستاذ عبد الحميد بن باديس قد يتسامح أحيانًا، إلَّا الشَّيخ المبارك المِيلِي؛ فإنِّي تتبَّعتُهُ فوجدتُه مُحافظًا على فقه اللغة فيما يكتبه. وهذه شهادةٌ من إمام من أئمة اللغة، ألا وهو محمد البشير الإبراهيمي، ولا ينبئكُ مثلُ خبير» اهـ [«الشخصيات الجزائرية في القديم والحديث: مقالات الأستاذ حمزة بوكوشة»، ص357-358)]
مُبارَك؛ الشَّاعِر المَجهول:
في وفد جمعية العلماء بِوادي سُوف ونواحيها، يقول الشَّيخ حمزة الذي صاحَبَ الوفد مِن بسكرة، وسار معهم صباح الأربعاء [شوال 1356هـ= ديسمبر 1937م] على سيارة خاصة؛ قال: «فسارت بنا وانسابت في الرعاء انسياب أفعوان الحق الذي يفر الباطل مِن فحيحه، وأصبح لنا الشَّيخ المبارك المِيلِي شاعرًا مُبدِعًا بعدما كنا نظنُّهُ ناثِرًا فحسب، فعندما وصلنا رمال وادي سُوف والسيارة تَمِيل بنا يمنةً ويسرةً؛ كسفينةٍ في الأمواج المتلاطمة، قال الشَّيخ حفظه الله: رِمَالَ الوَاد يَا خَيْرَ الرِّمَال/وَيَا حِصْنَ العُرُوبَةِ فِي النِّزَال...» [«البصائر»، عدد 93، (ص3)]
سَيِّداتِي!! سَادَتِي!:
قال الشَّيخ مبارك عن استماعه للإذاعة العراقيَّة، وبعد أن ذكرَ إعجابَه بالمذيع العراقي: «... ومع ذلك نوَدُّ لو يُجرِّد لُغَتَهُ مِن غير لُغة قومِهِ؛ فلَا يُقَدِّم السَّيِّدات على السَّادَة!» [«البصائر»، السلسلة الأولى، عدد (155)]
إنِّي أكره التواضع القاتل للطموح:
في حفلة تدشين «مدرسة حياة الشَّباب» بمِيلَة عام 1937م، خطب جملة من الخطباء قدمهم الشَّيخُ مبارك واحدًا واحدًا، وبعد أن قدَّم الشَّيخ عبد الحفيظ الجنان، نَكَّتَ الخطيب على الشَّيخ المِيلِي تقديمه، وقال: أنا لا أستحق منك أيها الأستاذ هذا الثناء، وأراد أن يزيد في تواضعه، فأجابه المِيلِي بِـ[قوله]: «إنِّي أَكرَهُ التواضع القاتِل للطُّموح، كما أكره الغُرور الدَّاعِي للشُّرور» اهـ [«البصائر»، عدد 95]
لاَ شُكْرَ على وَاجِب!:
في حفلة تدشين «مدرسة حياة الشَّباب» بمِيلَة، 2 شوال 1356هـ= 5 ديسمبر 1937م، يقول الشَّيخ عبد الحفيظ الجنان في مكاتبته: «ألقى المبارك في النادي الإسلامي خطاب الترحيب بالوافدين، وقدَّم الخطباء، وبعدما خطب الشَّيخ أبو صالح مِن «شَاطُودَانْ» [شلغوم العِيد حاليًّا]، خطب الشَّيخ عبد اللطيف القنطري (سُلطاني) مِن «القرارم» بعد أن عرَّف به الشَّيخ المِيلِي.. وقال: بعد الحمد لله والصلاة على من لا نبي بعده: تحية يا أهل مِيلَة على قيامكم بالمدرسة، وشُكْرًا لكم، ولو كان الشُّكرُ لَا يكون على واجب. فأوقفه المِيلِي وقال: «بل إنَّمَا الشُّكرُ الحَقُّ على فِعْلِ الواجِب، وانظُر إلى ثواب اللهِ كيف يُضاعَف في الواجبات»- مِن حِدَّةِ نَظَرِ المِيلِي ونكاته الأدبية الَّتِي لَا يَخلُو مَجلسُهُ مِنهَا-اهـ[«البصائر»، عدد 94، (ص5)]
العِلْمُ لا وَطنَ لهُ:
انتقل الشَّيخ مبارك المِيلِي إلى الأغواط - سنة 1926م-؛ تلبيةً لدعوةٍ مِن أحد الكبراء، وهذا بعدما أقام بقسنطينة نحوَ سنةٍ معلِّمًا في مكتب الدروس العربية «مكتب سيدي بومعزة» (1925م-1926م)، وقد غادرهُ حيثُ لم يكن يتوقَّعُ لهُ النَّجاح. نعم، قبِلَ الشَّيخ مبارك دعوةَ الأغواطيِّين؛ لأنَّهُ – كما قال الشَّيخ أحمد بوشمال سنة 1927م-: «لَا وَطَنَ خاصًّا للعِلم؛ فحَيثُمَا وجدَ العالِم تُربةً طَيِّبَةً لِبَذْرِهِ أَقْبَلَ عليها»[«الشِّهاب»، عدد 85، (ص15)]، وَهِيَ الكلمة نفسُها التي قالها الشَّيخ مبارك الذي رجع بعد سنين إلى بلده «مِيلَة»، يُدير مدرستها «مدرسة حياة الشَّباب»، وزار المدرسةَ في أحد احتفالاتها تلميذُه القديم بمدرسة الأغواط -الشَّيخ أبو بكر بن بلقاسم الأغواطي-، فقدَّمَهُ بقولهِ: إنَّهُ رجع بشهادة التحصيل مِن تونس إلى بلدته الأغواط، وطلب رُخصة التعليم، فلم تأذن له الحكومة، فجاءتهُ الدَّعوةُ مِن قسنطينة فلبَّاهَا، فكان مِن أساتذة مدرسة جمعية التربية والتعليم القسنطينيَّة، قال: «وَالعِلْمُ لَا وَطَنَ لَهُ». كان ذلك في شهر ديسمبر مِن سنة 1937م. [«البصائر»، عدد 95]
لا أَكتُبُ كِتابةَ الجرائد!:
قال الشَّيخ أحمد حماني المِيلِي: «سألتُهُ ذاتَ يومٍ: لماذا لم تُتِمَّ التَّاريخ؟ فاعتذر بالمرض، وبِكثرة الأشغال، وبِجهلِهِ اللغة الفرنسيَّة. فقلتُ: ولماذا لا تفعل كما فعلَ (فلان)؟ فأجابَ: إِنَّني لا أكتبُ كتابةَ الجرائد!» [كتاب «الشَّيخ الصادق بن رابح حماني»، لأحمد حماني (ص39)]
وَقال في موضعٍ آخر: سألتُهُ عام 1938م عن سبب تأخُّرِهِ في إِتمام مُهمَّتِهِ، فذكرَ لي هذه الأَعذار الثلاثة. فقلتُ: ما بَالُ (بعضهم) قد كتب في نفس الموضوع وأَتَمَّ عملَه؟ فأجاب: أنا لا أَكتُبُ كتابةَ صُحُفِيٍّ! [«صراع بين السُّنَّة والبِدعَة» لأحمد حماني (2/18)]
تَهَجُّدٌ وعبادةٌ مِن اللَّيل:
كان مِن عادتِهِ أن يقوم قبل الفجر، بِسَاعاتٍ، ويتهجَّد في المنزل. وعندما يَحِينُ وقت صلاة الصبح يتحوَّل إلى المسجد. وبعد أداء صلاة الصبح في المسجد يَرجع إلى غُرفته لِيَنام تعويضًا، إلى بعد طلوع الشمس. [«الشَّيخ مبارك الميلي: حياته العلمية ونضاله الوطني» لمحمد المِيلِي (ص86 وَ89 وَ90)]
تِلميذٌ مفجوعٌ بأُستاذِهِ:
يقول الأستاذ محمد المِيلِي: اطلعتُ على رسالة وجَّهها إلى الشَّيخ البشير الإبراهيمي، وكان هذا الأخير طلب منه أن يصف له يوم جنازة الأستاذ الشَّيخ ابن باديس- يقولُ لهُ فيها على ما أذكر معناه: «عندما سمِعتُ لَدَى وُصُولِي إلى قسنطينة بِمَوتِهِ، شَعَرتُ أَنَّ الدَّورَةَ الدَّمَويَّةَ أَصبَحت تَسِيرُ في عكس الاِتِّجاه المعهود. وعَرَفتُ في الحِينِ أَنَّ دَاءَ السُّكَّرِي، قَد عَاوَدَنِي، وإنَّهُ لَن يُفارِقَنِي حتَّى يَقضِيَ عَلَيَّ»اهـ [«الشَّيخ مبارك الميلي حياته العلمية ونضاله الوطني»، (ص109)]
ويقول الأستاذ أحمد حماني المِيلِي: «لَمَّا تُوفِّيَ الشَّيخ ابن باديس -في 16 أبريل 1940م- كان وَقْعُ ذلك عليهِ أليمًا، وأُغمِيَ عليهِ بقرب جثمانِهِ، غير أنه استعادَ وَعْيَهُ وملكَ صبرَه وإيمانَهُ» [«صراع بين السنة والبدعة» (2/16)]
ويقول الأستاذ محمد الصالح بن عتيق المِيلِي: «انتهى موكب الجنازة إلى المقبرة الخاصة بالعائلة، ووضع الجثمان وتقدَّم العلَّامة مبارك المِيلِي وصَلَّى عليهِ، وأَبَّنَهُ بِكلماتٍ مُؤثِّرَة، جاء فيها يُخاطبُ الرَّاحِل: «نَمْ هنيئًا مطمئنًّا، فما غرستَهُ سيَنمُو ويُثمِر، فقد تركتَ بعدكَ رجالًا وإخوانًا، وتلاميذ يُجدِّدون لك العهدَ اليوم بأنهم سيُواصلون الكفاح ويستمرُّون في السَّير على النهج الذي تركتَهُم عليهِ، مُستمدِّينَ مِن الله العَون، ومِن روحكَ الطاهرة الدليلَ والمُرشِد... »»اهـ[«مذكرات محمد الصالح بن عتيق»، (ص100-101)]
قَدْ طَالَ علَيَّ ذلك الدَّاء!:
قالَ الشَّيخ مبارك المِيلِي في رسالةٍ بتاريخ 29 محرم 1364هـ=13 جانفي 1945م؛ بعثَ بها إلى الشَّيخ محمَّد خير الدِّين يتحدَّثُ فيها عن شؤون الجمعيَّة وخدمة الصَّالح العام، وذلك بأقلَّ من عشرين يومًا قبل وفاته، خاتِمًا رسالتَه بقولهِ:
«...قد طالَ علَيَّ ذلك الدَّاء، وأنا لَستُ صابرًا فقط، بل إِنِّي أَحمدُ اللهَ على أن وفَّقني إلى الرِّضَا بِقضائِه، وإِنِّي - علِمَ اللهُ - لَا آسَفُ على راحَةٍ عَزَّت، ولا على لَذَّةٍ فُقِدَت، وإِنَّما آسَفُ على خدَماتٍ للدِّينِ والعُروبةِ عُطِّلَت، وأَسأَلُ اللهَ أَن يَجعلَنَا مِمَّن يُثَابُونَ على العَمَل وَالنِّيَّة، لَا مِمَّن يُثَابُونَ على النِّيَّةِ وَحدَها... » اهـ [كتيِّب «الشَّيخ أحمد بن أبي زيد قصيبة: صُور من نشاطه خدمةً للإسلام والعربية والجزائر»، إعداد: ابن عمر بن أبي زيد قصيبة، (ص29)]
سَامِحْنِي!:
قال الشَّيخ أحمد حماني المِيلِي: «في يوم 8 فبراير 1945م، دخلتُ إلى مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة، فوجدت الدكتور ابن الموفق نازلًا في درجه، ووجهُه مُكفَهِرٌّ، ويكاد دَمْعُهُ يَسيل، فصعدت مُسرِعًا، ولقيت الأخ محمَّد صالح بن معنصر، فبادرتُهُ بالسؤال: ما الخبر؟ فقال: إنَّ الشَّيخ مبارك في خطَر! ففزعتُ ودخلتُ الإدارة حيثُ يُوجد، فوجدتُهُ مُلقًى على جنبِهِ لا يَكادُ يتحرَّك، فاقتربتُ منهُ، وسلَّمتُ عليه، فنَظرَ إِلَيَّ ومَدَّ نَحْوِي يَدَهُ بِضَعْفٍ، وَقال: سَامِحْنِي!. وكانت آخرَ كلمةٍ سمعتُها مِنهُ، فإنَّهُ أُخِذَ إلى «مِيلَة»، ودخل في غيبُوبةٍ، ومِن الغد يوم 9 فبراير، تَلقَّيتُ مكالمةً من إدارة البريد بقسنطينة من الأستاذ محمود دمق – الذي كان عاملاً بِها – فأخبرني أنَّهُ مرَّ عليهِ تليغراف يُخبر بوفاة الشَّيخ مبارَك» اهـ [«صراع بين السُّنَّة والبِدعَة» لأحمد حماني (2/17-18)]