قصة مبارك الميلي

قصة مبارك الميلي

بقلم: د. نور الدين لبجيري-

مبارك بن محمد إبراهيمي المكنى بالميلي مصلح ومؤرخ جزائري يوصف بأنه مفكر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولد حوالي 1896م (قيل 1897 وقيل 1898) بدوار أولاد مبارك التابع حاليا لدائرة السطارة بالقرب من دائرة الميلية التي ينسب إليها (مبارك الميلي) التي تقع شرق ولاية جيجل، من أسرة عريقة ذات وجاهة فقد كان عمه قائد الدوار، كما أن وضعها المادي كان مريحا فقد كانت تملك أراض فلاحية وثروات حيوانية الذي هو رمز الثراء في ذلك الوقت.

توفي والده محمد وعمره اربع سنوات فكفله جده رابح وأدخله الكتاتيب القرآنية وفيها تعلم مبادئ الكتابة وحفظ القرآن الكريم وأعاد ختمه عدة مرات، وقد كانت أمنية جده إدخاله إحدى زوايا المنطقة لاكمال دراسته، لكن الوفاة سبقته قبل تحقيق أمنيته، فتكفل به عمه الأكبر، الذي كان قاسيا عليه ورفض طلبه بإدخاله إحدى المدارس التعليمية، فقرر السفر سرا إلى زاوية الحسين التي تبعد 27 كم عن دوار أولاد مبارك فعلم به عمه فأرجعه بالقوة، ثم ما لبث أن خطط للالتحاق بزاوية الشيخ بن معنصر بميلة مستغلا يوما شديد البرودة قد غطى فيه الثلج المنطقة وقد كان عمره إذ ذاك حوالي 15 سنة، وبقي فيه حوالي 6 سنوات يتعلم علوم الدين، وفي سنة 1918 ارسله الشيخ بن معنصر إلى الجامع الأخضر بقسنطينة لاستكمال طلب العلم على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس، ثم أرسله الشيخ ابن باديس سنتين إلى جامع الزيتونة، مع بعثة من الطلبة، فدرس بها أربع سنوات على يد علماء وأدباء كبار مثل الشيخ الطاهر بن عاشور (أديب ومفسر) والشيخ محمد النخلي القيرواني (مفسر) الشيخ بشير صفي (مؤرخ)، وقد كان الأول في دفعته،  وكان مثار إعجاب واحترام شيوخه وزملائه إذ يقول عنه صديقه عبد الحفيظ الجناح :وأذكر حينما زرته بتونس عام 1923م أيام دراسته، نادرة طريفة، وهي أنه يمر بنظرة على أوراق دروسه ثم يطويها في المحفظة، ولا يحملها وقت الدرس وبعد الفراغ من الدروس يوجه أسئلة غريبة على أساتذته، فيكبرونه ويندهش لها الحاضرون.

شارك الشيخ ابن باديس وبقية العلماء النشاط الاصلاحي وكان عضوا مؤسسا لجمعية العلماء، وعضوا في مجلسها الإداري، وأمين ماليتها، ورئيس تحرير جريدة البصائر، وبعد وفاة الشيخ ابن باديس وانتخاب الشيخ البشير الابراهيمي رئيسا لجمعية العلماء تم انتخاب مبارك الميلي نائبا له، كما ساهم في تأسيس عدد من مدارس جمعية العلماء وفي التدريس بها.

ثم إن الوظائف التي كانت تعهد إليه في جمعية العلماء كانت من أضخم الوظائف، وأكثرها حاجة إلى رجال أكفاء ذوو قوة وأمانة مثل وظيفة أمين مالية، ورئيس تحرير مجلة البصائر لسان حال الجمعية.

يشير الدكتور عمار بوحوش إلى جانب من هذه المكانة قائلا :<<..واستعان عبد الحميد ابن باديس بالشيخ مبارك الميلي 1897-1945 الذي يعتبر بمثابة المفكر لجمعية العلماء، والذي تم تعيينه أمين مال جمعية العلماء، عند إنشائها يوم 05 ماي 1931م، وبالإضافة إلى مساهمته الكبيرة في إنشاء مدرسة بالعربية في الأغواط، والتدريس بها من 1927 الى 1933م، فان الشيخ مبارك قد قام بنشر كتابه المشهور ''تاريخ الجزائر في الحاضر والماضي ''سنة 1929م وتصدى فيه للفرنسيين الذين كانوا يقولون أن الحضارة الرومانية قد أثرت في الجزائر وأن الإسلام جاء بالدين فقط ولم يأتي بأية حضارة، وكان لكتابه الذي نشر الجزء الأول منه سنة 1929م والجزء الثاني سنة 1932م، أثر كبير في نفوس الجزائريين الذين أقبلو على قراءته بشغف كبير .>>.

وقد داع صيته في الأوساط العلمية خارج الجزائر، فقد كان الوحيد من الجزائريين الذين استشارتهم مجلة الرابطة العربية عن رأيه في امكان إنشاء إمبراطورية عربية.

كما أن بعض كتبه ظلت تدرس في مناطق عدة من العالم الإسلامي، مثل كتابه الشرك ومظاهره، الذي كان ضمن برامج التدريس في معاهد العلوم الاسلامية بالسعودية.

وقد أعدت مجلة جمعية العلماء _البصائر بعد ثلاث سنوات من وفاته ملفا كاملا عن الشيخ مبارك كتب فيه كبار العلماء والأدباء والمؤرخين والشعراء، ومما جاء في مقال العلامة محمد البشير الإبراهيمي: <<حياة كلها جد وعمل، وحي كله فكر وعلم، وعمر كله درس و تحصيل، وشباب كله تلق وإستفادة، وكهولة كلها إنتاج وإفادة، ونفس كلها ضمير وواجب، وروح كلها ذكاء، وعقل كله رأي وبصيرة، وبصيرة كلها نور وإشراق، ومجموعة خلال سديدة، وأعمال مفيدة، قلّ أن اجتمعت في رجل من رجال النهضات، فإذا اجتمعت هيأت لصاحبها مكانة من قيادة الجيل، ومهدت له مقعده من زعامة النهضة.

ذلكم هو مبارك الميلي الذي فقدته الجزائر من ثلاث سنين، ففقدت بفقده مؤرخها الحريص على تجلية تاريخها المغمور، وإنارة جوانبه المظلمة، ووصل عراه المنفصمة، وفقدته المحافل الإصلاحية ففقدت منه عالما بالسلفية الحقة عاملا بها، صحيح الإدراك لفقه الكتاب والسنة، واسع الاطلاع على النصوص والفهوم، دقيق الفهم لها والتمييز بينها والتطبيق لكلياتها، وفقدته دواوين الكتابة، ففقدت كاتبا فحل الأسلوب، جزل العبارة لبقا بتوزيع الألفاظ على المعاني، طبقة ممتازة في دقة التصوير والإحاطة بالأطراف وضبط الموضوع والملك لعنانه، وفقدته مجالس النظر والرأي ففقدت مدرها لا يبارى في سوق الحجة، وحضور البديهة، وسداد الرمية والصلابة في الحق والوقوف عند حدوده، وفقدته جمعية العلماء ففقدت ركنا باذخا من أركانها، لا كلا ولا وكلا، بل نهاضا بالعبء مضطلعا بما حمل من واجب، لا تؤتى الجمعية من الثغر الذي تكل إليه سده، ولا تخشى الخصم الذي تسند إليه مراسه، وفقدت بفقده علما كانت تستضيء برأيه في المشكلات فلا يرى الرأي إلا جاء مثل فلق الصبح...>>. 

آثاره العلمية:

أولا: كتبه

-تاريخ الجزائر في القديم والحديث: وهو أول كتاب يؤلفه جزائري باللغة العربية في العصر الحديث، يقول أبو القاسم سعد الله:<<فان ظهور مبارك الميلي كأول مؤرخ جزائري حديث لم يكن محل استغراب، والميلي قد حاول أن يعيد كتابة تاريخ الجزائر على أساس وطني >>.

هذا الكتاب ظهر في جزأين، وأصله من ثلاثة أجزاء، لم يكتمل الجزء الثالث منه.

كتب الجزء الأول –خصصه لتاريخ الجزائر في العهد القديم-، وقدمه للطبع سنة 1927، وتأخر طبعه إلى أواخر سنة 1928م .

أما الجزء الثاني –خصصه للمغرب الإسلامي-، فطبع سنة 1932م في شهر فيفري.

بينما الجزء الثالث والذي كان ينوي الشيخ مبارك تخصيصه للوجود العثماني بالجزائر فلم يكتمل، بحيث كتب منه عشرين صفحة، وصرفه عن إكماله مسؤولياته في الجمعية، ثم مرض السكري .

-رسالة الشرك ومظاهره: أصل الكتاب مقالات كتبها في جريدة البصائر، ابتدءا من العدد الخامس بتاريخ جانفي 1936م وتوقف عن كتابة هذه المقالات في العدد الخامس والأربعين الصادر بتاريخ 27 نوفمبر 1936م، تلبية لرغبة قراء البصائر في نشرها مستقلة في كتاب، حيث جاء في هذا العدد من محرر الجريدة ما يأتي:<<هذا آخر ما كتب من هذا المقال، قبل اجتماع جمعية العلماء، وقد علمنا بعد هذا الإجتماع وقبله أيضا، أن كثيرا من القراء، يرغبون في نشر هذا الموضوع في رسالة مستقلة، ولما تأكدنا من هذه الرغبة عرضناها على محرر الموضوع فأجاب بالقبول وأنه ما زالت لديه فصول منه أمسك عن نشرها وسيعود (متى أمكن) إلى نشر في هذا الموضوع بالتهذيب والتبويب ثم يقدم ذلك للطبع إن شاء الله.>>.

وفعلا تم هذا الأمر وقدم للطبع تحت عنوان :رسالة الشرك ومظاهره.

ونشير إلى أن هذه الرسالة اعتمدت كمادة تدرس بالمعاهد العليا بالجزائر قبل الاستقلال، كما تقرر تدريسها بثانوية "لوكارنو" بتونس، وتم نشرها وتوزيعها بكل من السعودية ومصر والأردن والسودان.

ثانيا: مقالاته

مقالاته التي نشرها بالصحف تعدت الخمسين مقالة منها مقالات شكلت عدة حلقات نذكر بعض عناوين مقالاته : العقل الجزائري في خطر، .الجمهورية ضد المملوكية، .هل نحن في بداية النهضة، .المصلحون والمرجفون، .حول مقال هذه جزائركم تحتضر، .العدالة بآثارها، .المؤتمر الإسلامي العام للخلافة، .الأدب الجزائري يبعث من مرقده، .إبن ملجم القرن العشرين، .حول ثرثرة الحافظي، .الاتحاد والاندماج، .تعليم المرأة الكتابة. .وغيرها من المقالات.

ومن المواقف التي تذكر للشيخ مبارك موقفه المناصر لتعليم البنت وقد كتب في ذلك دراسة بعنوان تعليم المرأة الكتابة، وكذلك موقفه من الاندماج في فرنسا فقال في ذلك  كلمة رفعت شعارا في ذلك الوقت: "سياسة الاندماج هي القبر الذي لا نشر بعده "

ساهم الشيخ مبارك في تأسيس نوادي وجمعيات خيرية، علمية، تربوية؛ حيث كان من مؤسسي النادي الإسلامي، الذي ترأسه محمد الهادي بن معنصر ابن الشيخ بن معنصر، كما كان من مؤسسي الجمعية الخيرية الأغواطية، التي كرست جهودها لإسعاف الفقراء واليتامى.

وكان من مؤسسي كذلك جمعية النادي الإسلامي سنة 1934م، وأيضا أسس وترأس الجمعية الدينية  الإسلامية الميلية سنة 1936م، وأسس أيضا في فيفري 1934م جمعية حياة الشباب التي ترأسها عمارة بن عميرة.

كذلك ساهم بالتدريس في مدارس جمعية العلماء، حيث انتقل إلى الأغواط بطلب من الإمام ابن باديس،للتدريس بمدرستها الجديدة، وذلك سنة 1927م، ونقلت الشهاب خبر انتقال الأستاذ مبارك إليها، في مقال بتوقيع الأستاذ أحمد بوشمال مما جاء فيه: "..فكان الأستاذ الشيخ مبارك هو الكفء لذلك، والرجل المستطيع للأخذ بزمام هذا المشروع والسير به في سبيل الحياة والتقدم "حيث استقبل استقبالا عظيما.

توفى رحمه الله تعالى متأثرا بمرض السكري، حيث يصف الشيخ أحمد حماني رحمه الله تعالى وهو من تلامذة الشيخ مبارك حادثة الوفاة: ''وفي يوم 8 فبراير 1945م دخلت إلى مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة، فوجدت الدكتور بن الموفق رحمه الله نازلا في درجها، ووجهه مكفهر، ويكاد دمعه يسيل، فصعدت مسرعا، ولقيت الأخ محمد صالح بن معنصر فبادرته بالسؤال: ما الخبر؟ فقال: إن الشيخ مبارك في خطر، ففزعت ودخلت الإدارة حيث يوجد فوجدته ملقى على جنبه يكاد لا يتحرك فاقتربت منه وسلمت عليه فنظر إلي ومد نحوي يده بضعف وقال: سامحني، وكانت آخر كلمة سمعتها منه فإنه أخذ إلى ميلة ودخل في غيبوبة، ومن الغد يوم 08 فبراير تلقيت مكالمة من إدارة البريد من قسنطينة من الأستاذ محمود دمق_ الذي كان عاملا بها_ فأخبرني أنه مرّ عليه تلغراف يخبر بوفاة الشيخ مبارك ..ثم بعد قليل رن جرس الهاتف فإذا بالذي يتكلم هو الكابتن''دو'' الضابط المدير للشؤون الإسلامية بالولاية يتساءل أحقا أن الشيخ مبارك مات؟ وشيعت جنازته من الغد بحضور آلاف عديدة وردو من سائر الجهات..''.

وتصف جريدة النجاح اليومية تشييع جنازته: ''قبيل زوال يوم الجمعة 09 فبراير 1945م بمقبرة ميلة سار إلى رحمة الله العلامة المؤرخ الأستاذ مبارك بن محمد ابراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين اثر مرض لازمه شهورا، وعن سن ناهزت 48 عاما، وما كان خبر نعيه ينشر في أكبر بلدان العمالة (الولاية) حتى هرعت لتشييع جنازته وفود كثيرة، وصلى على جثمانه بالجامع الشيخ العربي التبسي الذي أبنه وعدد محاسنه، وحسب نفس المصدر، فقد حضر الجنازة عدد هام من العلماء، ورثاه بالمقبرة الشيخ بن ياجور والشيخ الجيلالي، ومسيو فلويس (نائب بلدي) والسيد فرحات عباس باسم الهيآت الوطنية، ويضيف المصدر أن سيارة الأستاذ الابراهيمي والشيخ خير الدين وفرحات الدراجي وعبد العزيز الهاشمي وصلت ميلة الساعة العاشرة ليلا، وفي اليوم التالي توجه الوفد مع سائر سكان البلدة إلى ضريح الفقيد، وهناك أبنه الأستاذ البشير الابراهيمي بخطاب نفيس أثر في نفوس الحاضرين تأثرا عميقا، مما جاء فيه: ''وفقد بفقده عالما كانت تستضيء برأيه في المشكلات فلا يرى الرأي في معضلة إلا جاء مثل فلق الصبح ''.

 

مراجع:

- علي بن الطاهر: مبارك الميلي وجهوده في الحركة الإصلاحية، رسالة ماجستير، غير منشورة، جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم التاريخ، نوفمبر 2001م.

- محمد الميلي: الشيخ مبارك الميلي، حياته العلمية ونضاله الوطني، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط2001،1م .

- علي دبوز: أعلام الإصلاح في الجزائر من 1921م/1975م، مطبعة البعث، قسنطينة، ط1، 1398هـ/1978م.

- د.نورالدين لبجيري، الشيخ مبارك الميلي ومنهجه في الدعوة والاصلاح.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.