التوظيف اللغوي في الخطاب الإصلاحي عند الشيخ مبارك الميلي
بقلم: د. سليم مزهود-
إن التباين في توظيف الأساليب وضمائر الخطاب قد عكس توجه الشيخ مبارك الميلي الفكـري في رؤية حاضره والماضي، وقد اقتضى أسلوب الخطاب تحقير الصفات وليس أصحابها، ولم يستعمل ألفاظ السباب والشتم.
وقد زيّن الشيخ مبارك الميلي خطابه وشرّفه بالاقتباس من القرآن الكريم والسنة النبوية، وتميز الخطاب الإصلاحي بقصر العبارات، من أجل ملامسة عواطف الناس، إذ إن العبارات القصيرة هي أنسب للتعبير العاطفي. ويعمل الخطاب الإصلاحي على ضبط الألفاظ وتحديد مفاهيمها حتى لا يزيغ الناس عن سبيل الحق.
أولا؛ توظيف الضمائر:
من التوظيفات اللغوية للخطاب الإصلاحي توظيف الضمائر، ومن ذلك توظيف التاء؛ الضمير المتصل، مضافا إليها ميم الجماعة (تم) توظيفاً جديداً إذ يدل بها على العتاب واللوم وكذا التوبيخ، موجهاً خطابه إلى أصحاب الطرق مباشرة فالخطاب الموجه إلى (أنتم) الذي مثله في الخطاب، يفيد التحدي، فهو يخاطبهم ويشعرنا بكل الصفات الذميمة التي يمتلكها الآخر من النفاق، والشرك، وابتداع أعمال تدل على الغواية والابتعاد عن كل مظاهر الرشد، فيقول الشيخ مبارك الميلي دون أن يخلَّ ببنية النص، أو عناصر الربط التي تحقق الانسجام النصي فيه: " أين أنتم من هذا يا من اتخذتم من القبور والمزارات أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا؟ وشيدتم عليها القصور ورفعتم القباب وأشركتموها برب الأرباب؟ وجاوزتم ذلك تكثيرا لمظاهر الشرك فبنيتم على غير القبور؟ واتخذتم من شجر البطم والسدر وغيرهما ذات أنواط تعلقون به الخرق والخيوط وتسرجون له الأضواء وتعطرونه بالمباخير والرياحين؟ وجاوزتم ذلك إغراقا في الشرك إلى الصخور الضخمة والأودية الموحشة؟ واستبدلتم بالتبرك المسنون تبرككم المبتدع المألوف(1)
وفي هذا الخطاب يواجه الشيخ مبارك الميلي أصحاب الطرق ويقف في وجههم ويرميهم بنقده، ثم يتصدى لهم بضمير (نحن)، لينتقل من ضمير المخاطب (أنتم) المذنبون إلى ضمير المتكلم (نحن) الذي يستعمله الشيخ مبارك الميلي بمعنى أنا المصلح، ثم يعود إلى ضمير (أنتم) لإبداء الحرص على هداية أصحاب الطرق وتحذيرهم من مواصلة طريق الغواية، حتى يفهم من خلال ضمير (أنتم) أن الشيخ مبارك إنما ينتقد ويوبّخ لأجل هدف إصلاحي هو إيقاظ ضمير الطرقيين، وتحريك الوازع الديني في أنفسهم، يقول الشيخ مبارك "ها قد أوضحنا لكم ما في الزيارة من رشد وغي، فكونوا عباد الله الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تكونوا ممن حقت عليهم كلمة الله: ﴿سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا﴾ (الأعراف.الآية:146) (2) .
وفي أغلب الخطاب الإصلاحي للشيخ مبارك الميلي عند حديثه عن نفسه أو أعماله، يوظف الضمير (نحن) الدال على الجماعة والفاعلين كدلالة على المشاركة الكاملة في عملية الإصلاح مع الجماعة، يقول الشيخ مبارك الميلي في ضابط الكرامة: "وبعد فنحن نثبت كرامات الأولياء، ولا نقيد من ناحية العقل قدرة الله بنوع منها، ولكنا نقيدها من طريق الشرع، بغير ما أعلمنا الله أنه من خواص الألوهية، حتى لا نغلو فيها غلوا ينتهي إلى الشرك، والعياذ بالله" (3)، ويمضي الشيخ مبارك الميلي في كثير من خطابه معبرا عنً ضمير (الأنا) بالضمير (نحن)، ليؤكد ذوبان الأنا في الضمير الكلي، إذ يقع على عاتق الضمير (نحن) حمل الهمّ العام، وتحميله الفعل العام، ويستعمل الشيخ مبارك الميلي ضمير (نحن) للدلالة على أن الحركة الإصلاحية التي يحمل فكرها الشيخ مبارك هي صاحبة الفعل الإصلاحي، وهذا مطلوب منه كي يبرز صورة من يلتزم بمبادئه مع الجماعة، تجاه أفراد المجتمع، يقول الشيخ مبارك الميلي في خلاصة معنى الولاية: "وإذا أجدت النظر فيما جلبناه ألفيت مرجع الولاية إلى النصرة، ولعون في محبة وعطف، وإنما أطلنا فيما نقلنا من تفاصيل استعمالاتها، ليسهل عليك فهم تصرفات القرآن فيها إثباتا ونفيا ومدحا وذما وعطفا"، ويقول في عدم جدوى التفرقة بين الجاهلية الغابرة والحاضرة في الدين: "وقد قدمنا معنى الألوهية والعبادة، فتذكره، ثم أجد النظر في حال مسلمي اليوم تجد منهم من ألهوا المخلوق وعبدوه ... وقد كشفنا الغطاء على معنى الشرك وصورنا حقيقته عند العرب ومن قبلهم في فصول مرت، فارجع إليها تر تلك التفرقة غير مجدية..." (4)
ويستعمل الشيخ مبارك (الياء)؛ الضمير المتصل المفرد الذي يعود على المتكلم – ونقصد به الشيخ مبارك الميلي- وهو ضمير للفرد وليس للجماعة، ويستعمله في حال كون حديثه يشكل اختلافا مع الجماعة، كما يدل هذا الضمير (الياء) على الرأي الخاص للشيخ مبارك الميلي في مسألة ما، ومن ذلك قول الشيخ مبارك بعد أن أورد وجها من وجوه التبرك: "والتبرك على هذا الوجه عندي معقول..." (5)
وفي توجيه خطاب الشيخ مبارك الميلي إلى المتلقي مباشرة يستعمل الضمير (أنت)، فمرة يوجه هذا الخطاب إليه بصيغة الأمر؛ لكنه الأمر المقترن بفعل الشرط وجواب فعل الشرط، نحو قوله: "أجد النظر في حال مسلمي اليوم تجد منهم من ألهوا المخلوق وعبدوه ... فارجع إليها تر تلك التفرقة غير مجدية" (6)
وفي مرات أخرى، يستعمل الضمير المستتر الذي تقديره (أنت) لمشاركه المتلقي الاهتمام والمتابعة لما يخبره به، نحو قوله مثلا: "وترى الشيخ محمد عبده في تفسير المنار يتبرم عن قصور عبارة المتقدمين"، وقوله: "فأنت ترى من هذا إثبات بعض الأخبار للتبرك"(7)
كما أنه يستعمل الضمير المستتر والمتصل (أنت) مسبوقا باستفهام، تأكيدا على مرارة الواقع والتحسر عليه، نحو قوله: "ألست ترى في أوساطهم قبابا تبذل في تشييدها الأموال، وتشد لزيارتها الرحال؟، أم لست تسمع منهم استغاثات وطلب حاجات من الغائبين والأموات؟ أم لم تعلم بدور تنعت بدار الضمان، تشتري ضمانتها بالأثمان؟، أم لم تجتمع بذرية نسب للمرابطين إعطاؤها بقوة غيبية؟ أم لم تتكرر عليك مناظر مكلفين إباحيين يقدسون بصفتهم مرابطين أو طرقيين هذا إلى اجتماعات تنتهك فيها كل الحرمات باسم الزردات" (8)
ويستعمل الشيخ مبارك الضمير (أنت)، ليرغب المتلقي في الحق ويذكره بالعقيدة الصحيحة، ويصرح بأن العقيدة والعودة إلى ماضي السلف هو الأمل في تخليص الإنسان من هموم الدنيا والدين، إنه يتحدث في الأعم الأغلب عن تراث السلف كوسيلة للخلاص من الشرك ومظاهره، يقول الشيخ: "وإذا عرفت معنى الولي شرعا من القرآن والحديث وكلام أهل السنة والجماعة، فإياك أن تعدو ذلك الحد الذي فيه إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وما صح عن نبيه، أما إن كنت تركن إلى علم المتقدمين أو تقبل أقوال الأشاعرة، أو تثق بآراء الصوفية، فإن القشيري ولد في القرن الرابع وهو من الطبقة الثالثة ثم هو في الصوفية أشهر، وعلى الحسن من أحوالهم أغير، وإن بقي بعد هذا في قلبك من شيء: ﴿فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعّد في السماء﴾(الأنعام.الآية:125)" (9)، ويتبين من خلال امتزاج ضمير المخاطب (أنت) مع ضمير المتكلم (أنا) كلَفُ نفسِ الشيخ مبارك الميلي بهمِّ المخاطب، مما يكشف عن المعاناة التي تثقل كاهل الإصلاحيين، ففي قول الشيخ مبارك الميلي: "واعلم يا أخي– وفقنا الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة"(10)، يظهر كيف يذوّب الشيخ مبارك الأنا في المفرد المخاطب (أنت)، ويعتبره جزءا من الذات التي صارت تشعر بوحدة وجدانية مع الحركة الإصلاحية، مما دفعه إلى أن ينسب المخاطب (أنت) إلى نفسه على هيئة (المضاف والمضاف إليه) وذلك في قوله: (يا أخي) فهو لم يقصد الأخ من أبيه وأمه، ولكنه قصد المشارك في الدعوة الإصلاحية أو المناصر لها .
ومع ذلك فإن المخاطب (أنت) لا يسلم من الوقوع في الشرك، لهذا يستعمل الشيخ مبارك هذا الضمير (أنت) في تقديم النصح والإرشاد إلى طريق الحق والتحذير من الوقوع في الضلالة وفساد العقيدة، ثم يبرر تحذيره للمخاطب (أنت)، بأن الشرك قريب من أي إنسان مهما كانت درجة إيمانه، فيجب الحذر من الشرك، يقول الشيخ مبارك في صور تعليق التميمة وأحكامها: "وقد علمت من الأحاديث السابقة استعظام من استعظم من الصحابة للتعليق حتى قال: الموت أقرب من ذلك، هذا على كمال توحيدهم ومعرفتهم بربهم"(11)، وبالرغم من أن التحذير موجه للمخاطبين الواقعين في طريق الشرك، إلا أن الشيخ مبارك يستعمل الضمير (نحن) في حثهم على الابتعاد عن طريق الشرك، وهذا يدل على أن الشيخ مبارك الميلي يعتبر أولئك المخاطبين جزءا من المجتمع المسلم الذي ينتمي إليه، وأنه لا يقصيهم، قال الشيخ مبارك الميلي: "فلندع التمائم وما في معناها، ولنقو إيماننا بآية ﴿قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المتوكلون﴾ (التوبة.الآية:51)
ويقول في رجاء الشفاعة مستعملا الضمير (أنت) ليحسس المسلم المعني بخطابه أنه مسؤول مسؤولية مفردة في الدفاع عن رسول الله، وطلب الشفاعة له: "أيها الراجي لنيل الشفاعة - حقق الله رجاءك- لا تجعل الرجاء وحده طريقك إليها ولا عمدتك لاستحقاقها فتكون من المغترين ولحال الشركين من المشبهين، ولكن اعمد إلى قلبك فاعمره بالإيمان الخالص من نزعات الوثنية ونزعات إبليس عدو أبويك آدم وحواء، حتى يكون لجنانك السلطان على أركانك وأحب نبيك محبة اقتداء واستنان، ولا تنس الصلاة عليه وسؤال الوسيلة له بعد حكاية الأذان، فإذا فعلت ذلك كان رجاؤك للشفاعة مبنيا على حديث أسعد الناس بشفاعتي وحديثي سؤال الوسيلة بعد الأذان، ومن لم يفعل ذلك وقع تحت الإنذار بسوء مغبة الاغترار بسراب الآمال مع التهاون بصالح الأعمال" (12)
وإذ يستعمل الشيخ مبارك ضمير المخاطب (أنت)، إنما يريد تحميل المسؤولية تجاه الدين على عاتق كل إنسان، وأن الفرد المسلم ينبغي عليه التعلم والبحث في أمور دينه لأنه سيسأل غدا أمام ربه تعالى، قال الشيخ: "أيها المسلم لست مسؤولا غدا عن شيخ ورث المشيخة عن آبائه وجدوده أو اشتراها بعرضه ونقوده ثم هو ليس له من الفضل إلا أنه قد يفوقك في الجهل ويحسن دونك الدجل. ولكنك مسؤول عن ربك كيف كانت معرفتك به؟ وعن رسولك كيف كان جوابك له؟ وعن كتاب وسنة كيف كان عملك بهما؟ قال تعالى: حتى إذا جاءوا قال: أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علمـا أم ماذا كنتم تعملون؟ ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم المرسلين؟ أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون؟" (13)
كما يستعمل ضمير المخاطب (أنت) لتثبيت المسلمين على العقيدة الصحيحة، لأن هذا التثبيت أحسن طريق للابتعاد عن الشرك ومظاهره، يقول الشيخ مبارك في الطريق إلى الشفاعة: "أيها المسلم اتبع القرآن فيما أرشدك ينفع لك عند الله، ولا تحد عن سنة رسول الله تشملك -إن شاء الله– شفاعته، ولا تقنط من رحمة الله وترجو رحمة سواه، فإنه أرحم الراحمين" (14)
أما ضمير الغائب (هم) فيستعمله الشيخ مبارك الميلي للدلالة الإيجابية عندما يتحدث عن السلف الصالح والصحابة رضوان الله عليهم، فيستعمل الضمير (هم) من أجل الاقتداء بأفعال السلف، واستشعار عظمة الصحابة في نفس المتلقي، إضافة إلى الدلالة على توحد السلف من الصحابة الكرام في أمور العقيدة، يقول في قطع السلف لاتخاذ المزارات: "... الحكم في البناء على القبور وحكمته، وأجمع الصحابة على العمل به، فلم يبنوا على الأمكنة التي جلس فيها الرسول في أسفاره إلى الحج والعمرة والغزو، وهم عالمون بها وشديدو الحب له. ولم ينوطوا بشجرة الرضوان ولا غيرها خيوطا وخرقا ولا وضعوا تحتها مباخر ومصابيح، ولا قبلوا غير الحجر الأسود أو تمسحوا بشيء من غير أركان البيت، بل نهى أمير المؤمنين ومحدث هذه الأمة عمر بن الخطاب عن تعمد العدول إلى موضع سجوده صلى الله عليه وسلم في طريق المدينة إلى مكة، وقطع شجرة الرضوان، وبين وجه تقبيله للحجر الأسود كما تقدم في الفصل الحادي عشر" (15).
ويوظف ضمير الغائب (هم) الدال على الجماعة توظيفا معاكسا للتوظيف السابق إذ يستعمله هذه المرة للدلالة السلبية على غياب العقل والدين عن نفوس المبتدعة والمنحرفين عن العقيدة الصحيحة، وللدلالة على شدة نفاقهم، على أنهم يجتمعون على صفات ذميمة واحدة، قال الشيخ الميلي في أصحاب الطرقيين أصحاب البدع: "إنك تجدهم يشهدون شهادة الإخلاص، ثم لا يخلصون لله بل يفزعون لأوليائهم، ويخشونهم خشية تالية، وتراهم يصلون ولكن لا يخشعون، إلا بين يدي من به يتبركون، ويتساهلون في إخراج الزكوات ويتشددون في الوفاء بما ينذرون للمزارات والمقامات، بل يشحون بما هو منها واجب مشروع، ويسخرون بالمقدار المبدوع ، كالمكيال المقرر في الحبوب للشيخ عبد القادر الجيلاني، ويصومون رمضان معرضين عن الحجة الشرعية في ثبوته وانقضائه متعمدين مخالفتها إلى أوامر رؤسائهم الروحيين من المرابطين والطرقيين، ويصيرون على الجوع والعطش في زيارة هؤلاء الرؤساء ويألمون لذلك في الصيام لله ويحجون بقلة ويزورون ساداتهم بكثرة، ويطوفون ببعض المزارات، ويوقتون لها الأوقات، ويجعلون أعدادا منها تقوم مقام الحج إلى البيت الحرام، فهل تفرق مع هذا بين جاهلية عصر الوحي، وجاهلية زمن الاستعباد والبغي؟"(16)
إن التباين في توظيف الأساليب وضمائر الخطاب قد عكس توجه الشيخ مبارك الميلي الفكـري في رؤية حاضره والماضي، وقد اقتضى أسلوب الخطاب تحقير الصفات والأعمال ولم يحقر أصحابها، ولم يستعمل ألفاظ السباب والشتم، لأن المسلم ليس بسباب ولا لعان ولا طعــان، ولأن الغرض من وراء تحقير الصفات والأعمال هو تصحيحها، وليس التجريح في أصحابـها قصدا، لكنما عقل الشيخ مبارك الميلي كان على الدوام يرفض الخرافة والبدعة، وعاطفته كانت تدفــعه باتجاه الثقة في القضاء على الأسباب التي أدت إلى ظهوره البدعة.
ثانيا؛ توظيف البديع:
زيّن الشيخ مبارك الميلي خطابه وشرّفه بالاقتباس من القرآن الكريم والسنة النبوية إذ اعتمد الخطاب الإصلاحي أساليب القرآن الكريم وأساليب الحديث النبوي، لأن القرآن يشرف الخطاب ويجعله أكثر قوة وأكثر إقناعا وتحريكا للمشاعر، كيف لا وهو أعظم أسلوبٍ إعجازا في البلاغة وتناول قصص الأولين .
وتميز الخطاب الإصلاحي بقصر العبارات، من أجل ملامسة عواطف الناس، إذ إن العبارات القصيرة هي أنسب للتعبير العاطفي، ومن ذلك مثلا قول الشيخ مبارك الميلي: "فكم عولوا على ما قولوا، وأجملوا فيما هولوا، وبهتوا فيما نعتوا، وشتموا بما لم يعلموا"، ومن العبارات القصيرة نجد قول الشيخ مبارك الميلي: "علم الناصحون الفرق بين الولايتين الشرعية، والشركية، فأعلنوا به، وجهله خصومهم المغرضون، وأخفاه من علمه منهم إيثارا لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فشوهوا وموهوا، ولبسوا ودلسوا، وبدعوا، وشنعوا، ولمزوا ونبزوا، ولقن ذلك من أعماه الغرض، كل من في قلبه مرض، ثم اغتروا، فهنئوا نفوسهم بالمحافظة على عقيدة أهل السنة والجماعة، وما سننهم إلا سنة القبوريين، والطرقيين، وما جماعتهم، إلا جماعة المغرورين، والطماعين"(17)، وتتولد عن العبارات المستعملة في الفقرتين السابقتين عاطفة الاستياء من أعمال أصحاب الطرق وصنائعهم، وهكذا يتبين لنا أن الشيخ يستعمل العبارات القصيرة كلما تحركت عاطفته.
ويستعمل السجع، لاسيما في مقدمات المواضيع التي يعالجها، ومنها قول الشيخ مبارك: "غسل الأرض الطوفان، من وضر الشرك والعصيان، فلم يبق يومئذ على وجهها إلا ناصع الإيمان، ثم تعاقبت الأجيال حتى حنت الطباع إلى معتاد الضلال ففاء الشرك بعد الزوال، وأرسل الله المرسلين مبشرين ومنذرين: ﴿وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين﴾"(18)
ونلاحظ أن الشيخ مبارك يكثر من السجع في مقدمة القصة، لأن السجع لا يصلح للتحليل، إنما السجع هو لتحريك العاطفة وتهيئة النفس، إنه يضع القارئ في جو القصة ومن ثم في جو النص، فهو أولا يحرك العواطف ثم يخاطب العقول.
كما نلاحظ أنه يستعمل السجع في الوصف، كما في وصفه الكلدان ومعارفهم، قال الشيخ مبارك: "وكانت لهم علــوم بأرصاد الكواكب، وتحقق بعلم أسرار الفلك، ومعرفة مشهورة بطبائع النجوم وأحكامها، وخواص المولدات وقواها، وهم نهجوا لأهل الشق الآخـر من معمـور الأرض، الطريق إلى تدبير الهيكل لاستجلاب قوى الكواكب وإظهار طبائعها وطرح شعاعاتها عليها بأنواع القرابين المؤلفة لها، وضروب التدابير المخصوصة بها فظهرت منهم الأفاعيل الغريبة، والنتائج العجيبة"(19)، وليس هذا السجع مبالغا فيه كما نرى، بل إنه يتغير أو يخرج بعضه عن البعض الآخر كلما اقتضى الحال بذلك .
كما يستعمل السجع في خاتمة موضوع له علاقة بتبيان أهمية الإصلاح، ومن ذلك قوله: "ولم تزل وثنية العرب من زمن عمرو بن لحي، تطفئ وتشتد، وتنتشر وتمتد، وتمتص على رقتها أزهار الفضائل، وتقتص على ضعفها آثار الرذائل، حتى عم الفساد كل حي وناد، وقلبت الطباع جل ما للحياة من سنن وأوضاع، فكان اجتياح تام، إلى إصلاح عام يشمل الفرد والمجتمع وينزع بهما كل منزع، يرجع للعقول رشدها، وللقلوب طهرها وللنفوس تقاها، ولا يقوى ذلك الإصلاح، على التغلب في ميدان الكفاح إلا أن يصدر عن نفس تثبت للعوادي، التي نزلزل لها الرواسي، وتدفع عنها عدوى الأدناس، ولو اختلطت بكل الناس، ثم يقوم على أصول مجلوة، كتلك النفس ثباتا وقوة، لا تبلي الأيام جدتها، ولا تنهي الطبيعة مدتها، بل تصبو إليها العقول في رقيها، ولا تنبو هي عن الأذهان في هويها"(20)
ونلاحظ أن سجع الشيخ مبارك، ليس متكلفا ولا غريبا وحشيا، إنما هو رصين التركيب واضح المعنى، جميل الأسلوب فَواصلُه متنوعة فلا يطيل في فاصلة واحدة، ومن ذلك قوله في رسول الله: "ولقد منَّ الرب الرحيم، القادر الحليم، بتلك النفس فكانت نفس محمد الفذة في الطهارة والقدس، وبتلك الأصول المجلوة، فكانت آيات الكتاب المتلوة هنالك نهض الإصلاح نهضته، وأبلغ العالم دعوته، فسمع الأصم نبراته، وأبصر الأعمى آياته ولم تزل سيرة ذلك الرسول هي السيرة الراقية، ولم تزل حجة ذلك الكتاب هي الحجة الباقية"(21)
ومن هذا السجع الجميل قوله في آثار الشرك في المسلمين: "إن الأمة ... تراكمت على عقولها سحائب الجهالات وران على بصائرها قبائح العادات، وسهل عليها الإيمان بالخيالات، فانقادت لعالم طماع، وجاهل خداع، ومرشد دجال، ودليل محتال وازدادت بهم حيرتها، واختلت سيرتها، والتبست عليها الطرائق، وانعكست لديها الحقائق، فتتهمَ العقل وتقبل المحال، وتشرد عن الصواب، وتأنس بالسراب"(22)
ويستعمل الطباق بكثرة بهدف تبيان البون الواسع بين التوحيد والشرك ومن ذلك قوله: "يحجون بقلة، ويزورون ساداتهم بكثرة... التقرب من الأحجار، والنفور من المرشدين الأخيار... اعترفنا بدائنا، وبحثنا عن دوائنا"(23)
ويتطرق خلال مواضيعه التي يعالجها إلى تعريف القرى والمدن تعريفا موجزا، نحو قوله: "والهامل قرية بالحضنة قرب أبي سعادة بها زاوية كانت تمده بالمال"(24) (يقصد الشيخ عاشور).
ويستعمل الشيخ مبارك الميلي الأسلوب السلفي في سرد الحكايات والوقائع، إذ يوظف الشيخ مبارك ألفاظا اشتهرت في الأسلوب السلفي، نحو لفظة "حدثني"؛ وهذه اللفظة معروفة عند السلف في نقلهم للأحاديث والحكايات وما شابه، والتي عادة تعتمد السمع يقول الشيخ مبارك الميلي في حكاية عن تقديس الناس لشيوخ الطرق: "حدثني الثقة أن الشيخ يوسف بن الدرويش من شيوخ الطريقة الرحمانية قرب الميلية حدثه عن مريده فلان أنه توجه إليه وصلى له ، فجعل هو ينتقل من ناحية إلى أخرى، ومريده يتبعه مستقبلا إياه حدثه هذا الحديث وهو مغتبط بتعظيم مريده له"(25)، ثم إن الشخ مبارك الميلي قد بدأ رسالته باسم الله الرحمن الرحيم والثناء على الله عز وجل وتوحيده، ثم الصلاة على رسول الله،وطلب الرضا من الله للصحابة الكرام، وختمها في الأخير بتنزيه الله عز وجل والصلاة على رسوله، مما يؤكد سيره على منهج السلف في الخطاب، قال الشيخ: "وقد انتهينا مـن تحرير هذه الرسالة في ذي الحجة سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وألف. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين" (26).
ويستدل بأقوال السلف دون حاجة إلى شرح أو تقرير ما كانت وافية المعنى بالغة الشرح، ومن ذلك قولالشيخ مبارك الميلي في تعلق الإخلاص بالعادات كالعبادات: "وقد قرر أبو إسحاق الشاطبي في كتاب المقاصد من الموافقات كليات لها تعلق بهذا الموضوع وشرحها وبسط القول فيها، ونحن نثبتها للاستدلال بها لا لشرحها وتقريرها" (27)
ثالثا؛ توظيف الألفاظ:
يبدأ الشيخ مبارك الميلي في معالجة الشرك ومظاهره، بتعريفالموضوع الذي هو بصدد الحديث عنه، وإنما يتطلب التعرف شرحا للفظ الذي ينبني عليه الموضوع وتعريف شمل جانبين فيه هما المبنى والمعنى.
أما ما يتعلق بالمبنى فمن ذلك استعمال الخطاب الإصلاحي علم الصوت في شرح اللفظ، إذ يضبط الكلمة من الناحية النطقيّة قال الشيخ مبارك الميلي في ضبط لفظ الغفارة والخفارة: "ولفظ الخفارة لا يفترق من الغفارة إلا بالحرف الأول وهو حلقي وكثيرا ما تبدل حروف الحلق يعضها من بعض" (28)
ويستعمل الشيخ مبارك الميلي الوزن والمثال في الشرح، ومن مثال ذلك قوله: "تقول شركته في الأمر أشركه، وشركة بفتح الأول وكسر الثاني فيهما، ويخففان بكسر الأول وسكون الثاني وذلك إذا صرت له شريكا، وشاركته كذلك وأشركته جعلته شريكا"(29)
كما يستعمل تصريف الفعل وبيان مشتقاته في تبيان شرح اللفظ، ومثال ذلك قول الشيخ مبارك الميلي نقلا عن الجوهري: "تقول نسك ينسك فهو ناسك وهم نساك، كعبد يعبد فهو عابد وهم عباد وزنا ومعنى، والنسك بضمتين يكون مصدرا بمعنى التعبد والتطوع بالقربة واسما للقربة المتطوع بها، وجمع نسيكة، والمنسك بفتح السين وكسرها يرد مصدرا وزمانا ومكانا لذبح النسيكة" (30)
كما يستعمل بيان صور بعض المصادر المشهورة في الاستعمال، نحو قوله: "والشرك بالتخفيف أغلب الاستعمال، ويكون مصدرا واسما بمعنى النصيب"، ونحو قوله أيضا: "واستعمال الكفر في التغطية شائع في لسان العرب" (31)
ويستعمل الشيخ مبارك في تعريف اللفظ بيان المفرد والجمع، نحو قوله: "والعبادة هي الانقياد والخضوع، والفاعل عابد والجمع عباد وعبدة، مثل كافر وكفار وكفرة" (32)
كما يتطرق إلى تعريف الشخصيات تعريفا موجزا، فيعرفها أحيانا بنسبها، نحو قوله: "ويوسف هذا من أولاد ابن الدرويش إحدى فصائل أولاد العابد من متصرفية الميلية، توفي حديثا"، ويعرفها حينا آخر باسم مشهور من أسرتها كما في قوله: "الطيب بن الحملاوي وهو أخو عبد الرحمن نسبا وأدبا..."، وفي أحايينَ أخرى لا يكتفي الشيخ مبارك الميلي بذكر الاسم فقط، بل يزيد على ذلك تبيان كيفية نطق الاسم، ويحدد الرسم الإملائيّ أو الهجائيّ لذلك الاسم، نحو قوله عن العربي بن حافظ: "وهو أحد مشاهير المرابطين معاصر للحسن القشي بقاف بدوية وشين مشددة" (33)، وربما قصد الشيخ بالقاف البدوية أنها قاف لا تنطق بنطقها الأصلي، بل تنطق بصوت (Gua) في اللغة الفرنسية.
أما الجانب الآخر فهو المعنى؛ ومن ذلك مثلا التفسير بالمغايرة وأكثر ما يكون التعبير عنها بلفظ نقيض أو ضدّ أو خلاف نحو قول الشيخ مبارك الميلي في نقل الفرق بين المفر والشرك عن أبي الهلال العسكري: "... وأصله كفر النعمة، ونقيضه الشكر نقيض الكفر بالله الإيمان"، ويفسر اللفظ بالمرادف له، نحو قوله نقلا عن الجوهري: "والنسيكة كذبيحة وزنا ومعنى، وتكون بمعنى السبيكة من الفضة" (34)
وينقل شرح اللفظ بالمجاز، كما في قوله: "والطاعة في مجاز اللغة تكون إتباع المدعو الداعي إلى ما دعاه إليه" (35)
وتتبع الخطاب الإصلاحي تاريخ اللفظ وتطوره، إذ يذكر الشيخ مبارك الميلي سرعة التطور والتغير في جانب معنى بعض الألفاظ، ويتتبع تاريخها، فمثلا في ذكر معنى الغفارة، ذكر الشيخ مبارك الميلي منشأ لفظة الغفارة، ومتى كان منشأها، ثم يذكر ما ورد في كيفية حدوثها، ومن ذلك أيضا قوله: "فالغفارة بعد أن كانت ضريبة للقبائل الحربية على من ضعف في ساحة الوغى أصبحت غفارة على من ضعف اتكاله على الله لمن ادعى العزة مع ربه بلسان الحال أو بلسان المقال، فكان أصلها الحماية من الأشرار، وصارت للوقاية من الأقدار" (36)
ويوضح تضاد المعنيين في اللفظة الواحدة باختلاف سياقها، نحو قول الشيخ مبارك الميلي في معنى الغفارة: "ويقول كل من القابض والمعطي لصاحبه (أنت غفيري)، وهي من الأول بمعنى خديمي، ومن الثانية بمعنى سيدي كما تطلق العرب المولى على الأعلى والأدنى معا" (37)
ويعمل الشيخ مبارك على استيفاء الشرح حتى يتبين المعنى جيدا، ويجلي الشرح له ويتحرى عدم الخلط فيه، حتى لا يُبقي فيه غموضا أو التباسا، ومن ذلك أن الشيخ مبارك في تبيان معنى العبادة، يبين أولا سبب الوقوع في الشرك، ويقول إن السبب هو المبالغة في تعظيم بعض المخلوقات، حتى نشأت عبادة غير الله، ومن ثم فالشيخ يرى الحاجة الملحة لتبيان معنى العبادة لغة وشرعا، ثم يبين الفرق بين العبادة والطاعة، ثم ينقل إلى القارئ بعض صور العبادة المعهودة قي العصر الجاهلي، ليستوفي شرح لفظ العبادة حقه، وبالرغم من أن الشيخ الميلي يورد تعريفا ما ويراه جامعا، إلا أنه يزيد عليه قول العلماء والمصلحين ما رآه شارحا للتعريف الأول، ومن أمثلة ذلك أنه في تعريف لفظة العبادة ينقل ما جاء في كتاب المصباح، ثم ما جاء في الصحاح، ثم ما جاء في مفردات الغريب، ثم ما جاء في فروق العسكري، وبعد أن أورد تعريف لفظة العبادة في الكتب الأربعة، نراه ينتقي التعريف الأول بوصفه تعريفا جامعا، إذ يقول الشيخ مبارك الميلي: "والتعريف الذي استخلصناه من المصباح يتضمن (معاني كلام الأمة الأربعة)"(38)
لقد أصبحت المصطلحات أدوات الخطاب الإصلاحي، في توعية الناس بدينهم وإبعادهم عن طرق الغواية والضلال والشرك والبدع والخرافات، وفي الرد على المضلين فحين يهدف المصلحون إلى إحقاق الحق، فهم يضبطون بذلك الألفاظ ويحددون مفاهيمها حتى لا يزيغ الناس عن سبيل الحق، في حين أن أعداء الدعوة الإصلاحية والذين يتخذون من الدين وسيلة لكسبهم وتحقيق سلطانهم على الناس، أولئك هم الذين يحرفون الألفاظ عن معانيها، حتى يغيب الحق عن الناس وإنما يعد المصطلح وسيلة ضرورية في كشف الحق ودحض الباطل لكونه حاملا للعقيدة وحاملا لكل فكرة إيمانية صحيحة، ثم إن استعمال المصطلح في غير موضعه أو تحريفه، -لاسيما عند الخوض في مجال العقيدة- يعرض الأمة إلى خطر الشرك والانحراف عن دينها، حين يستعمل المصطلح في تنفير الناس عن اعتقاد معين أو ترغيبهم في اعتقاد آخر، فتلقى إلى مسامع الناس ألفاظ منكرة إلى درجة أن ينخدعوا بها، ولا عجب أن وصف الأنبياء بالجنون والكهانة والسحر والضلال والسفاهة لينفر الناس عنهم ويبغضوهم ولا يتبعوا دعوتهم.
لكن تبديل الألفاظ لن يغير من الحق شيئا، وإن غيّر عقلية المتلقي وأضله عن الحق، قال ابن القيم رحمه الله: "ولو أوجب تبديل الأسماء والصور تبدّل الأحكام والحقائق لفسدت الديانات، وبدلت الشرائع، واضمحل الإسلام، وأي شيء نَفَع المشركين تسميتُهم أصنامهم آلهة، وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها"(39).
وتميز الخطاب الإصلاحي بدقة الألفاظ، وتناسبها مع المعاني، ولا عجب في ذلك إذ إنها مقتبسة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ونذكر من ملامح توظيف الألفاظ في الخطاب؛ ذكر المذاهب وأسماء الطرق، وذكر بعض أعمالهم وعقائدهم، نحو قول الشيخ: "ومن المعلوم عند الحنصالية وهي شبه من الشاذلية أن شيخهم سوّغ لهم الملاهي وتمتيع النفس بما تشتهي"، وقوله أيضا: "ويـوم النظرة معروف عند التيجانية..."، ووصف أصحاب الطرق، إذ نجد العديد من أوصاف أصحاب الطرق في الخطاب، ومن ذلك وصفهم في تبليه الناس بعبدة الأحجار (40)
ويستعمل الشيخ مبارك الميلي الألفاظ المناسبة لوصف الأعلام والشخصيات الدينية المتميزة ، ومن ذلك مثلا أن أطلق الشيخ الميلي على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صفة أمير المؤمنين ومحدث الأمة(41).
كما يستعمل مصطلحات دينية لها دلالات خاصة، منها (القوة الغيبية)؛ ويقصد بها قوة الله، و(الجاهلية الحاضرة)؛ ويقصد بها البدع والطرق المنحرفة عن الدين، قال الشيخ مبارك الميلي: "وقد أصبح الناس في جاهليتهم الحاضرة ينذرون لمن يعتقدون فيه من الأحياء والأموات والمزارات، الأموال والثياب والحيوانات والشموع والبخور والأطعمة" (42)
ويستخدم الخطاب الإصلاحي الألفاظ والمصطلحات استخداما مناسبا للغاية، فوظف مثلا مصطلح (الجاهلية)، والأكيد أنه لم يقصد به انعدام العلم والمعرفة، وإنما قصد به ما كان معروفا قبل الإسلام من خضوع الناس إلى الطيش، وعدم القدرة على الاحتكام إلى رزانة العقل وقوة المنطق.
ويطلق الشيخ مبارك مصطلحات جديدة على بعض الأفعال والصفات، أن أطلق الشيخ مبارك الميلي على الشفاعة المثبتة في الكتاب والسنة (الشفاعة الشرعية)، أما الشفاعة التي نفاها الكتاب ونفتها السنة، فقد أسماها (الشفاعة الشركية)، وسمى الناسَ الذين يزورون القبور للتبرك وما شابه من أحوال الشرك والبدع: (أهل القبور) و(القبوريون)، وسمى (جعل الإنسان مكسبا) بالسعاية، إذ قال الشيخ مبارك الميلي: "ومن الناس من يرى معيشته في السعاية بالعلماء المرشدين"، وأعطى للمعنى اللغوي تسمية جديدة هي (المعنى الأصلي)، وسمى النسك -وهو الذبح الذي يتقرب به الإنسان إلى خالقه- بالذبح الديني(43)
ويستعمل الشيخ مبارك الميلي ألفاظا فلسفية، وألفاظا انبنت عليها المذاهب، ومن ذلك هذه الألفاظ: (الحلول والاتحاد)، (القطب)، (الأبدال)، كما يستعمل ألفاظا دلت على النبات المشهور في البيئة الجزائرية، من ذلك قوله: "واتخذتم من شجر البطم والسدر..." (44)
ويمنح صفات لبعض الألفاظ، ويعطى تفسيرا لها، وحكما عليها، من ذلك قول الشيخ مبارك الميلي: "العز جبروت، والأمن جبانة، والسيادة وظيف حكومي، والغنى فسوق عمومي، والإباء جناية، والشمم كبر"، ومن المصطلحات الموصوفة والمعرفة نجد (الحكاية العاشورية)؛ نسبة إلى الشيخ عاشور صاحب منار الأشراف، وملقب نفسه كليب الهامل(45)
إننا نعلم جليا أن الوسائل اللغوية متعلقة بالتطور اللغوي والنمو المصطلحي وهي كثيرة منها: (المجاز والاشتقاق، والترجمة والتعريب والنحت...)، ولذلك نرى أن الخطاب في تعريف اللفظ يذهب إلى الاشتقاق، حينما يكون معنى ذاك اللفظ راجعا إلى جذور اللفظ المذكور وأصل اشتقاقه، حتى إن خطابات الشيخ مبارك الميلي الإصلاحية قد امتلأت بالنقل عن المعاجم وكتب اللغة والمجامع الفقهية والعلمية.
أما عن توظيف الشيخ الألفاظ الشرعية، فقد احتاج الخطاب الإصلاحي في إيراد الألفاظ الدينية والفكرية للرجوع إلى الأصول الدينية والتراث لمعرفة معنى هذا المصطلح كما احتاج إلى تاريخ استعمال اللفظ وتطوره، وذلك لأجل الحصول على أعلى الدرجات في فهم الخطاب من قبل المتلقين، فإن للسياق الزمني لدورا كبيرا في تحديد معنى اللفظ بدقة إن تلك الألفاظ الشرعية ومثلها التي وظفها الشيخ مبارك الميلي تجعل الأحكام الدينية أكثر ضبطا ودقة، وإن لها أثرا بالغا في تمسك المتلقي بأحكام الدين والتزامه بها، فحرص الخطاب الإصلاحي على أن يكون اللفظ الشرعي مناسبا لمعناه حتى عندما يصف أو يحكم، وهذا هو ما كان يتبعه السلف الصالح، قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله:"والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة"(46).
واتبع الخطاب الإصلاحي منهج السلف في استعمال الألفاظ الشرعية، على نحو ما قال ابن القيم رحمه الله: "ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك... فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض، والتعقيد والاضطراب... ولما استحكم هجران النصوص عن أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض...
والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير، ومن رام إدراك الهـدى وديـن الحق من غير مشكـاتها ؛ فهو عليه عسيــرغير يسير"(47)
والخطاب الإصلاحي دقيق في استعمال الألفاظ، ومن أمثلة تلك الدقة توضيح الشيخ مبارك الميليأن نطق الجاهل بالشهادتين لا يمنع عنه وصف الشرك، إذا كان نطقه بهما عن غير علم بمعناهما، واستدل على أن المشركين لما دعاهم رسول الله إلى التلفظ بالشهادتين، رفضوا ولم ينطقوا بالشهادتين لكونهم يعلمون معنى الشهادتين، ولو أنهم رأوا أن مجرد التلفظ بالشهادتين ينفي عنهم الشرك لتلفظوا بهما (48)
ثم بيّن الشيخ أن العامة لا يفقهون العربية فتجد أحدهم يردد في صلاته: إياك نعبد وإياك نستعين، فإذا سلم منها ونهض استعان بغير الله، وقال يا جدي!، يا شيخي!، وقد استدل على هذه الفكرة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، ثم إن المرء لا يفيده أن ينعت بالمسلم وصفاته النفسانية صفات مشرك ضال أو كتابي معاند، وفي هذا الشأن يقول الشيخ مبارك الميلي: "ثم أجدِ النظر في حال مسلمي اليوم تجد منهم من ألهوا المخلوق وعبدوه، وتبرؤهم من اللفظ إنما هو لضرورة حكمه الشرعي وجهلهم بالمعنى اللغوي(49)
لكن مخاطبة الآخر بدعوته إلى فعل ما، ليس معناه أن الآخر يخلو من ذلك الفعل خلوا تاما، بل قد يدل الخطاب على الدعوة إلى الاستمرار في ذلك الفعل، ومثال على ذلك قوله تعالى في آيات عديدة متشابهة: ﴿يا أيها الذين آمنوا آمنوا﴾، فهذا الخطاب موجه للمؤمنين، يدعوهم إلى الإيمان، بغرض حثهم على الاستمرار في الإيمان، كذلك الدعوة إلى تجنب الشرك بالله في الخطاب الإصلاحي، لا تعني أبدا أن الذين يدعوهم الخطاب إلى تجنب ذلك الشرك هم مشركون فعلا.
ويذهب الخطاب الإصلاحي إلى الدقة في الحكم على الأفعال، لذلك كان حريصا على الدقة في التعامل مع الألفاظ،فها هو الخطاب في حديثه مثلا عن تعيين مكان في النذر؛ يعطي كل صفـة أو عمل لفظه المناسب بدقة، يقول الشيخ مبارك: "وتلك الاجتماعات عليها للزردات هي من أعياد الجاهلية، فلو فرضنا أحدا نذر لها شيئا فهو عاص بالوفاء به، فإن أضاف إليه التقرب من صاحبها فهو مشرك وإن عين الناذر مكانا سالما من تلك الزردات وقصد به إعانة الأحياء من أهله تعين عليه الوفاء في ذلك المكان"(50).
وأبرز الملاحظات التي سجلناه في استعمال الخطاب للألفاظ، أنه استعمل اللهجة العامية، سواء تلك الألفاظ العامية أو تلك الألفاظ المأخوذة من اللغة الفرنسية، ومن هذه الألفاظ العامية المستعملة نجد: (القبوريين والمْرابْطين)، ولفظة (فاقوا)، و(إنهم كانوا في بيت كتان نسميه القيطون)، و(دار الضمان)؛ وهي دار تشترى ضمانتها بالأثمان، و(سموه حسب اصطلاحهم مرابطا) ولفظة (تصرفه في الجْنون)؛ وقصد تصرفه في الجن (51).
ولا يترك الشيخ مبارك الميلي اللفظة العامية إلا وقد شرحها بما يقابلها في اللغة العربية الفصيحة، نحو قوله:"...الشجر المدعو عندنا الهندي: وهو الصبار في لغة العرب..."(52)
ويورد الشيخ مبارك ألفاظا تدل على الطبخ الشعبي الجزائري، نحو لفظة (الطْعَامْ)؛ وهو الكسكس، و(النشرة)؛ قال الشيخ مبارك الميلي: "والنشرة في لسان عوامنا طعام يتخذ على ذبيحة من الدجاج غالبا تقربا إلى الجن كي يرفعوا داءهم عن المصاب بهم، ولا يذكرون اسم الله على الذبيحة إرضاء للجن"، و(الزردة)؛ قال الشيخ مبارك الميلي عن معنى الزردة:"... وهي في عرفنا طعام يتخذ على ذبائح من بهيمة الأنعام عند مزارات من يعتقد صلاحهم، ولها وقتان أحدهما في فصل الخريف عند الاستعداد للحرث، والآخر في فصل الربيع عند رجاء الغلة، و(الوعدة)؛ قال الشيخ الشيخ مبارك الميلي في نذر الجاهلية: "والمعنى الثاني للنذر يسميه المحدثون نذر المجازاة والفقهاء النذر المعلق، وتسميه عامتنا الوعدة"، ومن الألفاظ العامية ما كان مأخوذا من اللغة الفرنسية نحو (الليصانص)، حيث قال الشيخ مبارك الميلي: "... زيت السيارات المعبر عنه بالليصانص"، ولفظة (نفرنو) بمعني نعطي ونزوّد، قال الشيخ مبارك في حكاية عن الطيب بن الحملاوي: "... فاستفهمته المرأة وهي مسيحية عن ذلك متعجبة فأجابها قائلا: احنا نفرنو الدين على الناس؛ وكلمة نفرنو فرنسية استعربت إلى العامية يريدون منها معنى العطاء والتوزيع".
ويورد الشيخ مبارك ألفاظا خاصة بالقَسَم عند العامة من السفهاء على حد تعبير الشيخ مبارك، حيث يقول: "والحريّم، بفتح الراء وتشديد الياء تصغير الحرام يمين السفهاء"(53).
ولا يتوقف الشيخ عند إيراد الألفاظ العامية فحسب، بل إنه يورد الجملة برمتها عامية ويشرحها مبينا خلفية الفكرة فيها، نحو نقله قول العربي بن حافظ الذي يزعم الولاية: "يا ربي اشبح ونا نشبح وما خايف إلا على جهتك"، ثم يشرح الشيخ معنى هذا الكلام العامي، فيقول: "ومعنى اشبح اضغط، ومراده إظهار التبرم بالناس والضجر منهم، وأنهم أهل لكل ضغط إلهي، وأنه مشارك للإله في هذا الضغط قاس فيه، ولكن يخشى التخفيف من جانب الله" (54)
كما نلمس في الخطاب طابعا أدبيا ولغويا، حيث يستشهد الشيخ مبارك الميلي بالشعر والنثر الأدبي وبالأمثال والحكم، سواء المأخوذة من واقع العصور الأدبية السابقة أو تلك التي أخذها من واقع المجتمع الجزائري المعاصر له، أو فلنقل الأدب الشعبي الجزائري(55)، وبفضل لغة الشيخ مبارك الميلي السهلة المتناولة نفذت معانيه إلى عقل المتلقي وقلبه، وأبرز ما نسجله من خصائص في الخطاب الإصلاحي؛ الاحتجاج بالنقل والعقل على حد سواء، ومن ذلك قول الشيخ مبارك الميلي في مجمل ما جاء في نفي الشفاعة: "ذلك أن الجاهلين بالله من أهل الكتاب والمشركين يقيسون أحوال الآخرة على أحوال الدنيا وأحكام الله على أحكام الملوك، فإذا كان المجرم في الدنيا قد ينجو من سطوة القــانون وقضاء الحاكم عليه بشفاعة وجيهة عنده، كان المجرم في الآخرة قد ينجو من عذاب الله بشفاعة نبي أو ملك أو ولي، وهو قياس فاسد نقلا وعقلا، أما النقل فما تقدم من نفي الشفاعة لمن يرجوها من غير الله وبلا سببها المشروع، وأما العقل فإن كل مؤمن بالله يعتقد أنه محيط بكل شيء علما وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يفعل حكمة ورحمة لا رغبة ورهبة، وملوك الدنيا يجهلون كثيرا من أحوال قصورهم فضلا عما نئى عنهم ويريدون الشيء ثم يرجعون عنه، ويرغبون في إرضاء أعيان دولتهم ويرهبون إسخاطهم"(56)
ويوظف الخطاب الإصلاحي الأمثال الشعبية، ويشرحها: قال الشيخ مبارك الميلي بعدما أورد حديثا لرسول الله عن رجل دخل النار في تقديم ذباب لصنم: "وهذا كالمثل العام المشهــور "أداها بوحجر"، يعنون اخذ الولاية أبو حجر"، ثم أردف قائلا: "مثل عامي؛ ويذكرون أن قـــائله أحمـد الزواوي دفين الجبل غربي قسنطينة، وأحد شيوخ الطريقة الحنصالية من فروع الطريـــقة الشاذلية، قاله لرجل عديم جاء مع الزوار، فلما انتهى إلى أصل الجبل حمل معه حجرا وصعد يلهث به، فلما قدم الناس الأموال للشيخ الزواوي، قدم له هو ذلك الحجر"، ويورد الشيخ مبارك الميلي أمثالا شعبية شعرية، نحو قوله: "وقال شاعر عامي يخاطب الشيخ عبد القادر الجيلالي من قصيدة:
يا لعرج ولدام الخير يا سيدي نيف عليه *** وانحزنك وندير السير الى ما درت مزية"(57)
الإحالة:
(1)- مبارك الميلي: رسالة الشرك ومظاهره. دار الراية، السعودية، ط:1، 2001م. ص: 229
(2)- المصدر نفسه. ص: 229
(3)- المصدر نفسه . ص: 121
(4)- المصدر نفسه . ص: 101 و108
(5)- المصدر نفسه . ص: 96
(6)- المصدر نفسه. ص نفسها
(7)- المصدر نفسه . ص: 83 و96
(8)- المصدر نفسه . ص: 102
(9)-المصدر نفسه. ص: 113
(10)- المصدر نفسه. ص: 118
(11)- المصدر نفسه. ص: 163
(12)- المصدر نفسه. ص: 209–210
(13)- المصدر نفسه. ص: 283
(14)- المصدر نفسه. ص: 213
(15)- المصدر نفسه. ص: 228 – 229
(16)- المصدر نفسه. ص : 102 – 103
(17)- المصدر نفسه. ص: 105 و117
(18)- المصدر نفسه. ص: 68
(19)- المصدر نفسه. ص: 68 – 69
(20)- المصدر نفسه . ص: 80
(21)- المصدر نفسه . ص نفسها
(22)- المصدر نفسه. ص: 99 – 100
(23)- المصدر نفسه . ص: 103
(24)- المصدر نفسه . ص: 182
(25)- المصدر نفسه . ص: 232
(26)- المصدر نفسه . ص: 11 و295
(27)- المصدر نفسه . ص: 230
(28)- المصدر نفسه . ص: 281
(29)- المصدر نفسه . ص: 56
(30)- المصدر نفسه. ص: 87
(31)- المصدر نفسه . ص: 56 و60
(32)- المصدر نفسه . ص: 84
(33)- المصدر نفسه . ص: 178 و277 و281
(34)- المصدر نفسه. ص: 60 و87
(35)- المصدر نفسه . ص: 85
(36)- المصدر نفسه . ص: 252–253
(37)- المصدر نفسه . ص: 251
(38)- المصدر نفسه. ص: 83 وما بعدها
(39)- ابن الجوزية: إعلام الموقعين . تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. مطبعة السعادة. مصر . ط: 1، 1955م ج: 3، ص:130
(40)- مبارك الميلي: المصدر السابق. ص:277 و282
(41)- المصدر نفسه . ص: 228
(42)- المصدر نفسه . ص: 92 و100 و250
(43)- المصدر نفسه. ص 212 – 213 و116 و230
(44)- المصدر نفسه . ص: 164 – 165 و229
(45)- المصدر نفسه. . ص: 104 و182
(46)- ابن أبي العز الحنفي: شرح العقيدة الطحاوية . تحقيق عبد الله التركي وشعيب الأرنؤوط . مؤسسة الرسالة . بيروت، لبنان. ط:8، 1416هـ. ج:1، ص: 70-71
(47)- ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين. ج:4، ص: 170–172
(48)- مبارك الميلي: المصدر السابق. ص: 27–28
(49)- المصدر نفسه. ص: 29 و44 و52 و101
(50)- المصدر نفسه. ص: 244
(51)- المصدر نفسه. ص: 36 و43 و113-115 و152
(52)- المصدر نفسه. ص: 163
(53)- المصدر نفسه. ص: 238 و242 و247 و277 – 279
(54)- المصدر نفسه. ص: 281
(55)- المصدر نفسه. ص: 202–203 و233
(56)- المصدر نفسه. ص: 211–212
(57)- المصدر نفسه. ص: 233 و281
د. سليم مزهود-جامعة ميلة (الجزائر)
المصدر: مجلة الأثر
Volume 14, Numéro 22, Pages 103-114