كتاب “رسالة الشرك ومظاهره” للأستاذ الشيخ محمد مبارك الميلي: دراسة تحليلية دعوية
بقلم: د. مفيدة بلهامل-
يعدُّ كتاب "رسالة الشرك ومظاهره" مساهمةً عِلمية وإعلامية هامة، تُضاف إلى جهود علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريِّين، في الإحاطة بميدان التنظير للمذهبية الدينية للإصلاح الذي كانت تقوده في الجزائر، وفي الجانب العقدي منها تحديدًا، ويتأسس على المنهج الدعوي والإعلامي الذي اتفق علماءُ الجمعية على اتباعه، والنشاط في إطاره؛ كلٌّ في مجاله.
وقد بدأ الأستاذ الشيخ "مبارك الهلالي الميلي" كتابة مقالات صحفية عن مظاهر الفساد العقدي والشرك بالله، التي كانت متفشِّيةً في المجتمع الجزائري؛ كنتيجةٍ لسياسة التجهيل بالإسلام وتعاليمه، التي مارَسَتها فرنسا الاحتلال منذ أن وطئَت أرض الجزائر في 1830، وكذا فساد الطُّرقيين، ونشرهم للبدع والشِّركيات بين أفراد الشعب؛ مما أدى مع الزمن إلى استساغتها، وتحوُّلها إلى سلوكات عادية يُظنَّ أنها من الإسلام، والإسلام منها بريء.
ولم تمرَّ فترة طويلة على بداية ظهور هذه المقالات على صفحات جريدة "البصائر"، حتى وجَدَت لها من النجاح والصَّدى الكبير عند القراء الذين سارعوا إلى مراسلة الجريدة، وطلبوا من صاحبها ومن إدارة "البصائر" جمْعَها وإعادة نشرها في كتاب مستقل؛ حتى تعمَّ به الفائدة.
وقد رحَّب العلماء برغبة القراء، ولبَّى الشيخ مبارك رغبة قرائه، فعاد إلى مادته العلمية العقَدية بالتهذيب والتبويب والتوثيق، مع إضافةِ فصول عديدة، ثم جمَعَها في كتاب عنوَنَه بـ: "رسالة الشرك ومظاهره"، نشرَته الجمعية لاحقًا.
أولًا - الشيخ "مبارك الميلي".. حياة علم وعطاء:
وُلد الأستاذ الشيخ "مبارك بن محمد الإبراهيمي الميلي" في قرية "الرّمامن" في جبال الميلية بشرق الجزائر سنة 1897.(1) ونسبتُه (الميلي) إلى مدينة ميلة، في عائلةٍ ذات غنًى ووجاهة، كفلَه جدُّه وجدَّته بعد وفاة والده منذ الرابعة، ووالدتِه منذ ستِّ سنوات من عمره، ووَجد في كفالة جدَّيه الحنان والتربية الحسنة.
بدأ تعليمه بدوَّار (قرية) أولاد مبارك بمدينة "الميلية"(2)، وعكف منذ صغره - كغيره من الكثير من أبناء الجزائر في ذلك الوقت - على حفظ القرآن الكريم، فأتمَّ حفظه على يد الشيخ "أحمد بن الطاهر مزهود" في جامع الشيخ عزوز بأولاد مبارك، في الحادية عشرة من عمره، ورغم رفضِ عمِّه - الذي تولى كفالته بعد وفاة جده - توجُّهَه لطلب العلم، وألزمه بالالتحاق بالفلاحة والرَّعي، فإنه صمَّم على استكمال طريق العلم المضني، فالتحق بمدرسة الشيخ "محمد بن معنصر" الشهير "بالميلي" ببلدة ميلة؛ لمواصلة مسيرة طلب العلم، ومكث هناك نحو أربع سنوات، حيثُ بدأَت شخصيته العلمية تتشكل، قبل أن يتجه إلى مدينة "قسنطينة"؛ لينضمَّ إلى دروس الشيخ الإمام عبدالحميد بن باديس رحمه الله بالجامع الأخضر، وليُصبح من بين أكبر تلاميذه وأكثرهم انتفاعًا بعلمه؛ فقد كان "الجامع الأخضر" محطَّة هامَّة في حياة "الميلي" وأترابه من طلاب العلم؛ حيث تم ابتعاثه ضمن الطلبة المتفوقين إلى جامعة الزيتونة بتونس، فنهَل العلم على يد أبرز علمائها الذين كان لهم الأثرُ البالغ في تكوينه العِلمي، ومنهم: الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والشيخ محمد النخلي، والشيخ البشير صفير، والصادق النيفر، وغيرهم، رحمة الله عليهم جميعًا؛ كلٌّ في تخصُّصه ومجاله.
وقد عُرف الميلي بسلوكه العلمي الرَّزين في جامعة الزيتونة، وهو ما جلب له تقدير شيوخه وزملائه على السواء، وقضى فيها نحو أكثر من أربع سنوات من التحصيل العلمي، كُلِّلَت في 1924(3) بنيل شهادة العالمية - التي كانت تسمَّى بشهادة التطويع أيضًا - بتفوُّق وتقدير من لجنة الامتحان التي وصَفَته بقولها: "أنت مبارك علينا، وعلى أمتك وعلى وطنك"(4).
بعد عودته إلى الجزائر انخرط الأستاذ "مبارك الميلي" مباشرة في العمل الإصلاحي؛ ليعضِّد صفَّ إخوانه من العلماء المصلحين، فقد كانت الجزائرُ نهايةَ العشرينيَّات من القرن العشرين ورشةً مفتوحةَ الجبهات على مختلِف النشاطات العلمية والفكرية والدينية؛ إعدادًا واستعدادًا لإعادة زرع وغرس وإحياء الحاسَّة الحضارية الإسلامية من جديد في الشعب الجزائري، ووضع قطار المجابهة ضد الحرب الحضارية الفرنسية لانتماء الجزائريين على مدى أكثرَ من القرن على الطريق الصحيح الذي يُدرِك علماءُ الجزائر - وعلماء الإسلام - سرَّ الصراع منه، كما يَعلمون سرَّ النجاح فيه، وقد كان.
وقد وجدَت الجزائر في عودة أبنائها العلماء من مختلِف البلاد الإسلامية - من تونس والشام والحجاز، وكذا من تركيا - الذين احتَكُّوا هناك بشخصيات علمية متميزة، وأساتذةٍ مقتدرين، أخذوا عنهم العلم والتقوى، كما غرَسوا فيهم حبَّ العلم والعمل به بحثًا وتأليفًا، فعاد كلٌّ منهم وهو عاقدٌ العزمَ على العمل العلمي الجاد لإيقاظ الشعب من سُباته، وتحريكه من وَهْدته، ممَّا ساعد على استدراك الجزائريِّين الحظَّ من التعليم والثقافة؛ لتكوين قاعدة التغيير القوية التي بَناها العلماء تحت قيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبرئاسة الإمام الأستاذ عبدالحميد بن باديس رحمه الله، ومن هؤلاء: محمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبي، والعربي التبسي، وإبراهيم بيوض، ومبارك الميلي...(5)
في البداية استقر الشيخ مبارك الميلي رحمه الله للتعليم في مدينة "قسنطينة"، يدرِّسُ لطلاب العِلم بالمدرسة الباديسية حتى 1927، ثم دَعاه سكان مدينة "الأغواط" بالجنوب الجزائري للتعليم، فافتتح هناك مدرسة جديدة عَرَفت قَبولًا متزايدًا ونشاطًا متناميًا، حتى أصبحَت حديثَ الخاصِّ والعام؛ مما أثار تخوُّف سلطات الاحتلال الفرنسي من آثارها الإيجابية على الشباب خاصة، والشعب عمومًا، فمنَعَته من الاستمرار في التعليم، وأمَرَته بمغادرة المدينة بعد سنوات من النشاط المضني فيها.
وهو المصير الذي لاقاه مِن إدارة الاحتلال الفرنسية في مدينة "بوسعادة"، التي طردَته منها أيضًا؛ ليعود إلى مدينة "ميلة" من جديد يؤسِّس فيها مسجدًا للصلاة بمعيَّة أعيان المدينة، بعد أن أهدى أحدُهم أرضَه لعلماء الإصلاح والمناصرين له.
فكان يدرِّس ويخطب فيه، ثم أسس هؤلاء بقيادة "الميلي" جمعية "النادي الإسلامي"، التي ما فَتِئت أن أزعَج نشاطُها الاحتلالَ وعُملاءه من طُرقيِّين وخصوم الإصلاح، خاصة بعدما توسعَت دائرة الأعمال والنشاطات، وكوَّن المسجدُ والنادي المذكوران جمعيةً أخرى تحت اسم "جمعية حياة الشباب"، وتوسع النشاط والعمل فيها اليوم بعد اليوم؛ بفضل العلماء والمخلصين.
وقد كان "الميلي" من العلماء الذين عَملوا للتمهيد لظهور "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين"؛ وذلك عبر نشاطه التعليمي في المدارس والمساجد في قسنطينة وميلة والأغواط وبوسعادة، وكذا عبر نشاطه الفكري والصحفي بالكتابة في الصحف الباديسية، لكن أيضًا عبر نشاطه التوعوي والتحسيسي في النوادي والجمعيات الذي كان وراء تأسيسها، والتي كان اضطهاد إدارة الاحتلال الفرنسي له بالمنع والطرد والتنغيص كلما بدأ نشاطه في الاتساع والـتأثير، وكلما ظهر ذلك في آثار سلوك الجزائريين بالانخراط في العمل والبذل، والإقبال على التعلم.
فقد تأسست "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" بعد فترة تمهيد طويلة، وجهود جبارة، وعَرَفت منعطفات خطيرة، تركَّزَت على التعليم في المدارس والمساجد، وعلى نشاط الجمعيات الإسلامية التي انتشرت عبر القطر الجزائري، وكذا على الصحافة الإسلامية العديدة العناوين، بدت خلالها ملامحُ ثوراتٍ متكاملة متصلة؛ من علمية وأدبية، ودينية وتاريخية، وتهذيبية وصحافية(6)، حوَّلَت فكرة الجمعية من حُلم متَّقِد في عقول العلماء إلى مطلب شعبي، ثم إلى واقع قائم؛ حيث تم إعلان تأسيسها في الخامس من مايو 1931، برئاسة الإمام الأستاذ عبدالحميد بن باديس رحمه الله، واستقر هدفها الأصيل في: مواجهة الوضع السائد مباشرة، دون خوف أو رأفة، وذلك بمجابهة المستغلِّين للبلاد من الطرقيين وغيرهم، وعقد العزم على القوة والحزم، وأقل ما يكون من التأثير لهذا العمل "أن تَضعُف هيبة المفسدين في نفوس العامة، وتقِلَّ رهبتهم في صدورهم، ومن ثم يسهل العمل في نقض باطلهم، وتخفُّ المؤونة في هدمه"(7).
وكان الأستاذ مبارك الميلي أحد مؤسِّسي "جمعية العلماء"، وكان أحد أعضاء مجلسها الإداري الذي رشح بعد عدد من الجلسات التأسيسية "بنادي الترقِّي"(8) بمدينة الجزائر؛ حيث عُيِّن أمينًا للمال للجمعية بعد إعلانها؛ لينخرط في النشاط الإصلاحي رسميًّا في الجزائر عبر كلِّ منابره، فقد كان إمامًا خطيبًا ومعلِّمًا متفانيًا وصحفيًّا ومؤرخًا وكاتبًا وإداريًّا مخلصًا.
وبالإضافة إلى كتابه "رسالة الشرك ومظاهره" في تصحيح عقيدة الجزائريين، ومحاربة مظاهر الشرك بينهم، فقد اهتم بالبحث والكتابة عن تاريخ الجزائر، والذي كان من اهتمام جمعية العلماء في الترجمة الواقعية لشعارها الحضاري الخالد في الجزائر "الإسلام ديني، العربية لغتي، الجزائر وطني"؛ فقد كلَّفَته -بغياب مَن يقوم به غيره من علماء الجمعية- بالإلحاح عليه للكتابة فيه، وهو ما اعتبره "الميلي" واجبًا مقدسًا، ومهمة رسمية لا يمكنه أن يتخلف عن أدائها؛ للأهداف التي تتوخَّاها الجمعية من ذلك، وهي تصحيح لما شوَّهَه كتَّاب فرنسا ومؤرِّخوها المستعمرون من تاريخ الجزائر، وتقويم لما كانوا يروِّجون، وكشفٌ لما كانوا يخطِّطون لطمس انتماء الجزائريين الطبيعي والأصيل دينًا ولغة وتاريخًا وماضيًا مجيدًا؛ بدفن مستحقات الشعب الجزائري المادية والمعنوية منذ وخلال استيطانهم الطويل للجزائر.
وإذا لم يكن "تاريخ الجزائر في القديم والحديث" (9) كتابًا متخصصًا(10) بالمفهوم المتعارَف عليه - وهو ما لم يهدف إليه صاحبه ولم يدَّعِه - فإنَّه لم يكن مجرَّدَ كتاب في التاريخ يستطيعه كل مولَع بمجاله ببذل جهد الجمع والتبويب والتوثيق... لكنه كان دفاعًا حارًّا عن شعب سُلِبَت أرضه، ومرافعة حاسمة عن قضايا ماضيه وحقائقه ومصيره، وكشفًا علميًّا للاحتيال الكولونيالي وادعاءاته وأكاذيبه، ودعوة تاريخية للعلماء والشعوب؛ للشهادة على كيفية استغلال فرنسا بكتَّابها ومُغامريها ومؤرِّخيها وعسكرييها؛ لضعف الجزائريين وجهلهم؛ لاستعبادهم وامتهان كرامتهم وطمس ماضيهم، واستكمال مهمَّة الإبادة الجماعية بالتصفية الجسدية، والتطهير العرقي التي قادتها آلة القتل الفرنسية من جهة، بالإبادة الحضارية الدينية واللغوية من جهة أخرى... عبر تشويه الحقائق واختراع تاريخ بديل للجزائر والجزائريين، لا هُم منه ولا هو منهم، فكان تاريخ الميلي وثيقةَ الحجة على كل ذلك.
ولم يستطع جسم الميلي أن يقاوم المرض الذي أعياه وهو في قمة عطائه العلمي ونشاطه الإصلاحي، وسَلَّم روحه الطاهرة إلى بارئها بعد أن ساءت صحته، وانتشر خبر وفاته في التاسع من فبراير 1945(11)، يَسوء إخوانَه وتلاميذه وشعبه، ويسرُّ أعداءه، رحمه الله. وكان لوفاته صداها في الجزائر وخارجها، ورَثاه الشعراء والكتاب.
ثانيًا - لماذا "رسالة الشرك ومظاهره"؟:
لما نُشِرت "رسالة الشرك ومظاهره" في الكتاب المطبوع سنة 1356 للهجرة، الموافق لسنة 1937م تحلَّى الكتاب بصورة المؤلِّف وعليها مِن صاحبها هذه الأبيات:
إلى الشَّعبِ أُهدِي صورَتي ورِسالتي ** * كذِكْرى لإخلاصي له وجِهادي
وأُسْدي له في العالَمين نَصيحةً ** * أُريدُ رِضا ربِّي بها وبِلادي
وإنْ قَبِلَ الشَّعبُ الكريمُ هديَّتي ** * ونُصْحي فقد أدرَكتُ كلَّ مُرادي
فكانت "رسالة الشرك ومظاهره" هدية الميلي للشعب الجزائري ولبلاده الجزائر، قدَّم لهما فيها النصيحةَ شهادةً أمام العالمين بأنه قام بواجب النُّصح، وهو ما كان يستطيعه وإخوانه من العلماء في ذلك الوقت في بداية النشاط الإصلاحي العلمي والفكري - وهو الواجب - في تلك المرحلة التي تتطلب أولوية الجهاد الفكري والعلمي؛ بتغيير المنكر والأمر بالمعروف، لا يريد منها سوى رضا الله تعالى.
أما الأسباب التي دفعت صاحبها لتأليفها فيمكن جمعها فيما يلي:
1- أداء الواجب الإسلامي في حفظ التوحيد في الجزائر:
يقف الكاتب طويلًا لتقديم مبرراته للكتابة في هذا الموضوع بالذات، في عدة فقراتٍ ذات جمل تقريرية منطقية ومتسلسلة، تقرر كل منها حقيقة معينة تكون تبريرًا لتقرير الحقيقة التالية لها؛ فبعد أن يقرِّر أنَّ حق الله على عباده أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا، يقول:
"إن الشرك مرضٌ طارئ على الأمم، كما تطرأ الأسقام على الأجسام، وأنه يَلحق بالإنسان نتيجة لنوم البصائر الموجب لشقاء الأرواح".
ويقول: "وإذا كان حفظ الصحة بالغذاء والدواء؛ فإن حفظ التوحيد بالعلم والدعوة، ولا يَحفظ التوحيدَ علمٌ كعلم الكتاب والسُّنة، ولا تُجلي الشِّركَ دعوةٌ كالدعوة بأسلوبهما"(12)
فرسالة الشرك إذًا مجهودٌ علمي، وأسلوب دعوي لحفظ التوحيد في الجزائر من مظاهر الشرك التي أحاطت به كنتيجةٍ حتمية لموت بصائر الجزائريين، ودليله شهادةُ واقعهم الشقي، وإن أول ما اعتمد عليه كاتب هذه الرسالة هو الكتاب والسنة وأسلوبهما في بيان الشرك وإجلاء مظاهره.
ويؤكد الكاتب أن إهمال الدعوة للكتاب والسنة هو الذي أدى إلى جهل جمهور المسلمين بعقائد الإسلام، حتى خَفي عنهم ما يُنافيها بطول الوقت، فانتشرَت بينهم العقائد الزائفة والبدع الفاسدة مكانَ العقائد الصحيحة، فاستغلها بعضهم في السطو على العلماء العارفين، وإنكارهم عليهم تذكيرهم للمسلمين بالدين الحق.
واقتضت حكمة الله أن يخصَّ الإسلام بالرعاية بحفظ كتابه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، ثم بقيام علماء ربَّانيين على تبليغه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله يَبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدِّد لها أمر دينها)(13).
وهؤلاء هم المجددون الذين حبا الله بهم الجزائرَ بمن تجتمع فيهم صفاتُهم من أخلاقٍ وهمم وعلم، وقد ظهَروا منذ 1343هـ، وهي من أوائل المائة الرابعة عشرة بعد عصرَيِ النبوة والخلافة، والذين واجهتهم حملةٌ من الجهلة بالدين - حفاظًا على مصالحهم المادية الخاصة - شاركوا المستعمِرَ الفرنسي في امتهان كرامة الجزائريين وابتزازهم!
وما هؤلاء إلا علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، التي هي وراء هذه الرسالة تشجيعًا وتمهيدًا، عبر صفحات جرائدها (14).
2-مقارعة أهل البدع من الطرقية الضالَّة المضللة:
لقد بنَت جمعية العلماء منذ بدأت فكرةً في عقول أصحابها - بعد ظهورها - أهمَّ جزء من قاعدة نشاطها في الوطن الجزائري على محاربة الطرقية الضالة المضللة، بعد أن عمَّ فسادها وإفسادها، وطال زمانه بنشر البدع والدجل والمنكرات! وقد ناصب رجالُها علماءَ الجمعية العداءَ حتى قبل ظهورها وبعد تأسيسها؛ مما تطلب من "ابن باديس" وإخوانِه في جمعية العلماء العمل الحاسم لنُصرة السنة وإماتة البدعة، فكان رأي ابن باديس بلزوم أخذ المبطِلين مغافصة، والهجوم عليهم وهم غارون، وإسماع العامة المغرورة صوتَ الحق فصيحًا غيرَ مجمجم"(15).
وكانت "رسالة الشرك ومظاهره" لمحمد مبارك الميلي - هذا الصوتَ وتلك الحجةَ وذلك البيان، وعلَّق الإبراهيمي بقوله: "ويرتكز هذا الرأي على أنَّ هذه البدع والمنكرات التي يريد الإصلاحُ أن يكون حربًا عليها هي أمور قد طال عليها الأمد، وشابَ عليها الوالد وشبَّ عليها الولد، وهي بعدُ شديدةُ الاتصال بمصالِحَ أَلِفَها الرؤساء حتى اعتبروها حقوقًا لهم، وأنس بها العامة حتى اعتقَدوها فروضًا عليهم، فلا مَطمَع في زوالها إلا بصَيحة مُخيفة تُزلزل أركانها، ورجَّةٍ عنيفة تُصدِّع بُنيانها، وإعصار شديد يَكشف الستر عن هذا الشيء الملفَّف، والسرَّ الذي يأبى أن يُكتشَف؛ ليَتبيَّنه الناس على حقيقته، وأقلُّ ما يكون من التأثير لهذا العمل أن يُضعف هيبتَهم في نفوسهم، وتَضؤُلَ رهبته في صدورهم، وهناك يَسهُل العمل في نقضِه، وتخفُّ المؤونة في هدمه"(16)
و"رسالة الشرك ومظاهره" بهذا الاعتبار تعدُّ وجهًا آخرَ من وجوه نشاط جمعية العلماء العلميِّ والديني، الذي يهدف إلى محاربة الجمود في الجزائريين، والاجتهاد في بعثهم من جديد، مع التأكيد دائمًا على أنها ركَّزَت في ذلك على دعوة الجزائريين إلى الرجوع إلى عقائد الإسلام الصحيحة؛ بكشف العقائد الزائفةِ منها، والبدع الفاسدة، ثم إنَّها توسلت لذلك أسلوبَ القرآن والسنة، وهو ما يضمن لها النجاح في دعوتها.
ثم إن رسالة الشرك موجهة في الأساس لمحاربة الطُّرقية في الجزائر، وهي الطائفة الوحيدة في الجزائر التي ترفض دعوة الجمعية، وهو ما أشار إليه تقرير جمعية العلماء للرسالة بالقول: "نستطيع أن نقول ولا نخشى مُفنِّدًا: إنه لم يرفض دعوة الجمعية إلا طوائفُ معلومة في الجزائر، يُضِر بها العمل بالدين الحق، ويهدُّ بنيانَها القائم على أساس العوائد التي ظهرت في المسلمين في العصور التي بُلي فيها العالم الإسلامي بزعماء جهلاء، اغتصبوا هذه الزعامة من غير كفاءة علمية، ولا هداية إسلامية"(17).
3-استكمال أركان التجديد الإسلامي للإصلاح السلفي لجمعية العلماء في الجزائر:
يأخذ مفهوم التجديد من المعاني ما يَشمل التذكير بهدي السنة، وإحياء الممارسات الدينية، ومحاولة إعادة تشكيل العقيدة عبر طريقة جديدة في تفسير القرآن الكريم وشرح الحديث النبوي، ثم محاولة إصلاح جوانب الانحراف الناجمة عن الجهل أو فساد الشعور الديني، باتباع وسائل الوعظ والإقناع؛ بالرجوع إلى النماذج التي ذكرها القرآن الكريم، ودفع الناس إلى العمل بها، والسير وفق تعاليمها.
وإذا كان الإمام "عبدالحميد بن باديس" قد كفى حركةَ الإصلاح والتجديد الإسلاميِّ في جانب تفسير القرآن الكريم بشكلٍ لم يَسبِقه إليه في الجزائر في عصره أحدٌ؛ وذلك درسًا وتأليفًا ونشرًا عبر صفحات جرائد "جمعية العلماء" ثم عبر كتاب "مجالس التذكير، من كلام الحكيم الخبير"(18)، وفي جانب شرح الحديث النبوي؛ درسًا وتأليفًا ونشرًا كذلك، وذلك عبر كتاب "مجالس التذكير، من كلام البشير النذير"(19)- يأتي مؤلف محمد مبارك الميلي؛ ليكمل أركان التجديد الإسلامي للحركة الإصلاحية السلفية، التي قادتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الجزائر؛ وذلك في جانب العقيدة، وعبر كتاب "رسالة الشرك ومظاهره"؛ باتباع أسلوب القرآن الكريم والسنة النبوية.
وبهذا تكون "رسالة الشرك ومظاهره" للشيخ مبارك الميلي ترجمةً عِلمية لجهود جمعية العلماء في محاربة البدع وكشف حقيقة شيوخ الزوايا، التي كانت تجثم على صدر الجزائريين، تبتز أموالهم، وتمتهن كرامتهم، والأخطر من ذلك تستغل جهلهم وعاطفتهم الدينية السليمة؛ لإيقاعهم في الشرك بالله تعالى بتكريس ممارسات ظاهرها العبادة وباطنها الشرك بالله! فبيانُ حقيقة الإسلام بشعائره النقية وعباداته الصحيحة، وبنماذجَ من شخصياته الفذة، ثم الاستدلال بآيات القرآن العظيم، وما صح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم - معالجةٌ للجزائريين بالدواء الصحيح الذي هُم في أمَسِّ الحاجة إليه، وهو إعادتهم إلى إسلامهم الصحيح، بوسائل الإسلام نفسه، فكانت هذه الخطوة هي الأساس الذي يَبني عليه للخطوات التالية.
ولذلك فقد صُدِّرت "الرسالة" بتقرير جمعية العلماء الذي يُضفي عليها رسميَّةَ المهمة العِلمية التي تصدَّى لها "مبارك الميلي" من جهة، ومن جهة أخرى بيان العلماء للجزائريين عن قيام علماء الجمعية بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ خدمةً للدين الصحيح، وعدم التواطؤ على السكوت على المنكر، ومن ثَم دعوة لجميع الجزائريين إلى الاقتداء بالعلماء في هذا المجال؛ تمهيدًا لأمر أعظم يخص مصيرهم ومستقبلهم.
وقد جاء في تقرير الجمعية للرسالة تحت عنوان: المجلس الإداري لجمعية العلماء يقرِّر أن ما اشتملت عليه "رسالة الشرك ومظاهره" لمؤلفها الأستاذ "مبارك الميلي" هو عينُ السنة، وأن هذه الرسالةَ تُعد من الكتب المؤلَّفة في نشر السنة وردع البدع؛ فإن الدعوة الإصلاحية التي يقوم بها دُعاة الإصلاح الإسلامي في العالم الإسلامي عامة، وتقوم بها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في القُطر الجزائري خاصة - تتلخَّص في دعوة المسلمين إلى العلم والعمل بكتاب ربهم وسنة نبيهم، والسير على منهاج سلفهم الصالح في أخلاقهم وعباداتهم القولية والاعتقادية والعملية، وتطبيق ما هم عليه اليوم من عقائد وأعمال وآداب على ما كان في عهد السلف الصالح؛ فما وافقه عدَدْناه من دين الله فعَمِلنا به واعتبرنا القائمَ به قائمًا بدين الله، وما لم يكن معروفًا في عهد الصحابة عدَدناه ليس من دين الله، ولا علينا فيمن أحدثه أو عمل به؛ فالدين حجة على كل أحد، وليس عملُ أحد حجةً على الدين..(20).
وإذا بلغَت هذه الدعوة الصالحة وانتشرت، وقَبِلها المسلمون وعدُّوها نعمةً من الله عليهم، كان تأليفُ رسالة جامعة لأهم النقط التي يدخل منها ليلُ البدع على نور السنن مِن أوجب الواجبات على حمَلة السنن وعلى أعضاء جمعية العلماء؛ إذ دعاة الإصلاح اليومَ في حاجة ماسة إلى رسالة في هذا الموضوع، جامعةٍ لأدلة هذه المسائل، ناقلةٍ للآيات والأحاديث في كل نقطة من النقط التي تتناولها الرسالة المقترحة المرغوب في تأليفها؛ لتكون حجة للمستيقنين، وهداية للمسترشدين، وسيفًا مصلتًا على أعداء السنن المعروفين في الجزائر، من المتعيشين بهذه البدع والعوائد الضالة.
وإن الأستاذ المحقق مؤرِّخَ الجزائر "مبارك الميلي" بجمعه "رسالة الشرك ومظاهره"؛ خدَم بها الإسلام ونصر بها السنة، وقاوم بها العوائد الضالة والخرافات المسندة للعقول، وقد عرَض هذه الرسالة على مجلس إدارة الجمعية، "فتصفحها واستقصى مسائلها، فإذا هي رسالةٌ تعد في أولويَّات الرسائل أو الكتب المؤلفة في نصر السنن وإماتة البدع، تقَرُّ بها عينُ السنة والسنيين، وتنشرح لها صدور المؤمنين...
وإن المجلس الإداري لجمعية العلماء يقرر بإجماع أعضائه أحقية ما اشتملَت عليه هذه الرسالة العلمية المفيدة، ويوافق مؤلِّفَها على ما فيها، ويدعو إلى دراستها والعمل بما فيها؛ فإنه العمل بالدين"(21).
4-الرد التطبيقي والواقعي على سياسة التجهيل بالإسلام عبر استغلال رجاله وتضليل عامته:
ركزت سلطات الاحتلال الفرنسي - في إطار حربها المعلَنة والخفيَّة للإسلام في الجزائر، بالإضافة إلى مناهج التجهيل، وكنائس التنصير، وحملات التيئيس، وآلة حرب تُبيد وتَحرق البلاد والعباد... - ركَّزت على رجال الطرقية الضالين والمضلِّلين؛ ليكونوا مطيَّة لتخدير عقول الجماهير الجزائرية، وذلك بتحويلهم إلى أداة تُهيِّئ الغطاء الإيديولوجي لعمليات الظلم والافتئات على كرامة الإنسان، وحقه في الحياة وتقرير المصير.
وقد انجرف عددٌ من العلماء وكثيرٌ من أصحاب الأهواء والبدع في هذا التيار؛ طمعًا في منافعَ دنيوية عاجلة، فارتبطوا بالمؤسسات الاستعمارية، وعملوا - بقصد أو بغير قصد، كما عملوا بوعي أو بغير وعي، لكن بتوجيهٍ مدروس دومًا من إدارة الاحتلال - على تخدير الجزائريين وإحباطهم؛ حتى تُصبح الممارسةُ الدينية على الصعيد الاجتماعي مفرغةً من أي مضمون روحي يذكِّر بالله، ويرتبط بالانتماء ويشدُّ العزائم والهمم حول المصير، وعلى عكس ذلك؛ فهو يعرقل كل محاولة جادَّة للنهوض به، وتغييره لصالح الشعب الجزائري المسلم.
وجاءت "رسالة الشرك ومظاهره" لتحقق الهدف المزدوجَ إزاء غُلاة المستعمرين والغاشِّين لدينهم وإخوانهم من جهة؛ في مقاومتهم، والحد من تأثيرهم وآثارهم، والحيلولة دون الوصول بأساليبهم وبدعهم إلى نهاياتها إزاء علماء الإسلام والسنيين المؤمنين، بشرح صدورهم، وبث روح الأمل بالمستقبل، وتسريع الخطى الحثيثة نحوه.
ثالثًا - أهمية "رسالة الشرك ومظاهره":
1 - الأهمية العلمية للكتاب
وصف الميلي أهمية "رسالة الشرك ومظاهره" بأنَّها:
"رسالة تعد في أوليات الرسائل أو الكتب المؤلفة في نُصرة السنن وإماتة البدع، تَقَر بها عين السنة والسنيين، وتَنشرح لها صدور المؤمنين، وتكون نكبةً على أولئك الغاشِّين للإسلام والمسلمين، مِن جهلة المسلمين ومن أحمِرَة المستعمرين الذين يَجدون من هذه البدع أكبرَ عون لهم على استعباد الأمم، فيتخذون هذه البدع التي ينسبها البدعيون إلى الدين الإسلامي مخدِّرًا يخدِّرون بها عقول الجماهير، وإذا تخدَّرَت العقول وأصبحَت تروِّج الأوهام، وُجدَت الأجواء التي تروِّجها غلاة المستعمرين للأمم المصابة برؤساء دينيين أو دنيويين، يغشون أممهم ويتاجرون فيها"(22).
2- "رسالة الشرك ومظاهره" مجهود علمي فريد جزائريًّا:
يقول مبارك الميلي في وصف رسالته: "ولم أحتَذِ فيما كتَبتُ إلا ما تخيَّلَه فِكري، ولم أنسِج فيما جمعتُ على منوال غيري؛ إذ لم أقِف على كتابٍ مجموع على النسق الذي أردتُه في الموضوع"(23)، ويَعني الكاتب بهذا أنه لم يُواجِه صعوباتٍ من ناحية قلة المادة العِلمية في هذا الموضوع؛ إذ إنَّ دَوره كان جمعها كما ذكَر، وهو ما كانت تتطلَّبه حاجةُ دعاة الإصلاح في ذلك الوقت، وعملت على تحقيقه جمعيةُ العلماء في هذا الميدان، وإنما واجهَتْه صعوباتٌ في طريقة "ابتكار العناوين وتنسيقها"؛ حتى تَفِيَ في النهاية - كمجهود عملي جادٍّ - بالحاجة، فلم يَسبق مبارك الميلي أحدٌ في القيام بهذا العمل في الجزائر، وهو ما جعَله يقول: "إن هذه الرسالة في موضوع بُور، على أسلوبٍ من عندي بِكْر"(24).
ويبدو أن "علي مراد" عندما تناول هذه النقطة قد أخذ على الميلي تأكيدَه سبْقَه في هذا الموضوع، وحاول تفنيد هذا التأكيد بقوله: "ويمكننا بسهولة تفنيدُ هذا التأكيد"(25).
والحقيقة أن تأكيد الميلي في سبقه إلى هذا الموضوع ليس من ناحية المضمون؛ وإنما فقط من حيث تأليفُ كتاب مستقلٍّ فيه، واتباع طريقة عِلمية في تصنيف المواضيع، ضمنَ منهجٍ في تنسيق العناوين؛ فموضوع الشرك ومظاهره قد تناولَتْه أقلامُ المصلحين الجزائريين بغضِّ النظر عن علماء الإسلام عمومًا، الأقدمين منهم والمحدَثين ممن ظهروا في المشرق العربي أو في المغرب العربي، والذين يعتبر فريق الشهاب تلميذًا وفيًّا؛ بمن فيهم مبارك الميلي - بطبيعة الحال - منذ البدايات الأولى للصحافة الإصلاحية بالجزائر عمومًا كما رأينا؛ أي: قبل ظهور صحافة علماء الجمعية أنفسهم، وهو ما عضَّد به (علي مراد) تفنيده وإشارتَه أن موضوع محاربة النظام الطرقي بدأ منذ سنة 1925م.
ثم إن تأكيد تقرير الجمعية للرسالة أشار إلى أن دعاة الإصلاح كانوا في حاجة ماسَّة إلى رسالة في هذا الموضوع، جامعة لأدلة هذه المسائل، ناقلة للآيات أو الأحاديث في كل نقطة من النقط التي تتناولها الرسالة المقترحة المرغوب في تأليفها"(26).
ومن ثَم فإن "الميلي" لم يدَّعِ سبْقَه إلى الكتابة في هذا الموضوع، وإنما على العكس من ذلك؛ فهو أكَّد عَناءه في ترتيب موادِّه ومواضيعه الكثيرة المبثوثة عبر الصحافة - كما رأينا - ثم في تنسيقها وربطها بضمانها وأدلتها من الآيات والأحاديث، وهو عملٌ يتطلب جهدًا كبيرًا، خاصة إذا لم يَجِد صاحبُه نَموذجًا ينسج على منواله.
ومع ذلك فقد أثبَت صاحبُ "الرسالة" فِهْرسًا لمواردها، وأشار إلى ذلك بعنوان: الغرض من بيان مواد الرسالة، قائلًا: وفيما يلي نُثبت أسماء الكتب التي صرَّحنا بالنقل منها في صُلب الرسالة؛ إظهارًا للصلة بين كلامنا وكلام الأقدمين"(27).
وقد قسَّمَها إلى ثلاثة أقسام(28) هي:
• كتب متن اللغة وفقها وأدبها: (10 مصادر).
• كتب التفسير وأحكام القرآن: (12 مصدرًا).
• كتب الحديث وفقهه ورجاله: (3 مصادر).
أما كتب التوحيد فقد ذكر الميلي في مقدمة رسالته أنه اتصل ببعضها بعدما حرَّر عدة فصول من الرسالة؛ ولذاك تأسَّف عن تأخرها لعدم استعانته بها في تحريرها؛ لخلو مكتبته ومكتبات زملائه العلماءِ منها، إلا أنه بعد تمام التأليف وقبل الشروع في طبع الكتاب أُهدِيَ إليه كتابُ "فتح المجيد، بشرح كتاب التوحيد"، فاستعان به بفوائد ألحقها بمواضعِها، مَعزُوَّة إليه"(29).
رابعًا - مضامين رسالة الشرك ومظاهره:
للإطلاع على مضمون "رسالة الشرك ومظاهره"؛ يَجدُر بنا نقلُ عناوين فصولها التي تتضمن مختلِفَ مواضيعها، وهي على التوالي:
1- الحاجة إلى معرفة الشرك ومظاهره.
2- الغرض من بيان الشرك ومظاهره.
3- الرجوع في بيان الشرك إلى الكتاب والسنة.
4- تنزيل الآيات النازلة في قوم على أشبه حالتهم اليوم.
5- ذرائع الشرك وطبائعه.
6- معنى الشرك وأقسامه.
7- الشرك في قوم نوح عليه السلام.
8- الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام.
9- الشرك عند العرب.
10- العبادة والنسك.
11- التبرك وسد الذرائع.
12- آثار الشرك في المسلمين.
13- الولاية.
14- الكرامة.
15- التصرف في الكون.
16- علم الغيب.
17- الكهانة، وما حكمها؟
18- السحر.
19- الرقية والعزيمة.
20- التميمة.
21- المحبة.
22- الدعاء.
23- الوسيلة.
24- الشفاعة.
25- الزيارات والمزارات.
26- الذبائح والزردات.
27- النذرة والغفارة.
28- اليمين.
29- هداة الشرك وحماته: قدم البدعة مصدرها التصوف - القطب، الإبدال، الخرقة، أصناف المحاربين للدعوة، القراءة على الموتى، الميثاق، الشيخ، الولي، يوم النظرة، الضمان، استلاب الأموال.
30- إلى الدين الخالص، ابتداء الحرب على حكومة القطب.
31- قصيدة العقبي وتأثيرها على الأمة.
32- خاتمة الأمر المعروف والنهي عن المنكر(30).
من الواضح لقارئ عناوين فصول "رسالة الشرك ومظاهره" أن "الميلي" قد وضع في بحث موضوعه خطة علمية تؤكد ما ذهب إليه في أنه لم يَحذُ فيما جمعه فيها حذوَ غيره من علماء العقيدة ومنهجيتهم في كتبهم، ممن سبقوه أو ممن عاصرهم، ويمكن أن نصف خطة "الميلي" في رسالته بـ"الخطة الأكاديمية"؛ حيث يمكن تصنيفها إلى ستة أبواب، وهي:
• تعريف الشرك، أهميته معرفته، والغرض من بيانه.
• نماذج من مظاهر الشرك في الأقوام السابقة، وإسقاطها على من يشبههم فيها من المعاصرين.
• مظاهر الشرك وأنواعه.
• من يقف وراء نشر الشرك ويحميه قديمًا وحديثًا.
• ضرورة مقاومة الشرك ومظاهره.
• خاتمة: قانون الإسلام الدائم لحفظ التوحيد ومقاومة الشرك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
تفيد معطيات هذا الفهرس غلَبةَ مواضيع مظاهر الشرك كسلوكات يومية في حياة الجزائريين بأسمائها وأماكنها، وكذا أسماء الداعين إليها، على موضوع "الشرك" كبحث عقدي بحت، ولا غرابة في ذلك إذا علمنا أنَّ هذه هي رغبة المؤلف، وكذا هدف جمعية العلماء، التي أقرت الرسالة باسمها؛ ذلك لأن الجمعية كانت تركز دومًا على الجانب العلمي والتطبيقي من الدين الإسلامي؛ حتى تحيي عباداته وأخلاقه وجميع شعائره - الصحيحة - كسلوكات يومية يعيشها المسلمون، ويتعاملون بها فيما بينهم، على ضوء معرفة أصولها من الكتاب والسنة، وعمل السلف الصالح.
وعليه؛ فتأكيد "الميلي" على جَرْد مظاهر الشرك بالاستدلال والتحليل إشارةٌ منه إلى أن الجزائريين والمسلمين - عمومًا - إنما كانوا يتبعون الطرق الصوفية في مَناسكها وشعائرها؛ ظنًّا منهم أنها طرُقٌ للعبادة، ووجوهٌ للعقيدة، وخفي عنهم أنَّما هي بالذات صورٌ للشرك؛ لكونها بدعًا وعقائدَ فاسدة، نشَرَها شيوخُ الزوايا والطرق الصوفية، وكرَّسوها بين أتباعهم، فحَلُّوا بها بينهم محلَّ المشرِّع الواحد، والمبيِّن المعصومِ صلى الله عليه وسلم.
فبدلًا من أن يُعبد الله عبَدوهم، وبدلًا من أن تُنشر سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في كيفيات العبادة، عمَّت طرائقُ هؤلاء وأورادُهم وأذكارهم، فوقع المسلمون في الشِّرك بدون علم!
وقد أدى عاملُ الوقت من جهةٍ - بتكاثرِ أتباع هذه الطرق مع الزمن وطول مدة الجمود الفكري - إلى تمكن هذه الطرق الصوفية من قلوب الناس وعقولهم، وسَطْوها على أموالهم وذممهم، الشيء الذي وقَف دون جهودِ علماء الدين المتوسمين بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في إبطال دعواتها وطرائقها، ودعوة الناس إلى الدين الصحيح، وتعدَّى الأمر إلى إثارة الأتباع ضدهم؛ مما أضاع حجتهم، وأذهب برهانهم أدراج الرياح.
خامسًا - رصد مظاهر الشرك بين الجزائريين، وتشخيص أسبابها:
لقد كان "الميلي" بارعًا في التمهيد لموضوعه الذي جعل منه حوارًا عقليًّا منطقيًّا بين طرَفين؛ بين سائلٍ ومجيب، ومع أن طرف السائل لا يَظهر في حيثيات المضمون، لكن يدل عليه عنوانُ كل موضوع على حدة، مما كان يستقيه من معطيات الحياة العقلية وقتئذٍ، وتساؤلاتها في هذا المجال.
ونرى "الميلي" لا يَبخل بحجةٍ أو آية أو حديث؛ للإحاطة في إجابته، منتقلًا بين المواضيع، باحثًا جزئياتها بالتدريج؛ مما يجعلنا نؤكد أن كل شيء في "رسالة الشرك ومظاهره" يدلُّ على أن الرجل كان في مهمَّة رسمية، تتطلب منه الدقة في العرض، والحُجةَ في الدعوى، لكن بأسلوب بسيط، يمكن وصفه أيضًا بالمدرسي؛ فهدفه لم يمكن لإبهار قُرَّائه بقدر ما كان إحقاقَ الحق وبيان الباطل في كل مظاهره، وهي مهمة جمعية العلماء بالذات.
1 -الحاجة إلى معرفة الشرك ومظاهره:
يقرِّر "الميلي" الطبيعة البشرية في طلب الحياة، والإفراط فيها أحيانًا، وميل الإنسان إلى المادة والشرك، وهو أكثرُ ما اعتنى به الكتاب والسنة دعوة وتحذيرًا"(31)؛ فأول ما كان المرسَلون يدعون إليه أقوامَهم هو التوحيد الخالص، وأول ما يُنكِرونه عليهم هو الشِّرك ومظاهره"(32). وهم لا يكتَفون بشرح التوحيد؛ وإنما يخصون موضوع الشرك ومظاهره عناية وتفصيلًا؛ حتى يَرسُخ في نفوس العامة الحذرُ منه، والابتعادُ عن وسائله، ولا يفقد المتأخرُ نصَّ [مَن] قَبْله في جزئية من ذلك.
لكن الذي وقَع بين المسلمين هو قلَّة خوضهم في موضوع الشرك ومظاهره؛ مما جعل الشرك "أخطر المعاصي معنًى، وإن كان أجْلاها حُكمًا، مع الإقرار بأن المسلمين عامتهم يتبرَّؤون منه، ويغضبون كل الغضب إن هم نُسبوا إليه"(33).
وقد أدى جهلُ المسلمين وخَفاءُ معنى الشرك عنهم أنْ وقَع منهم مَن وقع فيه وهم لا يَشعرون، ثم وجَدوا مِن أدعياء العلم من يسمِّي لهم عقائد الشرك وأعماله بأسماءٍ تَدخل في عقائد الإسلام وأعماله، ثم يُدافع عنهم ويحشرهم في زمرة أهل السنة، ويُشنِّع على العلماء الناصحين المتأسِّين برسول الله صلى الله عليه وسلم، عن خبرةٍ وصدق.(34)
ومما زاد خطرَ الشرك كما يقول الميلي: "هو اعتناءُ علماء الكلام به؛ ببيان عقائد الإسلام وسلوكهم في التدليل عليها سبيلَ المنطق اليوناني، ثم جمود المتأخرين على هذا الأسلوب، فحادوا بذلك عن بيان القرآن الكريم للشرك ومظاهره، فخَفِيَ على الناس ما هو الشرك، أو ما هو السبب إليه! وأضاع شيوعُ التقليد وذيوعُ الجمود حجةَ العلماء وبرهانَهم"(35).
ويختم "الميلي" هذا الموضوع بقوله: "ويا ليتَنا ترَكْنا كتب المتكلمين للخاصة، يَستعينون بها في مواطن الجدال مع الخصوم، ووضَعْنا للعامة كتبًا في العقائد على أسلوب الكتاب المَجيد؛ فيكون من تلك رياضةٌ للعقول وحمايةٌ للحق، ومن هذه طهارةٌ للقلوب وهدايةٌ للخير، وليس كلُّ الناس بحاجةٍ إلى تلك الرياضة، ولا لهم قدرةٌ على تلك الحماية، ولكنْ كلُّهم في حاجة إلى تطهير البواطن ومعرفة الهدى، فعمَّت الحاجة إلى معرفة الشرك ومظاهره"(36).
وبهذا يقرِّر "الميلي" مهمته وهدفَه المتوخَّى - والذي هو بالذات هدفُ جمعية العلماء - في تأليف كتابٍ - أو بالأحرى جمعِ ما كُتب فيه وحولَه في العقيدة - ليس على طريقة المتكلمين، وإنما على أسلوب القرآن الكريم، يكون المقصود منه خاصةً العامةُ من المسلمين، الجماهير المسلمة الجزائرية، وهم الذين انتشَر بينهم الشرك ومظاهره المختلفة.
ولَمَّا كان جميع المسلمين خاصتُهم وعامتهم في حاجة دائمة إلى تطهير البواطن ومعرفة الهدى؛ فإن كتاب "الميلي" هذا رسالةٌ للجميع في هذا المجال، ونتبين من هذه المهمة العلمية الدينية أن انشغال جمعية العلماء كان مُنصبًّا دائمًا وأساسًا على خدمة الجماهير؛ بتوعيتها وتعليمها، وتنبيهًا وتحذيرًا من مخاطر الشرك، ومن ثَمَّ تحريرها من سلطان الطُّرقية وأباطيلها؛ كخطوة أساسية لتحريرها من سيطرة الاحتلال.
2 –غرض "الميلي" من بيان "الشرك ومظاهره" هو تحذير المسلمين منه، لا الحكم عليهم به تعيينًا:
يقرِّر "الميلي" ما يلي: "إذا كان الاحتياجُ إلى معرفة الشرك شديدًا؛ كان تعريف الناس به أمرًا لازمًا أكيدًا، وإذا كان الباعثُ على هذا التعريف إقامةَ العقيدة، فهو من النصيحة المفيدة الحميدة، وليس الإرشادُ إلى الخير النافعِ بأولى من التنبيه على الباطل الضار؛ بل كلاهما غرضٌ حسَن، وسَنَن لا يَعدِل عنه الساعون، وهذا ما حمَل المصلحين المجدِّدين على الاهتمام بدعوة المسلمين إلى إقامة التوحيد، وتخليصه من خيالات المشركين"(37).
ويضيف "الميلي" بكل صراحة، مخصِّصًا إشارته إلى تفنيد ما تروِّجه الطرقية، ويدَّعيه بعض الجاهلين بالدين: "وغرَضُنا من الخوض في حديث الشرك تحذيرُ المسلمين منه، لا الحكمُ عليهم به تعيينًا! نحن بالعقيدة السلفية قائلون، وما نحن إلا وعَّاظ مرشدون، ولم ندَّعِ أننا حكَّام منفِّذون..."(38).
ثم قال: إن الآيات القرآنية وأحاديثَ الرسول صلى الله عليه وسلم تفيد "أنَّ مخاطبة المسلم باجتناب الشرك وأمره بالتوحيد ليس من الحكم عليه بالوثنية، ولا التعريض باشتماله عليها..."(39)، ومع ذلك "فإنَّ نُطق الجاهل بالشهادتين لا يمنَع عنه وصفَ الشرك"(40).
واستفاض "الميلي" في ذِكر الأدلة والبراهين، وانتهى إلى تقرير الغرض من بيان الشرك ومظاهره بالقول: "إن المسلمين قد عمَّهم الجهل، وفشا بينهم الدجل، وانتشرت فيهم البدع والمعاصي، وكثفت غفلتهم عن بوادر الأخذ بالنواصي، وهذا ضروري لا يستطيع جحدَه المكابرُ العنيد، والمسؤول عن هذه الحال هم العلماء؛ بكتمانهم لعلمهم، ومن ثم فإنَّ بيان العلماء لمسائل الشرك أداءٌ للأمانة، وقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم رجاءُ إصلاح حال المسلمين، وأن لا يكونوا حجة على هذا الدين، ولا سُبَّة بأفواه المتمدنين"(41).
وينتقل "الميلي" - بعد هذه التمهيدات التي رسَّخ بها الحاجة الماسَّة والمنطقية إلى معرفة الشرك ومظاهره، وضرورة الخوض في الحديث عنه - إلى تأكيد أن أنجحَ وسيلة في تنبيه المسلمين إلى ذلك هو الرجوعُ في بيانه إلى القرآن والسنة، وهو فِعلًا ما قام به في إيراد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تشتمل على الفصل فيه؛ مؤكِّدًا بأن هذه الآيات التي نزلت في الأقوام السابقة ملزمةٌ لكل الأقوام الحاضرة التي تُشبههم في مظاهر الشرك.
ثم بيَّن ذرائع الشرك وطبائعَه؛ معناه، وأقسامه، مُمثِّلًا ببعض أبرز مظاهره في أقوام الأنبياء؛ كقوم نوح وقوم إبراهيم عليهما السلام، وكيفياته عند العرب؛ لينتهي إلى خطورة آثاره على المسلمين عامة في الانحراف عن حقيقة الإسلام؛ كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ويخصِّص "الميلي" أكثرَ من مائتي صفحة للحديث عن مظاهر الشرك المختلفة؛ كما يُبيِّنه فهرس رسالته؛ بداية من "الولاية" وحتى "الضمان"، ضمن عناوينَ فرعية لبيان المعنى وشرح الكيفيات، وتقديم الأمثلة والنماذج بأسماء أصحابها و... إلخ؛ مما يؤكد لنا المغزى الحقيقيَّ من رسالته في محاربة البدع المتفشية في الواقع الجزائري، وكشف أباطيل شيوخ الزوايا الذين يعرفهم المسلم الجزائري، أو يسمع عنهم، أو يتعامل معهم.
الخلاصة:
وقد كانت "رسالة الشرك ومظاهره" - بِناء على كل ما تقدَّم، وبالإضافة إلى مختلِف وجوه نشاط الجمعية في هذا الميدان - الصَّيحةَ المخيفة، والرجَّة العنيفة التي وجَّهَها العلماء إلى شيوخ الزوايا، وأتباعهم، وكذا إلى إدارة الاحتلال التي تستغلُّهم لمصالحها ضد مصالح الشعب الجزائري، والذين كانوا لها مطيَّةً لضرب أقدَس ما عند الجزائريين؛ دينهم الإسلامي.
ومن ثم يأتي منطقيًّا الفصلُ الختامي في كتاب الميلي: "حرية الوعظ والإرشاد" (42)، الذي وجه كلامه فيه إلى كل من يسعى ضد الجزائري من أن يتعلم دينه ولغته، وشنَّع على العلماء عدم قيامهم بهذا الواجب لدى دائرة الاحتلال بقصد منعهم، فقال: "ألا فليَعلَم هذا مَن سعَوا في منع العلماء غيرِ الموظَّفين من الوعظ بالمساجد، وليَعْلمه مَن سرَّهم ذلك المنع، وليَعلمه المؤيدون للعملاء في الاحتجاج على ذلك المنع"(43).
ثم ذكَّر بعناية السلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشجاعتهم في قول الحق دون أن يخافوا حاكمًا أو ظالمًا أو لائمًا، وعاتب علماءَ الخلف تقصيرهم في أداء هذا الواجب.
ومن جهة أخرى فإن "رسالة الشرك ومظاهره" تُعدُّ الحجة العِلمية والدليلَ الواقعي على تفنيد مزاعم الاستعمار العالمي الذي يستغل جهل الأمم في الإمعان في تخديرها؛ ليَضمن استعباده لها، ثم الردَّ على الاحتلال الفرنسي في الجزائر - بالذات - الذي عرَف كيف يستغلُّ رجل الدين - من الأئمة الرسميين، وشيوخ الطرق الصوفية، ورؤساء الزوايا - "في سبيل تحويله إلى أداة تهيِّئ الغطاء الإيديولوجي لعمليات الظلم والافتئات على كرامة الإنسان، وحقِّه في الحياة والحرية وتقرير المصير"(44).
فبعد أن استولَت إدارة الاحتلال على المؤسسات الدينية، واستحوذت على أموالها، وحوَّلَت إنفاقها على مشاريعها الاستعمارية - عملت على تضييق ممارسة الجزائريين لدينهم في ممارسات خاصة، ولَّت سُلطتَها الروحيةَ فيها إلى رجالِ دين صنَعَتهم تحتَ رعايتها وبتوجيهها، ثم عملت بطرقٍ خفية وغير نزيهة على تمييع المعاني الاجتماعية للشعائر الإسلامية، وإفراغ هذه من كل مضمون، "حتى أصبحت الممارسة الدينية على صعيد الجماهير طقسًا مفرَّغًا من أي مضمون، يُسهِم في تكريس الواقع، ويعرقل كل محاولة جادَّة للنهوض به وتغييره"(45).
ثم عادت إدارة الاحتلال لتروِّج - ضمن حملاتٍ تشويهية وتيئيسية - لادِّعاءات باطلة، تُعيد أسبابَ تخلف المسلمين الجزائريين - وكل المسلمين - إلى الإسلام الحنيف، حتى أصبح معروفًا ومسلَّمًا به عند الجميع بأن "الدين أفيون الشعوب"!
وتأتي "رسالة الشرك ومظاهره"؛ لتكشف خيوط الحقيقة، وتشرح معطيات الواقع، فتسلِّح المسلمَ عموما والمسلم الجزائري على وجه الخصوص نفسيًّا وعِلميًّا، وتُكسِبه حصانة العقل، ومناعةَ الحجة الصحيحة، وتُهيِّئ به القواعد العلمية السليمة لإيدولوجيا التغيير الجاد، الذي يبدأ بإصلاح النفوس، والذي سيُفضي إلى إصلاح الجبهة الداخلية، الذي يفضي بدوره في النهاية إلى التحرُّر من كل أسباب الهيمنة الروحية الفاسدة، والمادية الظالمة.
ومِن ثَم فالتحرُّر من الطرقية الفاسدة هو نفسه الطريقُ الذي يؤدي إلى التحرر من قبضة الاحتلال الفرنسي، وهذا ما أكده تقريرُ جمعية العلماء لرسالة "الشرك ومظاهره"، حين قال: إنها "رسالة تعد في أوَّليات الرسائل أو الكتب المؤلَّفة في نصر السنن وإماتة البدع، تقَرُّ بها عينُ السنة والسنِّيين، وتنشرح لها صدورُ المؤمنين، وتكون نكبة على أولئك الغاشِّين للإسلام والمسلمين، من جهَلةِ المسلمين، ومن أحمرة المستعمرين الذين يجدون من هذه البدع أكبرَ عون لهم على استعباد الأمم، فيتخذون هذه البدع التي ينسبها البدعيون إلى الدين الإسلامي مخدِّرًا يخدِّرون بها عقول الجماهير، وإذا تخدَّرَت العقول، وأصبحَت تُروِّج الأوهام، وجدت الأجواء التي تروجها غُلاة المستعمرين للأمم المصابة برؤساء دينيين أو دنيويين، يغشون أممهم ويتاجرون فيها"(46).
لقد بذل" الميلي" الجهد والوُسْع، وجمع مادته العلمية من مصادرها، ذَكَرها ونسبها إلى أصحابها، لكن المجهود الأكبر كان في رصد مظاهر الشرك بين الجزائريين، وبحثِ أسبابها، وشرحِ خفايا الشرك فيها، ثم قدَّم علمه في رسالة علمية وصفَها بالهديَّة؛ قيامًا بواجب النصيحة لشعبه، وكان هدفه رضا الله تعالى بعد تقديم دليل الجهاد الفكري؛ أوَّل أسس التغيير قبل التحرير، فأدى الدين في المجال عن الجزائر بمعية ما قدَّمه إخوانه المصلحين كلٌّ في مجاله ودوره، رحمهم الله جميعًا.
المراجع:
1- نقرأ ثلاثة تواريخ لميلاد للشيخ مبارك الميلي رحمه الله وهي على التوالي 1896 و1897 و1898 وهي كما نلاحظ متقاربة جدًّا، فقد أورد الشيخ أحمد حماني رحمه الله سنة 1896 في كتابه: صراع بين البدعة والسنة، دار البعث، قسنطينة، ج 2، ص 35. بينما ذكر الأستاذ "علي دبوز" تاريخ 1898 في كتابه: أعلام الإصلاح في الجزائر، دار البعث، قسنطينة، ط1، ص 31. وذكر محفوظ قداش تاريخ 1897 في كتابه:Histoire du Nationalisme Algerien ;Tome 2;ENAL ;2eme edition ;. كما ذكر عبدالكريم بو الصفصاف أيضًا تاريخ 18: انظر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعلاقاتها بالحركات الجزائرية الأخرى (1931 - 1945)، دراسة تاريخية وإيديولوجية مقارنة، منشورات المتحف الوطني للمجاهد، طبعة المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار، الجزائر، 1996.
2- تقع على نحو خمسين كيلومترًا شمال مدينة قسنطينة.
3- كانت الدراسة في الزيتونة لا تتجاوز الأربع سنوات.
4- محمد الصالح بن عتيق، أحداث ومواقف من رجال الدعوة الإصلاحية والحركة الوطنية بالجزائر، منشورات دحلب، ص 48.
5- أكمل محمد البشير الإبراهيمي والطيب العقبي دراساتهما في الحجاز، أما العربي التبسي فقد درس في الأزهر الشريف، بينما مبارك الميلي ففي الزيتونة، وبالإضافة إلى هؤلاء نجد محمد الأمين العمودي، والشيخ خير الدين، وأحمد توفيق المدني، والمولود بن الصديق الحافظي، ومحمد العيد آل خليفة، وأبا يعلى الزواوي وغيرهم كثير.
6- عبدالمالك مرتاض، نهضة الأدب العربي المعاصر في الجزائر، النهضة الفكرية، النهضة الصحفية والأدبية، النهضة التاريخية، الجزائر، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1983، ج 1 وج 2.
7- سجل مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الجزائر، دار الكتب، المطبوعات الجميلة، 1982، ص 51.
8- نادي الترقي هو المقر الرسمي لجمعية العلماء في مدينة الجزائر العاصمة
9- تاريخ الجزائر في القديم والحديث" هو العنوان الذي اختاره الميلي لكتابه؛ بما يوضح أهدافه منه، وقد قسمه صاحبه إلى أربعة أقسام، أكمل ثلاثة منها، وجاءت في جزأين تم طبعها في المطبعة الإسلامية الجزائرية، ونشرت في حياة الشيخ على التوالي في 1928 و1932، بينما لم يحقق "الميلي" الجزء الثالث الذي تولَّى ابنه إكماله بعد وفاة والده رحمه الله، وقد احتفلت جمعية العلماء بهذا الإنجاز واحتفت بصاحبه.
10-هذا ما قاله الدكتور أبو القاسم سعد الله عنه، انظر: الحركة الوطنية، ج2، ص426.
11-انظر: أحمد حماني، المصدر السابق، ص 18.
12-مبارك الميلي، رسالة الشرك ومظاهره، مصدر سابق، ص 13.
13-رواه أبو داوود: والحاكم والبيهقي وغيرهم بإسناد صحيح: وأخرجه أبو داود في كتاب الملاحم: باب ما يذكر في قرن المائة. انظر: أبو داود سليمان بن الأشعث بن اسحاق الأزدي السجستاني: سنن أبي داود: تعليق: الشيخ أحمد سعد علي، (مصر، مطبعة مصطفى البابي 1953 م) ج2، ص 424.
14-مبارك الميلي، رسالة الشرك ومظاهره، المصدر السابق، ص14 - 15.
15-سجل مؤتمر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مصدر سابق ص 50.
16-المصدر نفسه، ص 50 - 51.
18-عبدالحميد بن باديس، مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، الجزائر، مطبوعات وزارة الشؤون الدينية، 1982.
19-عبدالحميد بن باديس، مجالس التذكير من كلام البشير النذير، الجزائر، مطبوعات وزارة الشؤون الدينية، 1983.
20-رسالة الشرك ومظاهره، ص 5 - 6.
21-المصدر نفسه، ص 7 - 8.
22-رسالة الشرك ومظاهره، ص 8.
23-المصدر نفسه، ص 15.
24-المصدر نفسه، ص 15.
25- - AliMerad,Le Réformisme Musulman en Algerie،de 1925 - 1940،Essais d'Histoire Religieuse et Sociale،Paris،La Haye,1972, p 267.
26-رسالة الشرك ومظاهره، ص 7.
27-المصدر نفسه، ص 295.
28-رسالة الشرك ومظاهره، ص 296 - 297.
29-المصدر نفسه، ص 15.
30-رسالة الشرك ومظاهره، انظر: فهرس المواضيع، ص 298 - 299.
31-رسالة الشرك ومظاهره، ص 18.
32-المصدر نفسه، ص 19.
33-المصدر نفسه، ص 20.
34-رسالة الشرك ومظاهره، ص 21.
35-المصدر نفسه، ص 21.
36-المصدر نفسه، ص 22 - 23.
37-المصدر نفسه، ص 23.
38-المصدر نفسه، ص 25.
39-رسالة الشرك ومظاهره، ص 26.
40-المصدر نفسه، ص 27.
41-المصدر نفسه، ص 30.
42-المصدر نفسه، ص 291.
43- المصدر نفسه، ص 290.
44-عبدالرحمن سلوادي، المصدر السابق، ص287.
45-رسالة الشرك ومظاهره، ص287.
46-المصدر نفسه، ص 8.