الشرك ومظاهره عند العلامة ابن باديس
بقلم: د. محمد حاج عيسى-
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فهذه نصوص للعلامة ابن باديس في بيان التوحيد والتحذير من مظاهر الشرك وحكم من وقع فيه، رتبناها وأضفنا إليها العناوين التي تدل على مضمونها نسأل الله أن ينفع بها.
معنى التوحيد والعبادة
قال في العقائد(66-68)« التوحيد هو اعتقاد وحدانية الله وإفراده بالعبادة، والأول هو التوحيد العلمي والثاني هو التوحيد العملي ». (الأول) «توحيده في ربوبيته وهو العلم بأن لا خالق غيره ولا مدبر للكون ولا متصرف فيه سواه …(والثاني) توحيده في ألوهيته، وهو العلم بأنه تعالى هو المستحق للعبادة وحده دون سواه، والقصد والتوجه والقيام بالعبادات كلها إليه…ووحدانيته في ربوبيته تستلزم وحدانيته في ألوهيته فالمنفرد بالخلق والرزق والعطاء والمنع ودفع الضر وجلب النفع هو الذي يجب أن يفرد بالعبادة، التي هي غاية الخضوع والذل مع الفقر والحاجة للعزيز الغني القادر المنعم».
وقال (1/96):«فالعبادة بجميع أنواعها لا تكون إلا له، فذل القلب وخضوعه والشعور بالضعف والافتقار والطاعة والانقياد والتضرع والسؤال هذه كلها لا تكون إلا لله، فمن خضع قلبه لمخلوق على أنه يملك ضره أو نفعه فقد عبده، ومن شعر بضعفه وافتقاره أمام مخلوق على أنه يملك إعطاءه أو منعه فقد عبده، ومن ألقى قياده بيد مخلوق يتبعه فيما يأمره به وينهاه غير ملتفت إلى أنه من عنده أو من عند الله فقد عبده، ومن توجّه لمخلوق فدعاه ليكشف عنه السوء أو يدفع عنه الضر فقد عبده«.
من مظاهر الشرك
أولا: دعاء غير الله
قال في الآثار (2/96):« فأصل عقيدة الشرك عند عرب الجاهلية أنهم يعلمون أن الله تعالى هو خالقهم وهو يرزقهم وهو المالك لجميع مخلوقاته ولكنهم يجعلون توجههم وتقربهم وتضرعهم لآلهتهم على اعتقاد أنها تقربهم إلى الله، وفي الناس اليوم طوائف كثيرة تتوجه لبعض الأموات وتتضرع وتناديهم على اعتقاد أنها تقربهم إلى الله ويتوسطون بها إليه، ويزيدون أنهم ينصرفون لها بقضاء الحوائج وجلب الرغائب ودفع المصائب».
ثانيا: الاستعانة بغير الله
قال رحمه الله (2/113):« إذا نظرنا في حالة السواد الأعظم منا معشر المسلمين الجزائريين، فإننا نجد هذه الكلمات شائعة بينهم فاشية على ألسنتهم؛ وهي:"بربي والشيخ" وهم يعنون أن ما يفعلونه هو بالله وبتصرف الشيخ ، "بربي والصالحين"، و"بربي والناس الملاح"، "إذا حب ربي والشيخ"، "شوف ربي والشيخ"، وهي كلها من كلمات الشرك كما ترى، فأما قولهم بربي والشيخ ونحو فمما لا يجوز أن يذكر فيه المخلوق قطعا لأن ما نفعله هو بالله وحده أي بتقديره وتيسيره ولا دخل للمخلوق فيه ، وأما قوله "إذا حب ربي والشيخ" فمما لا يجوز إلا بلفظة "ثم"، فيكون بمعنى إذا شاء الله ثم شاء الشيخ إذا كان هذا الشيخ حيا وكان الأمر مما يمكن أن تدخل مشيئته فيه ».
ثالثا : اعتقاد الضمان
قال رحمه الله (2/52):« لما سأل هذا الصحابي النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء وأرشده إلى العمل الصالح وهو كثرة السجود، ولم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم إنني ضامن لك ذلك، ولا أنت مضمون، ولا أنت في ضماني، لأن العبد لا يجوز له أن يضمن على خالقه بدون إذنه شيئا، وإذا كانت الشفاعة التي طلب منه لا تكون عنده إلا بإذنه، فكيف بالضمان الذي هو التزام على القطع، فمن الغرور العظيم والجهل الكبير والجراءة الكبرى على الله تعالى؛ قول بعض المدعين:"روح راك مضمون"، وقول آخرين من دخل دار كذا فهو مضمون، و"أنا ضامني شيخي" و"يا دار الضمان"».
رابعا : الذبح لغير الله
قال رحمه الله (2/96) «ومن أعمال المشركين في الجاهلية أنهم يسوقون الأنعام لطواغيتهم فينحرونها عندها طالبين رضاها ومعونتها، وفي الناس اليوم طوائف كثيرة تسوق الأنعام إلى الأضرحة والمقامات تنحرها عندها إرضاء لها وطلبا لمعونتها أو جزاء على تصرفها وما جلبت من نفع أو دفعت من ضر».
خامسا : النذر والتبرك
قال رحمه الله (2/97):« كانت عبادة الأوثان في الجاهلية بالخضوع والتذلل لها ورجاء النفع وخوف الضر منها، فينذرون لها النذور وينحرون لها النحائر ويلطخونها بالدماء ويتمسحون بها، وفي الناس اليوم طوائف كثيرة لها أشجار ولها أحجار تسميها بأسماء وتذكرها بالتعظيم، وتحرق عندها البخور وتتمسح وتتمرغ عليها مثل فعل الجاهلية أو يزيد ».
سادسا : إثبات علم الغيب لغير الله
قال في العقائد (71):» ومن توحيده تعالى في ربوبيته الاعتقاد أن العبد لا يعلم الغيب وهو ما غاب عن الحواس «.
سابعا: الحلف بغير الله
قال رحمه الله في الآثار (2/96-97):« ومن أقوال المشركين في الجاهلية حلفهم بطواغيتهم وتعظيمهم لها، وفي الناس اليوم طوائف كثيرة يحلفون بالله فيكذبون ويحلفون بمن يعظمون من الأحياء أو الأموات فلا يكذبون. فهذه الطوائف الكثيرة قد لحقت بالمشركين وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ( لا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين )«.
ثامنا :رفض الأحكام الشرعية
قال رحمه الله في الآثار (3/308): « ومن رفض حكما واحدا من أحكام الإسلام عُدَّ مرتدا عن الإسلام بالإجماع ».
تاسعا: التحليل والتحريم
قال رحمه الله في العقائد (69):« ومن توحيده تعالى توحيده في شرعه فلا حاكم ولا محلل ومحرم سواه». وقال (1/417): «ضلوا في الربوبية باتخاذ المشرعين ليشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ويصدوهم بذلك عما شرع الله ».
عاشرا: تفضيل كلام البشر على كلام الله
قال رحمه الله (3/313):« القرآن كلام الله وصلاة الفاتح من كلام المخلوق ومن اعتقد أن كلام المخلوق أفضل من كلام الخالق فقد كفر، ومن جعل ما للمخلوق مثل ما لله فقد كفر بجعله لله ندا فكيف بمن جعل ما للمخلوق أفضل مما للخالق».
أسباب الشرك
أولا: الغلو في الصالحين
قال رحمه الله في الآثار (5/34-35) :» والسكوت عن هذا أو نحوه أدى بالعامة إلى الغلو في الأولياء رضي الله عنهم غلوا أنطقهم بألفاظ الشرك ، وصدع منهم عقيدة التوحيد التي هي أساس الإيمان ، فإذا دعوا قالوا:"يا رب يا فلان"، وإذا أصابتهم نعمة من الله قالوا:"هذا من الله ومن فلان"، وإذا حلف أحدهم فإنه يحلف بالله وبفلان ، بل بلغوا إلى ما هو أشنع وأبشع ، يأبون من الحلف كذبا بشيوخهم ويكذبون في الحلف بالله والنهي عن الحلف بغير الله تعالى معلوم مشهور «.
ثانيا: بناء المساجد على القبور
وقال رحمه الله في الآثار (2/151): « هذه هي حالتنا اليوم … تجد أكثر أو كثيرا من مساجدنا مبنية على القبور المنسوب أصحابها إلى الصلاح ، ومنهم من كانوا معروفين بذلك ومنهم المجهولون، فإن قيل : إنما بنيت المساجد على تلك القبور للتبرك بأصحابها لا لعبادتهم، قلنا : إن النهي جاء عاما لبناء المسجد على القبر ، بقطع النظر عن قصد صاحبه ، ولو كانت صورة البناء للتبرك غير مرادة بالنهي على العموم ، ذلك لأنها وإن لم تؤد إلى عبادة المخلوق في الحال فإنها مظنة أن تؤدي إلى ذلك في المآل وذرائع الفساد تسد لا سيما ذريعة الشرك ودعاء غير الله التي تهدم صروح التوحيد ، وانظر إلى ما جاء في حديث ابن عباس في أصنام قوم نوح وكيف كان أصل وضعها ، وكيف كان مآلها، وتعال إلى الواقع المشاهد نتحاكم إليه، فإننا نشاهد جماهير العوام يتوجهون لأصحاب القبور ويسألونهم وينذرون لهم، ويتمسحون بتوابيتهم، وقد يطوفون بها، ويحصل لهم من الخشوع والابتهال والتضرع ما لا يشاهد منهم إذا كانوا في بيوت الله التي لا مقابر فيها، فهذا هو الذي حذر منه الشرع قد أدت إليه كله، وهبها لم تؤد إلى شيء منه أصلا، فكفانا عموم النهي وصراحته«. منها قوله صلى الله عليه وسلم « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » متفق عليه.
ثالثا: جهل معنى العبادة
قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ( (الفرقان:68) (1/299): «من دعا غير الله فقد عبده: ما يزال الذكر الحكيم يسمى العبادة دعاء ويعبر به عنها، ذلك لأنه عبادة فعبّر عن النوع ببعض أفراده، وإنما اختير هذا الفرد ليعبر به عن النوع لأن الدعاء مخ العبادة وخلاصتها، فإن العابد يظهر ذله أمام المعبود وفقره أمام غناه وعجزه أمام قدرته وتمام تعظيمه له وخضوعه له بين يديه ويعرب عن ذلك بلسانه بدعائه وندائه وطلب حوائجه منه. فالدعاء هو المظهر الدال على ذلك كله، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله هليه وسلم: « الدعاء هو العبادة، ثم قرأ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر:60)»… فتطابق الأثر والنظر على أن الدعاء عبادة فمن دعا غير الله فقد عبده وإذا كان هو لا يسمي دعاءه لغير الله عبادة فالحقيقة لا ترتفع بعد تسميته لها بغير اسمها والعبرة بتسمية الشرع التي عرفناها … لما ثبت أن الدعاء عبادة فالداعي عابد والمدعو معبود والمعبود إله فمن عبد شيئا فقد اتخذه إلهه لأنه فعل له ما لا يفعل إلا للإله، فهو وإن لم يسمه إلها بقوله فقد سماه بفعله، ألا ترى إلى أهل الكتاب لما اتبعوا أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم وهما لا يكونان إلا من الرب الخالق العالم بالمصالح قال الله تعالى فيهم : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة:31) وإن كانوا لا يسمونهم أربابا فحكم عليهم بفعلهم ولم يعتبر منهم عدم التسمية لهم أربابا بألسنتهم، فكذلك يقال فيمن دعا شيئا».
العذر بالجهل قبل التعليم
قال رحمه الله في الآثار (1/158):« الداعي لغير الله تعالى يطلب منه قضاء حوائجه قد عبد من دعاه وإن لم يعتبر دعاءه عبادة لأن الله قد سماه عبادة ، وإذا استمر على فعله مستحلا له بعد تعليمه وإرشاده يكون قد أنكر معلوما من الدين بالضرورة وهو أن العبادة والدعاء منها لا تكون إلا لله فيحكم بردته نظير مستحل الصلاة بلا وضوء بلا فارق».
الآثار المحال عليها : جمع وطبع وزارة الشؤون الدينية