موقف ابن باديس من بعض القضايا المعاصرة له

بقلم: د. علي الصلابي-

رأي ابن باديس في الفن والجمال:

لم يكن ابن باديس من أولئك الفقهاء الذين لا يفكرون إلا في القيم الأخلاقية والمنطقية، بل إنَّه اهتم بالقيم الجمالية أيضاً، فكتب مقالاً عنوانه: الفن الأدبي في الحديث النبوي: فتحدث عن جمال الصوت وعن الصورة الرائعة التي صوَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم النساء في قوله، مما رواه البخاري في صحيحه عن أبي قلابة عن ثابت البناني عن قتادة عن أنس أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم حاد يقال له أنجشه، وكان حسن الصوت، والنبي صلى الله عليه وسلم في مسير له، فحدا الحادي وكان يحدو بهنَّ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويحك أنجشه رويداً بالقوارير. وذلك أنه لما غنَّى أنجشه للإبل، وكان على ظهورها النساء أخذت في السير، وأشفق النبي عليهنَّ، فأمر الغلام الفارسي الحادي وهو أنجشه أن يرفق بهنَّ لشدة ما يجدن من الاضطراب على ظهور الإبل، وهي تسرع في سيرها، فعبر عن ذلك بصورة جذابة فشبه النساء بالقوارير أو الزجاجات لما فيها من بياض ولمعان ورقة، ولما في النساء أيضاً من رقة العواطف ولطفها وسرعة انكسار قلوبهنَّ وتأثيرها وعسر انجبارها.

وقد حاول ابن باديس أن يعرف لنا مفهوم الفن فبين لنا أنه: إدراك صفات الشيء على ما هي عليه من حسن وقبح إدراكاً صحيحاً، والشعور بها كذلك شعوراً صادقاً والتصوير لها تصويراً مطابقاً بالتعبير عنها بعبارات بليغة في الإبانة والمطابقة للحال ذلك هو الفن الأدبي، فالفن الأدبي عنده يتكون من عناصر إدراكية شعورية وتعبيرية، ومن مطابقة. والفنان هو ذلك الإنسان الذي يدرك صفات الشيء الحسنة والقبيحة إدراكاً صحيحاً، وهو الذي يشعر بتلك الصفات وينفعل بها بصدق، ثم يعبر عن إدراكه وتجربته الشعورية تعبيراً مبيناً بليغاً، على أن يكون ذلك مطابقاً للحال.

ويلاحظ القارئ أن ابن باديس جرى على رأي رجال البلاغة في أصل من أصول البلاغة والنقد، ألا وهو مطابقة الكلام لمقتضى الحال، كما أنه اشترط التصوير أن يكون مطابقاً، فكأن المطابقة هنا تشبه لحد ما ما يسميه أرسطو بالمحاكاة، والواقع أن الفنان يبدع الصور ويضفي على الأشياء أخيلة وظلالاً ذاتية ما كان لها أن تعتبر مطابقة للواقع الخارجي أو محاكية له.

ويمكن القول بأن ابن باديس ذهب في الفن مذهباً منطقياً يتصل بالحق أكثر من اتصاله بالإبداع الفني، لأنه اعتبر الفن إدراكاً لصفات الشيء على ما هي عليه في الواقع الخارجي، فكأن الصورة الفنية نسخة مما هو واقع في العالم الخارجي، على نحو ما يتصور الفلاسفة الحقيقة التي يرون أنها مطابقة ما في عالم الأذهان لما في عالم الأعيان، ولم يكن بهذا الاعتبار مثل شيء جديد أبدعه الفنان سوى التعبير الذي يمتاز بالإبانة والبلاغة.

ولكننا نجد ابن باديس يضيف إلى عناصر الصورة الأدبية الفنية عنصراً آخر يتوِّجها،وهو اللذة التي تحصل للمتذوق ؛ لأن هذه اللذة في نظر ابن باديس تدفع عن الإنسان ما يجده من متاعب الحياة وأوصابها والامها ؛ لأن الاثار الفنية تدخل على النفوس انشراحاً وبهجة وصفاء.

وأدرك ابن باديس أيضاً ما يسمى في الفن بالتواصل أو المشاركة الوجدانية فقال: لذا كان أكثر الفن الأدبي في تصوير الحسن وعرضه على الناس، ليشاركوا الفنان في إدراك ذلك الحسن والشعورية والتذوق للذة ذلك الإدراك والشعور. وبين لنا باعتباره مربياً ومعلماً دور تربية الذوق الجمالي وغرسه في النفوس، لتتمكن من الشعور بما في هذا الكون من آيات الجمال.

وذكر أن القرآن الكريم مفعم بصور ومشاهد تعرض علينا افاق الكون في صورها الجذابة الجميلة، وأشار أيضاً إلى أن الحديث النبوي يشتمل على روائع من الفن الأدبي وخوالد من الاثار الرفيعة، كما أنه استشهد بقصيدة كعب بن زهير الذائعة التي ألقاها أمام النبي صلى الله عليه وسلم : فوصف المرأة والماء الذي مزجت به الخمرة والناقة وصورها تصويراً فنياً، ولم ينكر عليه لأنه لم يكن يصف شخصاً معيناً يؤدي وصفه إلى إثارة الشهوة البهيمية نحوه، وإنما للنفوس البشرية صورها الجمالية، وننمي فيها قوة الشعور والذوق.

ولم يخف على ابن باديس أن ينبهنا إلى ما في الحديث من فقه نفسي، فحلل الحديث تحليلاً فقهياً نفسياً، وأوضح أن فيه تنبيهاً على نبذ التشديد والتنطع فيما لا عيب فيه ولا قبح في معناه ولا فحش في لفظه من جهة وفيه أيضاً: التنبيه على المحافظة على قلوبهن «النساء» وعواطفهن ليدوم ودهنَّ وسلامتهنَّ، ويدوم الهناء معهنَّ والاستمتاع بهنَّ لأنهنَّ ضعيفات القلوب رقيقات العواطف، شديدات الإحساس، يصبرن على كل شيء من الرجل إلا على كسر قلوبهنَّ ومسِّ عواطفهنَّ.

ومن جهة أخرى نجد أن ابن باديس يتصور الإسلام على أنه حقيقة قائمة على عناصر ثلاثة: الحياة والعلم والفن، فقال: الإسلام دين الحياة والعلم والفن، والحياة قوة إيمان وجمال، والعلم يمثل القوة، والفن يمثل الجمال.

بيد أن ابن باديس ربط بين القيمة الجمالية والقيمة الخلقية، فذهب إلى أن الدعوة إلى الجمال والتحبب في جميع مظاهر الحياة يجب أن تكون في إطار العفاف والفضيلة وساق عدة آيات قرانية في هذا المعنى منها:

ـ قوله تعالى: َ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *} [التين : 4].

ـ وقوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر : 64].

ـ وقوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس : 24].

ـ وقوله: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} [النمل : 60].

ـ وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف : 32].

ـ وقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ *} [النور : 30].

ويرى أن القرآن نفسه استخدم الصورة الجمالية في الدعوة إلى الهداية وإلى التأمل في الطبيعة: يعرض علينا القرآن صوراً من العالم العلوي والسفلي في بيان بديع جذاب، يشوقنا إلى التأمل فيها والتعمق في أسرارها. إن الجمال في نظره يصبح أحياناً فتنة إن لم يُحَط بسياج من الأخلاق، وإذا كان العالم ينطوي على جمال فإنه يصير شراً ووباءً على من اتبع هواه واستبعد عقله. هذا العالم بمائه وأرضه وأزواجه هو فتنة للإنسان بما فيه من لذائذ ومن جمال.

إن ابن باديس زارع محبة وداعي إلى المعاني الحقيقية للمذهب الإنساني، ورحابة الأفق، وعلم الناس أن الجمال مقوم من مقومات الحضارة، وأن التربية الجمالية وتنمية الذوق من أسس التربية الخلاقة للشخصية الحرة الشاعرة بذاتيتها وحريتها وقوتها، المتذوقة لما في العالم من جمال، المتعاطفة مع ما في الإنسان من محبة وما في جوهره من كرامة متأصلة.

في مجال الدفاع عن الإسلام والمسلمين: ورده على طه حسين:

كان الإمام ابن باديس على الأهبة والاستعداد كل لحظة للدفاع عن الإسلام ومقدساته والرد على أولئك الذين يناطحون صخرته ويشوِّهون صورته،، ويقيمون الدليل من عملهم وسلوكهم على جهلهم بالإسلام، أو على فساد فطرهم، وعماية قلوبهم، وسوء أخلاقهم ونواياهم، فما إن يرى منهم كفراً، أو يسمع منهم منكراً ؛ حتى يعلنها في وجوههم صرخة مدوية تقمع النفوس، وتخرس الألسن.

وفي هذا المجال يكتب عن «الرسميين» الذين ملكت الوظائف رقابهم: فأنستهم أنفسهم فباعوا ضمائرهم في مرضاة من يبتغون عندهم العزة، وذهبوا من الملق والتزلف إلى أقصى ما يبلغه المتزلفون والمتملقون، ويقول فيهم: لم يكفهم ما قدموا من أنفسهم ومن قومهم، وما كذبوا ولفقوا بألسنتهم عن غيرهم. فمدوا أيديهم، ـ شلت أيديهم ـ إلى الإسلام والقران، يكذبون ويحرفون.

ويكتب الدكتور طه حسين كتابه «على هامش السيرة» الكريمة على منوالها فأظهرها بمظهر الخرافات الباطلة، والأساطير الخيالية، حتى ليخيل للقارئ أن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم ما هي إلا أسطورة من الأساطير. وفي هذا الدسّ والبهت ما فيه ومن العجب أن قام أحد الكتاب في مجلة «الرسالة» يُطري في هذا الكتاب ويجعله الدليل على أن طه حسين ما يزال أزهرياً رغم كل شيء.

فيقوم طه حسين في العدد الثاني من «الرسالة» فيصدق ذلك الكاتب فيما ادعاه له من رسوخ أزهريته وديانته حتى ليظن القارئ للمقالين أنهما ولدا في مجلس واحد، فالدكتور طه حسين الذي كان يقول عن الإسلام ما شاء ولا يبالي بالمسلمين أصبح اليوم ـ بعدما أخرج من الجامعة ـ يحسب للمسلمين حساباً، فلا يكتب شيئاً إلاوهو يكرر أنه مسلم، وأنه يعظم الإسلام، ولكن ما انطوى عليه صدره يأبى عليه إلا الظهور كما بدا في كتابه هذا الأخير.

ونشرت مجلة «المقتطف» الشهيرة مقالاً يقول فيه كاتبه تحت هذا العنوان: «مفاخر أور الكلدانيين»: لقد جاء في بعض الخرافات العربية القديمة أن عاصفة من الرمل ظهرت بمدينة عاد، فأصبحت بعد العاصفة لا عين لها ولا أثر.

فرد عليه الإمام رداً مفحماً، قوامه العقل البصير، والحجة الدامغة، والعلم الصحيح، ومما قاله فيه: لا نشك أن كاتب المقال ليس مسلماً، كما لا نرتاب أنه لا يجهل أن قصة عاد من قصص القران: فتعبيره عنها بالخرافة من سوء الأدب الذي ما عهدناه في المرحوم الدكتور صروف الذي كان في علمه وفلسفته وشدة تحقيقه ديناً صحيح التدين، محترماً لكتب الأدباء. ثم حقق الإمام القصة في ضوء القرآن والتاريخ بأسلوبه العلمي المشرق ما يجعلها في مجالها وأفقها البين.

ونشرت مجلة «الرابطة الشرقية» في عددها الثالث من المجلد الثاني مقالاً بإمضاء علوي، تحدَّث فيه الكاتب عن الخلاف الواقع بين العلويين الأشراف الحضارمة، والإشاديين في جاوة وسنغافورة، وذكر في مستهل حديثه «الجزائر» لينظر بها فقال: إليك نبأ عن الجزائر فإن في أرجائها حركة تحسبها حركة نهوض لشعبها العربي الذي… إلى صورة مشوهة من العجمة بالعسف والجهل وعدم المعونة في سلوك سبيل الحياة إلى آخر هذا الدهر، فرد عليه الإمام رداً علمياً قائماً على الحجة ووضح حقيقة هذه الحركة وأهدافها لمن يجهلها أو يتجاهلها.

وكتب الأستاذ عبد الحميد العبادي مقالاً تحت هذا العنوان: بلاد عربية تحتضر فيها العربية، نشره في الرابطة العربية سنة 1939م، وكان يقصد المغرب العربي، فنشره الإمام في «الشهاب» وعلق عليه بهذه الكلمة الوجيزة الوافية: كلا بل هي ـ العروبة ـ اليوم تزدهر. فقال لهم الله: موتوا ثمَّ أحياهم.

كلما يرتفع صوت معادٍ للإسلام هنا أو هناك بما يسيء إليه أو يحط من مكانته، أو ينال من جلاله وجماله ؛ تصدى له ابن باديس بالتفنيد والنقض، أو التوضيح والتصويب.


 

مراجع البحث:

1. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج(2)، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط 1، 2016م، ص(438:432).

2. محمد الدراجي، الشيخ عبد الحميد السلفية والتجديد، دار الهدى للطباعة، الجزائر, 2012 ص159.
3. عبد الحميد بن باديس – عمار الطالبي، آثار بن باديس، الشركة الجزائرية، الجزائر، الطبعة الثالثة، 1997. (3 / 258).

4. لشهاب ج3م1. ذي القعدة 1352هـ/ فيفري 1934م.

5. محمد الدراجي، عبد الحميد بن باديس بعيون العلماء والأدباء 168، 169.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.