ابن باديس.. والقراءة المتربصة
بقلم: د.مصطفى كيحل-
ماذا نقصد بالقراءة المتربصة؟ هي القراءة التي يتربص فيها القارئ بالنص، والمتلقي بالمرسل، وهي القراءة الموجهة مسبقا وغرضها إثبات ودعم ما هو مقرر عندنا من قناعات سلفا، سواء كانت هذه القناعات رؤى فكرية أو تصورات إيديولوجية، بمعنى آخر القراءة المتربصة هي قراءة أمنية تريد الإطاحة بالخصم الايديولوجي من خلال استخدام نصوصه على غير مقصدها.
وآفة القراءة المتربصة هي افتقادها للموضوعية والحياد وتصادمها مع ثقافة الحقيقة، لأنها قراءة غير منفتحة ولا تطلب الحقيقة لذاتها، وتستثمر في “فائض المعنى” بلغة “بول ريكور” وتتخذ أشكالا مختلفة من مثل تركيزها على الدلالات الجزئية بدل اهتمامها بالدلالات الكلية، وإعطائها الأولوية للهامش على حساب المتن، وهوسها بالشاذ من المواقف والأفكار، وتعتمد آليات وإجراءات متعددة في الفهم والتأويل من مثل اجتزاء نصوص من سياقها العام، وتفسير المدونات الكلية بالاعتماد على النصوص الجزئية، وبناء أحكام كلية على مواقف جزئية، أو تضمين تلك النصوص بدلالات الراهن بحجة تحيين النصوص وجعلها حية في الحاضر ولكن غرض ذلك هو إسقاط قناعات القارئ الايديولوجية وطموحاته السياسية ومصالحه الفئوية في الحاضر على تلك النصوص بحثا منه عن أصالة يراد استرجاعها، أو انتماء يراد تكريسه، أو عن شرعية منقوصة ومعيبة يراد إصلاحها.
وعليه فإن القراءة المتربصة هي سلاح في يد الخطابات الايديولوجية لا تتوانى في استعماله في معاركها في سبيل بناء المعنى المرغوب وتشييد الدلالة المقصودة، من أجل بسط رؤية معينة للوجود أو نظرة أخلاقية أو سياسية للعالم والحياة.
وعادة ما يتخفى هذا النمط من القراءة وراء غايات نبيلة كالقول بضرورة إعادة القراءة، وتجديد الفهم، وتحيين الأفكار والبحث عن العناصر التنويرية في التراث.. ولكن يحدث أنه باسم تقويض نمط من الأسطرة للأفكار والشخصيات يتم تأسيس نمط جديد من الأسطرة، وباسم العمل على أفول نمط من الأوثان، تتم عملية بعث الحياة في أوثان جديدة.
ويتجلى هذا النمط من القراءة وهذا المستوى من الفهم والتأويل خاصة في تفكير رموز وعلامات المجتمع العلمية والفكرية والدينية، فكل مجتمع يعيش على رأسمال رمزي وثقافي يتكون من جملة الشخصيات التاريخية والروحية والفكرية وجملة المحطات والإبداعات والانجازات التاريخية التي تشكّل السرديات الكبرى لمرجعية وكينونة هذه المجتمعات.
ومن بين الشخصيات الرمزية والإصلاحية والثقافية الكبرى في تاريخنا القريب شخصية عبد الحميد بن باديس وهي الشخصية التي ما فتئت تخضع للتأويل والتأويل المضاد من طرف التيارات الفاعلة في الايديولوجية الجزائرية المعاصرة، وتتساوى في ذلك الإيديولوجية الرسمية بالإيديولوجية الإسلامية وبالإيديولوجية العلمانية.
فكلما حلّت ذكرى يوم العلم من كل سنة إلا وعاد من جديد الخرف الايديولوجي حول شخصية ابن باديس خاصة بين العلمانيين والإسلاميين، واجتهد كل طرف في تقديم الصورة التي يرتضيها لنفسه حول الرجل، ويكون ذلك على حساب الشخصية التاريخية للرجل، فليس من الموضوعية في شيء قراءة شخصية ابن باديس على ضوء الحاجات الإيديولوجية للحاضر، أو على ضوء التنافس بين الفاعلين الإيديولوجيين لأغراض سياسية راهنة.
ففي هذه المناسبة يقدّم التيار العلماني على نحت صورة علمانية مشوّهة لابن باديس، لا تختلف كثيرا عن التمثال المادي الذي نحت له بمناسبة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية سنة 2015 والذي جاء بعيدا كل البعد عن الملامح الحقيقة للرجل، مما أثار استهجانا كبيرا عند الجزائريين ورأوا في ذلك تزويرا للتاريخ وتبذيرا للمال العام، وتحت ضغط الاستهجان الشعبي سارعت السلطات إلى سحب ذلك التمثال المعيب لرائد النهضة الثقافية والعلمية الجزائرية في هذا العصر، لأن التمثال كان في أصله رشوة من أحد المقاولين للعصابة.
وتستند الصورة العلمانية التي يراد نحتها لابن باديس في الأغلب على أحكام فجة وسطحية، وغير تاريخية، لأنها تقتلع الشخصية من مشروطياتها التاريخية والسوسيولوجية وهي مشروطيات الواقع الجزائري الرازح تحت الاستعمار الفرنسي البغيض في النصف الأول من القرن العشرين، كما تقوم بنوع من المزايدة المحاكاتية على حساب “ناطقات النص” و “معلوم السيرة” كما أنها لا تلتزم بالتحديدات المعرفية لمفهوم العلمانية ولا تراعي السياقات التاريخية والسياسية والثقافية التي انبثق فيها المفهوم، صحيح أن مضامين مفهوم العلمانية ليست ثابتة بل متحوّلة في دلالاته المعرفية والسياسية، ولكن في عمومها فإنها لا تخرج عن معالم جوهرية يأتي في مقدمة تلك المعالم الفصل بين الروحي والزمني، سواء بشكل جذري وكلي كما في التجارب الجذرية للعلمانية والتي تقوم على الفصل بين الدين والحياة أو في الحالات الأقل تطرفا كالفصل بين الدين والسياسة، أو الفصل بين الفضاء العام والفضاء الخاص على الطريقة الفرنسية و فك السحر على العالم من خلال القطع مع المنظور الديني واللاهوتي للمعنى والعالم.
وإذا كان الأمر كذلك هل يستقيم القول مثلا أن ابن باديس كان علمانيا عندما طلب من الإدارة الفرنسية الفصل بين الدين والسياسة وأن تكف عن تدخلها في شؤون الجزائريين الدينية وعدم مراقبتها للمجال الديني، أم أن الغرض عنده هو كسب مجال أوسع من الحرية للقيام بالإصلاح الديني ونشر التعليم الديني في كل ربوع الوطن، وهل يستقيم الاستدلال على علمانية ابن باديس بالقول أنه كان حريصا على المسرح ولم يعاد أو يتبرم من الفنون والموسيقى، وأن زوجته لم تكن ترتدي الحجاب، وأنه كان يطالب بتعلم اللغة الفرنسية.. وغيرها من المواقف التي عرف بها ابن باديس في مسيرته الإصلاحية.
كما أن الإصرار على رسم صورة علمانية لابن باديس وتقديمه على انه رمز للعقلانية والحرية والاختلاف والتسامح والانفتاح وذلك بالتركيز على بعض نصوصه كتميزه مثلا بين “الإسلام الوراثي” و”الإسلام الذاتي” و نقده للإسلام الوراثي لأنه إسلام التقليد، أما الإسلام الذاتي هو دين العقل الروحي، وغيرها من النصوص التي يظهر من خلالها ابن باديس ممثلا للإصلاحية العقلانية كما هو الحال مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم من رجالات الإصلاح في المشرق والمغرب.
إن الخطأ ليس في هذه المواقف والأحداث التي تدل سيرة ونصوص ابن باديس عليها، وإنما الإشكال يكمن في قراءة هذه النصوص والمواقف بمعايير الحاضر وتحدياته، وإخراج تلك المواقف والنصوص عن سياقاتها التاريخية وفهمها خارج تلك السياقات وتضمينها بقناعات إيديولوجية راهنة، هدفها هو توطين العلمانية في التراث الإصلاحي الديني لابن باديس وجمعية العلماء، حتى تظهر – أي العلمانية – بأنها فكرة أصيلة في الثقافة الجزائرية وتتخلص من تهمة التغريب والأفكار المستوردة، ويظهر ابن باديس واحد من أباء العلمانية في الثقافة الجزائرية، على ما في ذلك من شطط في التأويل وتعسف في القراءة وتناقض صارخ مع التاريخ والحقيقة.
القراءة المتربصة هي قراءة غرضها الإطاحة بالخصم الايديولوجي وكسب مواقع متقدمة على حساب المنافسين الإيديولوجيين الآخرين، أما رهان المعرفة فهو لا يطرح إلا على سبيل الاتكاء عليه لدعم هذه الأطروحة الايديولوجية أو تلك، وهذه الخاصية في القراءة لا تخص فصيل دون غيره من الفصائل الايديولوجية المتنافسة من أجل الاستيلاء على الرموز الوطنية والدينية أو على السرديات الكبرى المؤسسة لهوية الأمة لتوظيفها سياسيا، وما ذكرناه حول الايديولوجية العلمانية يمكن سحبه على باقي الإيديولوجيات الأخرى من مثل الايديولوجية الرسمية والايديولوجية الإسلامية، فالكل يدعي الحقيقة ولكن الحقيقة المؤسطرة وليست الحقيقة التاريخية.