مدافع الله ونهاية رحلة العمر
بقلم: بسام العسلي-
سافر الوفد الوطني الجزائري برئاسة عبد الحميد بن باديس إلى فرنسا، ليطلب من حكومة (دلادييه) تنفيذ مرسوم 27 أيلول - سبتمبر - 1907، القاضي بفصل الدين عن الدولة، بالإضافة إلى بقية المطالب التي سبق عرضها. وجرت مناقشات في هذا الصدد أظهر فيها الشيخ عبد الحميد تمسكه بما تم الاتفاق عليه من مطالب - تمثل الحد الأدنى لتطلعات الجزائريين المسلمين. وعندئذ حاول (دلاديه) إرهاب الشيخ عبد الحميد، فقال له: (لدى فرنسا مدافع طويلة) فرد عليه الشيخ عبد الحميد: (يوجد لدينا مدافع أطول). وعندما تساءل (دلادييه) عن نوع المدافع ااتي يملكها الجزائريون، أجابه ابن باديس بكل حزم ورباطة جأش: (إنها مدافع الله).
وبعد ذلك، تدخل (ليون بلوم) فاقترح مقابل مطالب المسلمين المرفوضة، توسيع دائرة الناخبين الجزائريين ضمن الهيئة الانتخابية الإفرنسية بالجزائر، وذلك بإدخال (21) ألفا من النخبة ضمن الإفرنسيين الذين كان عددهم (202,750) ناخبا. لكن النواب الإفرنسيين احتجوا وأعلنوا أنهم يستقيلون جميعا إذا ما تم هذا الإجراء. وتبعهم عمداء المدن (محافظوها) فأعلنوا مثل ذلك. وتمخض جبل الحكومة الإفرنسية عن ولادة فأر هزيل: رفع عدد نواب المسلمين بمجلس النيابات المالية من 21 نائبا مسلما، إلى 24 نائبا مسلما مقابل (48) نائبا فرنسيا. وقال (مسيو سارو) وزير الداخلية الإفرنسي، تعليقا على تهديد المستعمرين: (أشهد أنه ليس لهؤلاء السادة لا وطنية ولا ضمير ولا فكر).
عاد الوفد الجزائري إلى الجزائر وهو يحمل خيبة أمل مريرة، وأنشد عبد الحميد قصيدته الرائعة:
شعب الجزائر مسلم ... وإلى العروبة ينتسب
ومضى الشيخ عبد الحميد في توجيه قادة الجزائر وشبابها نحو المخرج الحقيقي: (لا تتغير السياسة الاستعمارية بالجزائر، عن طريق وفود تذهب إلى فرنسا، ولا بلجان تبعثها الحكومة العليا - حكومة باريس - إلى الجزائر. ذلك أن حكومة الجزائر الاستعمارية أقوى من حكومة فرنسا ذاتها هنا ... فلا تغيير لوضع تريد بقاءه في الجزائر. فالوفود إذن لا تستطيع أن تغير شيئا، ولكن الشعب الجزائري هو الذي يستطيع أن يغير كل شيء، ومتى نفض الشعب عن نفسه غبار الجهل والغفلة، وأدرك وجوب تسيير شؤونه بنفسه، وأخذ يضع كل شيء موضعه، لم يجد أين يضع الاستعمار إلا حيث توضع الأطمار البالية).
واستمر عبد الحميد في نفخ رماد الحرية، مرددا مقولته المعبرة عن استيائه من أن يرى الاستعماريين وهم يحتفلون كل عام بعيد حريتهم (عيد الثورة الإفرنسية 14 تموز - يوليو 1789) لا في فرنسا وحدها، وإنما في كل وطن تستعمره فرنسا. في حين كان وطنه ومواطنوه محرومين من هذه الحرية، فكانت مقولته الرائعة: (أيتها الحرية المحبوبة! يا من تحتفل بأعيادك الأمم، وتنصب لتمجيدك التماثيل، ويتشادق بأمجادك الخطباء، ويتغنى بمحاسنك الشعراء، ويتفنن في مجاليك الكتاب، ويتهالك من أجلك الأبطال، وتسفك في سبيلك الدماء، وتدك لسراحك القلاع والمعاقل، ولكن أين أنت في هذا الوجود؟ كم من أمم تحتفل بعيدك وقد وضعت نير العبودية على أمم وأمم ... وكم من قوم نصبوا لك التماثيل في الأرض وقد هدموك في القلوب والعقول والنفوس، فأين أنت أيتها الحرية المحبوبة في هذا الورى؟ أنت أنت الحقيقة الخفية، خفاء حقيقة الكهرباء. أنت أنت الروح السارية في عالم الأحياء. ولئن خفيت بذاتك، فقد تجليت على منصة الطبيعة في بسائط الأرض وأجزاء السماء.
فأبصرتك عيون اكتحلت بأثمد الحقيقة. واقتبست منك عقول صقلت بالعرفان. واحتضنتك صدور أنيرت بالإيمان، وتذوقتك نفوس ما عبدت إلا الله، وخدمك قوم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين .. آه .. آه .. أيتها الحرية المحبوبة. واشوقاه إليك، بل واشوقي إليهم - حملة الحرية - المحيا محياهم، والممات مماتهم، أنقذ الله بهم بلادك وأحيا عبادك. إننا أعداء أعداء الحرية، وأحباب أحبابها، سواء كانوا من أهل البرانيط، أو من ـ[كانوا من أهل البرانيط، أو من]ـ أهل البرانيس) (1).
إنها دعوة إلى الثورة، ونداء إلى حمل السلاح والاحتكام إليه. غير أن الدعوة مفتوحة، والنداء مؤجل. فلا زالت أرضية الثورة غضة، ولا زالت ظروفها الدولية والمحلية غير مؤاتية. وإذن فليستمر العمل لإنضاج الثورة على نار هادئة. وهذه النار الهادئة هي تطوير الفكر الثوري بالعلم والمعرفة، حتى لا تضيع التضحيات سدى، وحتى لا تسيل الدماء هدرا. وعلى هذا يمضي ابن باديس، محددا للمفاهيم الصحيحة، مقوما للأفكار الخاطئة، مهاجما للآراء المستوردة أو المدسوسة والتي يمكن لها تشويه البناء الثوري.
ويتحدث ابن باديس عن (العروبة) فيلمس فيها المقومات التي تهبها الخلود، مهما تلبدت الظروف السياسية من حولها، واختلف العرق بالمنضوين تحت لوائها. العروبة جوهر خالد، قابل للانبعاث، باعث للأمل. العروبة حقيقة تطفو فوق الملابسات المضللة أو تزييف المستعمر. العروبة نهاية المطاف، مهما طال الشوط، وغاية الغايات مهما تصارعت الوسائل. إن الظروف العصيبة التي عاشتها الجزائر، فكادت تطمس فيها معالم الإسلام والعروبة، لم تزد المصلح الكبير - وهو يعيشها - إلا تعلقا بالمرامي البعيدة التي تعامى عنها الدخيل. وإيمانا بالغد العربي الأكبر الذي كفر به المستعمر، وكاد يكفر به المواطن.
(العرقية) التي يذكيها المستعمر في كل شبر عربي ليمزق بها العروبة والإسلام.
(الطائفية) التي يغذيها ليغذي بصراعها وجوده وتسلطه، هي ذاتها التي ينطلق منها - ابن باديس - حجة على المستعمر وفلسفته، ومنها ذاتها يصبغ العروبة بصبغتها الأصيلة التي تتنزه عن العرقية وتتعالى على الطائفية - وها هو يقول:
(تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد، وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تتكلم بلسان واحد. فليس الذي يكون الأمة، ويربط أجزاءها، ويوحد شعورها، ويوجهها إلى غايتها، هو هبوطها من سلالة واحدة. وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد. ولو وضعت أخوين شقيقين يتكلم كل واحد منهما بلسان. وشاهدت ما بينهما من اختلاف نظر، وتباعد تفكير، ثم وضعت شاميا وجزائريا - مثلا - ينطبقان باللسان العربي، ورأيت ما بينهما من اتحاد وتقارب في ذلك كله، لو فعلت هذا لأدركت بالمشاهدة الفرق العظيم بين الدم واللغة في توحيد الأمم - قالها سنة 1936).
ولا يذهب - ابن باديس - بعيدا في التماس الحجة وإثبات الدليل، فراقع المستعمر حجة عليه: (وإذا نظرت إلى كثير من الأمم الأوروبية اليوم، وفي مقدمتها فرنسا، فإنك تجدها خليطا من دماء كثيرة، ولم يمنعها ذلك من أن تكون أمة واحدة لاتحادها فيما تتكون به الأمم - سنة 1938). والمصلح العربي الجزائري، يستمد تأييده للعروبة من منابعها الأصيلة، ويستلهم فيها رسولها محمد صلى الله عليه وسلم، ويلتزم بذلك في الحديث النبوي الذي ربط العروبة بالدين واللغة: (أيها الناس، الرب واحد، والأب واحد، والدين واحد، وليست العروبة بأحدكم من أب ولا أم، ولكنها اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي).
وما كانت هذه الصرخة التي انبرى لها رسول الله، مغضبا يجر رداءه، ونادى لها (الصلاة جامعة) إلا ردا حاسما على التطرف العرقي في (قيس بن مطاطيه) الذي أراد حرمان سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي من شرف العروبة - فيضيف - ابن باديس - قوله: (كون رسول الإنسانية، ورجل القومية العربية أمته هذا التكوين المحكم العظيم، ووجهها لتقوم للإسلام والبشرية بذلك العمل الجليل. فلم يكونها لتستولي على الأمم، ولكن لتنقذهم من سلطة المستولين على مقدرات العباد باسم الملك أو باسم الدين. ولم يكونها لتستخدم الأمم في مصالحها، ولكن لتنهض بهم من دركات الجهل والذل والفساد إلى درجات العز والصلاح والكرامة. وبالجملة لم يكونهم لأنفسهم بل للبشرية جمعاء).
ويعود ابن باديس، فيطلق لسانه بالدعاء الصاعد من أعماق نفسه، مبتهلا الله في أن يحييه لخدمة العروبة، وأن يميته في خدمتها، مقتفيا بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: (هذا هو رسول الإنسانية، ورجل القومية العربية، الذي نهتدي بهديه، ونخدم القومية العربية خدمته، ونوجهها توجيهه، ونحيا لها ونموت عليها، وإن جهل الجاهلون وخدع المخدوعون واضطرب المضطربون - سنة 1936).
ركز الاستعمار الإفرنسي هجومه على اللغة العربية لضرب المسلمين بعضهم ببعض، وعزل الذين يتحدثون اللغة البربرية - المازيغية - واتخاذهم بطانة له وأعوانا لتنفيذ سياسته - وقد سبق عرض هذه السياسة بشيء من الإسهاب -. وتصدى - ابن باديس - لهذه الحملة الفاسدة المفسدة، ودأب عمره، يصل الليل بالنهار لبعث الجزائر العربية المسلمة. وقد دخل الميدان الإصلاحي والإسلام ضلالات ما أنزل الله بها من سلطان، والعروبة لا يكاد يرتفع لها صوت في ديار الجزائر. فرابط في واجهته (بالجامع الأخضر) مرابطة الجندي المجهول. وآمن بالأبعاد التي عشيت عنها فلاسفة الاستعمار، حتى أعاد شعبه إلى سواء السبيل، وأنقذه في الوقت المناسب، مما كان يراد له من تشتت وفناء، وقال في ذلك: (لو جئنا - شعبنا - بعد عشرين سنة لما أدركنا فيه قابلية للعلاج. ولكن الله أراد خيرا بهذا الشعب، بعث فيه من آمن بنشوره، بعد إيمان الكثير بموته).
لقد كان - ابن باديس - على موعد مع قدره، وكان قدره هو قدر شعبه، فمضى بجولته من الصفر، بل من الصفر المركب. فلم يكن هناك كفر، ولكن إسلام مشوه. لم يكن هناك جهل فحسب، بل ثقافة دخيلة مسمومة. لم يكن هناك شعب ألقى حبله على غاربه. ولكن، كان هناك الشباب الجاهل فقط، الشباب المشوه الثقافة واللسان، المفصول عن تاريخه وحضارته، والمتصل - بانقطاع تاريخي - مع الرومان والغول أجداد الإفرنسيين. مما كان يروجه دهاقنة الاستعمار ومبشروه. فوقف ابن باديس يؤكد أصالة الجزائر في عروبتها، وأصالة العروبة في جزائر المسلمين، وأطلق مقولته:
(لقد تعربت الأمة الجزائرية تعربا طبيعيا، اختياريا، صادقا، فهي في تعربها نظيرة إسماعيل جد العرب الحجازيين. فقد كان من العرب لما شب في مهدهم ونطق بلسانهم، وتزوج منهم، وليس تكون الأمة بمتوقف على اتحاد دمها. ولكنه متوقف على اتحاد قلوبها وأرواحها وعقولها، اتحادا يظهر في وحدة اللسان وآدابه واشتراك الآلام والآمال) سنة 1938.
تلك هي الأرض الصلدة التي نهض لها - ابن باديس - يبذر فيها بذور الخصوبة والنماء، وذلك هو المسلك الوعر الذي شق فيه طريقه، وتلك هي نقطة الانطلاق لنهضة، ابتدأت بذرة في أرض موات، فغدت أصلها ثابت وفرعها في السماء. ابتدأت حبوة علمية في (جامع سيدي قموش) وانتهت احتفالا شعبيا بختم تفسير القرآن الكريم في (كلية الشعب) بقسنطينة. وابن باديس، متمسك في مسيرته الشاقة بثلاث دوائر متداخلة متشابكة لا تعرف الانفصام ولا التجزئة، ولا تكتمل الصورة إلا بها جميعا، ودون طغيان من إحدى هذه الدوائر على الدوائر الأخرى، أو توسع بعضها على حساب البعض الآخر، وهذه الدوائر هي: الجزائر والعروبة والإسلام (أو بترتيب معاكس سيان في ذلك طالما أنه ضمن تحقيق التوازن فيها). فهو إذ يقيم نهضته، يقيمها بمقدار ما أعطى لهذه الدوائر الثلاث من تلاحم ثابت ودائم. و (عروبة الجزائر) عند باعث نهضتها، ليست عروبة خطابة أو تهريج، أو حماسة جوفاء، إنه وهو يذكيها بأنفاسه الملتهبة، ويرويها من عرقه المتصبب ويرعاها العشرات من السنين، يعطيها من الدراسة النظرية حقها، ويستمد لها من التاريخ العميق أصالتها. ويواجه أعداءها المتنكرين أو الناكرين لها، مواجهة الحجة بالحجة، ويقف من عروبة الجزائر موقفه من العروبة عامة. لا ينكر ما أثبته التاريخ من - أصل مازيغي - لسكان الجزائر القدماء. لأن العروبة الإسلامية فوق السلالات: (ما من نكير أن الأمة الجزائرية كانت مازيغية من قديم عهدها، وأن أمة من الأمم التي اتصلت بها، ما استطاعت أن تقلبها عن كيانها، ولا أن تخرج بها عن مازيغيتها أو تدمجها في عنصرها وفي عصر ظهورها، بل كانت هي التي تبتلع الفاتحين فينقلبون إليها، ويصبحون كسائر أبنائها ... فلما جاء العرب وفتحوا الجزائر فتحا إسلاميا لنشر الهداية لا لبسط السيادة، دخل الأمازيغ من أبناء الوطن في الإسلام، وتعلموا لغة الإسلام العربية، طائعين، فوجدوا أبواب التقدم في الحياة كلها مفتحة في وجوههم، فامتزجوا بالمصاهرة. وثافنوهم في العلم، وشاطروهم سياسة الملك وقيادة الجيوش. وقاسموهم كل مرافق الحياة، فأقام الجميع صرح الحضارة الإسلامية، يعربون عنها، وينشرون لواءها بلغة واحدة هي: لغة القرآن. فاتحدوا في العقيدة والنحلة، كما اتحدوا في الأدب واللغة. فأصبحوا شعبا عربيا واحدا، متحدا غاية الاتحاد، وممتزجا غاية الامتزاج، وأي افتراق يبقى بعد أن اتحد الفؤاد، واتحد اللسان:
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده ... فلم تبق إلا صورة اللحم والدم واليوم، فإن اللغة العربية والآداب العربية هي لسان الأمة الجزائرية كلها، لا يجهلها إلا عدد قليل من المنقطعين في بعض رؤوس الجبال. ولا تستعمل اللغة المازيغية إلا في بعض النواحي القليلة استعمالا شفاهيا محليا. ثم اللغة العربية هناك لغة الكتابة والخطابة والتعليم والتخاطب العام.
ولو رأيت (الجامع الأخضر) في قسنطينة، لرأيت أبناء الجزائر من جميع جهاتها، وفيهم من يتقنون المازيغية، يتزاحمون على مناهل العربية العذبة، ويتسابقون إلى الفوز في ميادين بيانها الفسيحة، ويتعاونون على بناء صرحها، ورفع منارها، ويستعذبون في سبيل المحافظة على تراثهم منها كل مر. ويستسهلون في سبيل تبليغه لغيرهم كل صعب. لو رأيت هذا لعرفت كيف كانت هذه الأمة الجزائرية أمة عربية واحدة، فحكمت بالجهل المطبق، أو الكيد المحقق على كل من يقول فيها غير ذلك).
ويستمد - ابن باديس - الحجة التي تبكت المستعمر، من واقع المستعمر ذاته، ليدحض دعوى البربرية التي تحدوه، ويشنع عليه احتجاجه بحالة في الجزائر، وتغافله عن مثيلة لها في فرنسا. فيفضح فيه التزييف المتعامي، والمغالطة المضللة: (تشكل فرنسا أمة واحدة ... وعلى الرغم من ذلك، فإنك تجد في قرى من دواخل فرنسا وأعالي جبالها، من لا يحسن اللغة الإفرنسية، ولم يمنع ذلك القليل - نظرا للأكثرية - من أن تكون فرنسا أمة واحدة. وهذه الحقيقة الموجودة في فرنسا، يتعامى الغلاة المستعمرون عنها هنا في الجزائر. ويحاولون، بوجود اللغة المازيغية في بعض الجهات وجودا محليا، وجهل عدد قليل جدا بالعربية في رؤوس بعض الجبال، أن يشككوا في الوحدة العربية للأمة الجزائرية، التي كونتها القرون وشيدتها الأجيال - سنة 1938).
ولم يتجن - ابن باديس - بقوله هذا على الواقع الجزائري، بل نقله نقلا أمينا صادقا، فلم تفرض اللغة العربية على الناطقين بالمازيغية. ولكنها نبعت من قلوبهم، وفجرها الإسلام، فلا بدعة أن يقف الفتى الزواوي - با عزيز بن عمر - ليقول عن العروبة: (وإننا لنشعر من قبل ومن بعد، بدم العروبة يجري في عروقنا، وهو صاف لم يمازجه كدر وإن اختلف المظهر. ونسمع صوتها الحنون يرن في آذاننا. فنفتح له الطريق إلى قلوبنا وأعماقنا. فالعربية حية فينا. ونحن أحياء فيها ما دامت السموات والأرض).
إن (عروبة الجزائر عروبة تاريخ وحضارة، لها أيامها المجيدة، ودولها العريقة، ولن يقوم أمر الوطن الجزائري اإلا بها، و - ابن باديس - حين يذكر هذا التاريخ، إنما يحدو شعبه إلى مستقبل أفضل يستمد عراقته وأصالته من التاريخ العربي لهذا الوطن: (لبس أبناء الجزائر العروبة، وامتزجت بأرواحهم، وتغلغلت في قلوبهم، وأشرقت شمس معارفها في آفاق أفكارهم، وجرت ينابيع بيانها على أسلات ألسنتهم، فأصبحوا ومنهم فيها علماء وخطباء وشعراء، ولهم منها جنود وقواد وأمراء. وحسبك من كثرتهم القائد الفاتح والخطيب المصقع - طارق بن زياد - ثم ما قامت مملكة من أبناء الوطن إلا وهي عربية في كل شيء. مثل سائر الممالك العربية في المشرق، بل فوق بعضها - سنة 1938).
كان من عادة - ابن باديس - التي عرفت عنه، أنه يحتفظ بالكلمة الفاصلة لليوم الحاسم، ويخفي سرها في صدره، ويطيل الصمت. فإذا نطق، قطعت جهينة قول كل خطيب. يقف من الأحداث موقف المتتبع الصامت، حتى إذا بلغت ذروة التعقيد والتشابك، وأصبح الموقف موقف مصير، صدع بقولة الحق التي تسمو فوق كل الاعتبارات. وقد ظهر منه هذا الموقف سنة 1938، عندما احتدم صدام فكري قومي بين الأمير شكيب أرسلان وسليمان باشا الباروني في قضية (الوحدة العربية). فتدخل - ابن باديس - وأسفر مرة أخرى عن وجه عربي صميم، فقال القول الفصل في القضية، وتجرأ به في دنيا التضليل والتهريج، وعالم من الجبن والاستكانة. هكذا كان شأنه في القضية المصيرية. وأضافها للتاريخ وقفة بطولية، أبان فيها رأي الخبير بواقع العالم العربي. وأفصح عن القول الجريء: (إن دولا لا تسوس نفسها بنفسها، ولا تشق طريقها على ضوء مصلحتها، لا يمكن تصور وحدة عربية بينها. إن الوحدة السياسية لا تكون إلا بين شعوب تسوس نفسها. فتضع خطة واحدة تسير عليها في علاقاتها مع غيرها من الأمم: وتتعاقد على تنفيذها، وتكون كلها في تنفيذها والدفاع عنها يدا واحدة، فهي مقتدرة على الدفاع عنها، كما كانت حرة في وضعها. وأما الأمم المغلوبة على أمرها. فهي لا تستطيع أن تضع أمرا لنفسها، فكيف تستطيع أن تضعه لغيرها؟ ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها، فكيف تستطيع أن تدافع عما تقرره مع غيرها؟ وإذا لم تستطع أن تعتمد على نفسها في داخليتها فكيف يعتمد عليها في خارجيتها. فالوحدة السياسية بين هذه الأمم، أمر غير ممكن، ولا معقول، ولا مقبول).
وابن باديس مؤمن (بالرابطة القومية) الخالدة قدر إيمانه باستحالة تحقيق (الوحدة السياسية) بين شعوب لا تملك أمر نفسها، وهو إذ يقف هذا الموقف المزدوج، إنما يبصر الشعب العربي بواقعه السياسي المؤلم الذي يقف حجر عثرة في سبيل إعطاء الوحدة الأصيلة مظهرا سياسيا، وفي إنكار - ابن باديس - لهذا الواقع، دعوة صارخة للثورة عليه، والملاقاة على صعيد الروابط العربية الثابتة والدائمة: (هذه الأمة العربية، تربط بينها - زيادة على رابطة اللغة - رابطة الجنس، ورابطة التاريخ، ورابطة الألم، ورابطة الأمل، فالوحدة القومية الأدبية متحققة بينها ولا محالة).
ويقف عبد الحميد بن باديس في سنة 1938 وقفة القائد العسكري الذي خاض معركته وانتهى منها، وأخذ في إعادة استخلاص الدروس المستفادة من الصراع السابق، استعدادا للجولة التالية. وينتهي - ابن باديس - من إعادة تقويم الموقف ليقول (... ما اليوم - سنة 1938 - فقد تأسست في الوطن كله جمعيات ومدارس ونواد باسم الشباب والشبيبة والشبان، ولا تجد شابا - إلا نادرا - إلا وهو منخرط في مؤسسة من تلك المؤسسات، وشعار الجميع الإسلام، العروبة، الجزائر ... لقد نفضت الأمة عن رأسها اليوم غبار الذل. وأخذت تنازل وتناضل وتدافع وتعارض، وشعرت بوحدتها، فأخذت تطرح تلك الفوارق الباطلة وتتحلى بحلل الأخوة الحقة، وتنضوي أفواجا أفواجا تحت راية الإسلام والعروبة والجزائر. لقد شعرت الأمة بذاتيتها اليوم، وعرفت هذه القطعة من الأرض التي خلقها الله منها، ومنحها لها، وأنها هي ربتها، وصاحبة الحق الشرعي والطبيعي فيها، سواء اعترف لها به من اعترف، أم جحده من جحد. وأصبحت كلمة الوطن، إذا رنت في الآذان، حركت أوتار القلوب، وهزت النفوس هزا).
وعرف الشيخ عبد الحميد خطورة المخطط الاستعماري، لعزل أقطار الوطن العربي - الإسلامي بعضها عن بعض، وإشغال كل قطر بهمومه ومتاعبه عن هموم إخوانه المسلمين ومتاعبهم في الأقطار الأخرى. وعلى الرغم من أن هموم الجزائر المجاهدة - في تلك الحقبة التاريخية بالذات - قد تجاوزت في حجمها وأبعادها كل ما كان يعانيه كل قطر عربي - إسلامي، إلا أن عبد الحميد يتجاوز هذا الواقع في تطلعاته نحو المستقبل ويكتب كلمة عتاب قد تجرح برقتها وعمقها بأكثر مما تفعله السيوف، وكان في عتابه: (مضت حقبة من الدهر كاد فيها الشرق العربي أن ينسى هذا المغرب العربي). وإلى عهد قريب كانت صحافة الشرق - غالبا - لا تذكره إلا كما تذكر قطعة من أواسط أفريقيا. في هذه الأيام يغمط حقه، ويتجاهل وجوده في كتب لها قيمتها، مثل كتاب (ضحى الإسلام) وغيره. ولكن هذا المغرب العربي، رغم التجاهل والتناسي من إخوانه المشارقة، كان يبعث من أبنائه من رجال السيف والقلم من يذكرون به ويشيدون باسمه، ويلفتون نظر إخوانه المشارقة إلى ما فيه من معادن للعلم والفضيلة ومنابت للعز والرجولة. ومعاقل للعروبة والإسلام) (2).
...
كل ذلك (وجمعية العلماء المسلمين) ماضية قدما إلى الأمام بفضل توجيه رئيسها الشيخ - ابن باديس - وذلك لتنفيذ أهدافها الواضحة، وأبرزها:
أولا: تطهير الدين الإسلامي مما ألحق به الاستعمار من خرافات وبدع، وإيقاد شعلته الوضاءة التي بذل الاستعمار لإخمادها كل جهد مستطاع. ولم يتورع عن اقتراف أفظع الجرائم لإطفاء هذا النور الإلهي - ويأبى الله إلا أن يتم نوره -.
ثانيا: بعث اللغة العربية وإحياؤها بعد أن جد الاستعمار لوأدها ودفن حضارتها.
ثالثا: العمل بصورة سرية - حتى لا تتعرض الجمعية للملاحقات البوليسية التي تشل نشاطها - وذلك من أجل خلق تيار تحرري، والوقوف جنبا إلى جنب مع الأحزاب الوطنية المنادية بالاستقلال والسيادة. ويبرز هذا الهدف في مقولة ابن باديس: (إن الدولة الجزائرية لم تزل حية طالما أنها محافظة على دينها ولغتها) (3).
نشأ بنتيجة ذلك صراع عنيف بين جمعية العلماء من جهة، والاستعمار الإفرنسي ومبشريه وبعض الزوايا والطرقيين من جهة أخرى - كما سبقت الإشارة إليه -. وتطور هذا الصراع بعدئذ، ولجأت الإدارة الإفرنسية إلى استخدام كل ما تختزنه من أسلحة الدس والغدر. فأخذت في تحريض الطرقيين وأصحاب الزوايا (كالعلويين والشاذليين والقادريين) على جمعية العلماء وأتباعها، مخوفة إياهم من السير في ركابها، لأن مبادءهم ستطيح حتما بمراكزهم الدينية القائمة على التزييف والباطل، وستقطع عنهم الزيارات التي تتوقف عليها رفاهيتهم، وصورت لشيوخ هذه الطرق والزوايا كيف أن موارد عيشهم، ومصادر رفاهيتهم ستزول إذا انتصرت مبادىء جمعية العلماء الإصلاحية. وزينت لهؤلاء الشيوخ فضائل مقاومتهم لهذه الجمعية الناشئة، واصفة علماءها وأتباعها بالكفر - الزندقة - لأنهم لا يقيمون الولائم العامة - أوكار الدعاية الاستعمارية المسماة بالوعادي - ولأنهم لا يزورون الأولياء. وهذا وتر حساس أجاد الاستعمار في بادىء الأمر الضرب عليه لأن الجزائريين لهم تعلق كبير بالأولياء، حتى إنهم أصبحوا يقيمون على قبر كل رجل صالح قبة، ويولمون على روحه الولائم السنوية. ويقصده الزوار من كل مكان ملتمسين بواسطته الخير والبركة.
وأخذ الاستعمار - داخل نطاق سياسته التضليلية - بالإساءة إلى سمعة الأولياء الصالحين. فراح يختلق الأكاذيب والبدع. مدعيا أن (الولي فلان) يحيي الموتى، ودخل من يشاء إلى الجنة. وأن (وليا آخر) يختص بشفاء المرضى ... وهكذا دواليك ..
وكان هدف الدوائر الاستعمارية من ذلك (تأليه أصحاب القبب). وتضليل المسلمين الجزائريين عن جوهر دينهم حتى يسهل تنصيرهم بعد أن يصور لهم أن الإسلام عبارة عن (دين خرافي). وأسرعت جمعية العلماء لمعالجة الموقف قبل فوات الأوان. فراح علماؤهم يخطبون في الناس هادينهم سواء السبيل، موضحين لهم مبادىء الجمعية التي ما أنشئت إلا للمحافظة على الدين القويم، وحمايته من البدع والأساطير التي ألحقها به المستعمرون الإفرنسيون لأغراض خبيثة في نفوسهم. واشتد الصراع حين شعر أفراد من الشعب بفداحة الخطر الداهم على دينهم، إذا لم يأخذوا بيد العلماء الأحرار، ويعملوا على دعمهم. وعرفت الإدارة الاستعمارية أن شوكة العلماء وجمعيتهم تتزايد قوة يوما بعد يوم، وأن مواعظهم تجد آذانا صاغية لدى جماهير الشعب. فأصدر سكرتير الأمن العام في الجزائر - ميشيل - تعليماته المشددة (لمراقبة جمعية العلماء مراقبة دقيقة) و (حرم في هذه التعليمات على غير الإمام أو المفتي المعين من الإدارة الخطبة في الجامع) وحتى يشرف بنفسه على تنفيذ هذه الأوامر، عين نفسه (رئيسا للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية). وبدأ أفراد الشعب يصحون من سباتهم العميق وينضوون تحت لواء جمعية العلماء الآخذ في اكتساح البلاد.
ازداد عويل الاستعمار. وكثرت ضغائنه وأحقاده، ولم يحجم عن تدبير مؤامرة لاغتيال رئيس الجمعية - الشيخ عبد الحميد بن باديس -. وتعهد بتنفيذ هذه المؤامرة أتباع العلويين إلا أن هذه المؤامرة باءت بالفشل. وقبض أنصار بن باديس على المجرم، وكادوا يفتكون به لولا أن ردد الشيخ عبد الحميد قول النبي الأعظم صل الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
واستمرت جمعية العلماء في جهادها، وهي تصل الليل بالنهار، حتى تبعد خطر الإلحاد عن الشعب. وأبت جمعية العلماء أن ينحصر عملها في قاعدتها (جامع سيدي الأخضر بقسنطينة) فأوقدت البعثات العلمية إلى المدن والأرياف، داعية المواطنين إلى اقتفاء سيرة السلف الصالح منبهة القوم إلى مغبة ما يحل بهم، إذا هم ساعدوا الاستعمار الإفرنسي بطريقة غير مباشرة على نشر سياسته الإلحادية. وقد صادفت هذه البعثات في طريقها عقبات ومشقات، وتحملت عذابا وإهانات كالها عليها البوليس الإفرنسي وأنصاره. إلا أنها خاضت جميع هذه المخاطر بإيمان قوي وعزيمة صلبة.
يمكن هنا وفي مجال التعرض لأساليب الإدارة الإفرنسية في محاربة جمعية العلماء، ذكر حادثة مقتل (الشيخ ابن دالي عمر -الملقب بـ: كحول) والذي كان الإفرنسيون قد نصبوه إماما للمسجد الأكبر بالعاصمة - الجزائر -. فعلى أثر عودة ابن باديس ووفده من باريس، دفعت فرنسا بهذا الشيخ لإرسال برقية إلى الحكومة الإفرنسية (تتضمن عبارات قاسية ضد الوفد، والمؤتمر الذي عقده العلماء، ويتبرأ منهم، ويؤكد إخلاص المسلمين لفرنسا وموالاتهم لها). وأعقب ذلك تعاظم النقمة ضد هذا الذي انتحل لقب (مفتي الجزائر). فبات رجل الشارع الجزائرى يوجه أبشع الإهانات وأقذعها لهذا الخائن. وزاد الموقف توترا بسبب إقدام الشيخ الطيب العقبي على قيادة الحملة ضد (كحول). وأرادت الإدارة الإفرنسية ضرب عصفورين بحجر واحد، فأعدت قاتلا محترفا وجهته لقتل الشيخ كحول، واتهمت في الوقت ذاته جمعية العلماء بتدبير جريمة القتل. وتم اعتقال (الطيب العقبي) وألقي به في السجن.
وأشاعت الإدارة الإفرنسية في الوقت ذاته إشاعات مضادة لجمعية العلماء (التي تنظم جرائم القتل والتصفيات الجسدية للتخلص من خصومها - على ما زعمته الإدارة الإفرنسية). وكان لهذه الدعاية دورها في تساقط ضعاف النفوس. وفي مقدمتهم نائب قسنطينة الدكتور ابن جلول الذي أظهر تخاذله أمام قوة الهجمة فنكص على عقبيه وتنكر لأصحابه وشيعته. وقال: (إنه لا يشترك في حركة تعمد إلى القتل وإغماد الخناجر في قلوب المعارضين). وأدركت جمعية العلماء، وأعضاء نادي الترفي خطورة الموقف، فتم عقد اجتماع تقرر فيه الإعلان عما يلي:
أولا: إن العقبي ذهب ضحية غدر إداري ومؤامرة استعمارية دنيئة.
ثانيا: إن الادارة الاستعمارية لا تقصد بعملها هذا النيل من الشيخ العقبي، وإنما تريد تمزيق جمعية العلماء.
ثالثا: إذا نجحت الإدارة الاستعمارية في الوصول إلى هدفها، فإنها ستدمر الحركة الإسلامية من خلال إضعاف (جمعية العلماء).
رابعا: على الجمعية دعم الشيخ العقبي بكل قوة والدفاع عنه بكل ما يتوافر للجمعية من قدرات مادية ومعنوية، لإظهار براءته. وإلصاق التهمة بمرتكبها الأصلي (الإدارة الإفرنسية).
خامسا: القيام بحملة توجيهية لدحض مقولات (دعاة الهزيمة) و (دعاة السوء) وإحباط مخططات الأعداء الظاهرين والمستترين الذين يحاولون طعن جمعية العلماء ونادي الترقي من الخلف ومن الأمام. والمحافظة على جمعية العلماء، ومتابعة عملها بانتظام.
وتم تعيين محام للدفاع عن العقبي. ومضت أشهر قليلة على الصراع ظهرت بعدها الحقائق واضحة، واعترف القاتل - عكاشة - بفعلته، وأطلق صراح العقبي. غير أن الإدارة الإفرنسية نجحت في إسقاط الشيخ العقبي بشباكها، وأخذت في استخدامه لتنفيذ مخططاتها داخل جمعية العلماء. وظهر ذلك في أكثر من مناسبة. كانت الأولى عندما عقدت الجمعية اجتماعا لها لتوحيد الجهد مع الزعماء السياسيين، فوقف العقبي ليقول: أنتم رجال الله. أنتم رجال الدين. فما لكم وللسياسة؟ وهؤلاء الزعماء الانتفاعيون، لا تعرفونهم ولا يعرفونكم. هل رأيتموهم في المسجد يصلون معكم؟ هل رأيتموهم في النادي يستمعون معكم إلى الإرشاد الإسلامي؟ كلا، لستم منهم وليسوا منكم؟ ...) (4).
وكانت المناسبة الثانية، عندما لاحت نذر الحرب العالمية الثانية في الأفق، وتعاظمت تهديدات ألمانيا النازية لفرنسا. وفي اجتماع للعلماء في تلك الفترة، وقف الشيخ العقبي ليبادر إخوانه العلماء بقوله: (أرى أنه يجب علينا إرسال برقية إلى رئيس حكومة فرنسا، نظهر له فيها صدق عواطف الشعب الجزائري، ووقوفه مع فرنسا ضد كل عدوان) وتصدى له كل رجال الجمعية، وخاصة ابن باديس العظيم، الذي قال له: (كيف نكون مع فرنسا وهي التي لم تقم لنا وزنا، ولم تعترف لنا بحق، وأمعنت في إهانتنا واحتقارنا. فكيف تجدنا ساعة الخطر أعوانا وأنصارا؟ يجب علينا أن نسكت عنها إطلاقا ولا نقول لها كلمة).
...
هنا لا بد من مقارنة موقف الشيخ العقبي بموقف الشيخ التبسي. فعندما اندلعت نار الحرب العالمية الثانية سنة 1939، طلبت الولاية العامة بالجزائر إلى مختلف الهيئات والشخصيات الجزائرية أن يعلنوا للناس في الداخل والخارج عن ولائهم لحكومة فرنسا وإخلاصهم لها. وعلى هذا الأساس جاء ضابط كبير في الجيش الإفرنسي إلى الشيخ العربي التبسي - بتبسة - يسأله أن يدلي بتصريح يذاع بالإذاعة - الراديو - وينشر في الصحف. يؤكد فيه تأييده لفرنسا في حربها ضد الألمان. ولكن الشيخ العربي، أرفع وأجل من أن يمكن الاستعماريين من تحقيق هذه البغية الآثمة الدنيئة. فقفل الضابط الإفرنسي خائبا يجر أذيال الفشل. إذ أفسد الشيخ العربي على الاستعماريين خطتهم الرامية إلى إخضاع الشيخ عبد الحميد بن باديس كرئيس لجمعية العلماء بواسطة أحد إخوانه. وإثر هذا الحادث، جاء الشيخ العربي إلى قسنطينة، فقص على الشيخ ابن باديس القصة. وأعقبها سائلا مداعبا: (لو جاءوك يا شيخ، فماذا كنت تجيبهم يا ترى؟). فاندفع الشيخ عبد الحميد في ثورة مباغتة فقال: (أما أنا فوالله لو قال الاستعماريون قل: لا إله إلا الله محمدا رسول الله - ما قلتها) (5): (إني لن أمضي برقية - بتأييد فرنسا - ولو قطعوا رأسي، وماذا تستطيع فرنسا أن تعمله؟ إن لي حياتين، حياة مادية، وحياة أدبية روحية. فتستطيع القضاء على حياتنا المادية بقتلنا ونفينا وسمجننا وتشريدنا. ولن تستطيع القضاء على عقيدتنا وسمعتنا وشرفنا، فتحشرنا في زمرة المتملقين) (6).
...
وتضيق الصفحات عن احتواء مآثر الشيخ عبد الحميد بن باديس. وهوى السراج الوهاج الذي أشرق نوره على الجزائر، فتغلغل في كل أرجائها. مات الرجل عملاقا يوم 16 شباط - فبراير - 1940 وقد بات ملء السمع والبصر والفؤاد. وماتت بموته مجلته (الشهاب). وخرجت الجزائر المجاهدة تنعي في يوم واحد فقيديها الغاليين الإمام ابن باديس ومجلته.
قيل إنه مات (بسل العظام) وقيل إنه مات (مسموما). وتعددت الأسباب والموت واحد. غير أن هناك حقيقة بقيت ثابتة وخالدة، لقد مات الوجود المادي لابن باديس غير أنه بقي حيا بحضوره المعنوي - الروحي - ولقد قيلت كلمات كثيرة في رثائه، لعل أصدقها كلمة أخيه في الله وأخيه في الجهاد وخلفه في رئاسة جمعية العلماء الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الذي كتب ما يلي: (... أعتقد أن الراحل، أخي العزيز، لم يكن لأحد دون أحد، بل كان كالشمس لجميع الناس. وأعتقد أن فقده لن يحزن قريبا دون بعيد. وإن أوفر الناس حظا من الأسى لهذا الخطب، هم أعرف الناس بقيمة الفقيد، وبقيمة الخسارة بفقده للعلم والإسلام، لا للجزائر وحدها. فلهذا بعثت أعزيكم على فقد ذلك البحر الذي غاض بعد أن أفاض ... وإن كانت التعازي تعاليل لا تطفي الغليل. ولكنها على كل حال تحمل بعض الروح من كبد تتلظى شجنا، إلى كبد تتنزى حزنا. وظني في أخي أنه لو كان يعرف عنواني لكان أول معز لأول معزى) (7).
(واحسرتاه - رحم الله الراحل العزيز، جزاء ما بث من علم وزرع من خير وثقف من نفوس. ولله ذلك اللسان الجريء، وذلك الجنان المشع، وذلك الرأي الملهم. وإنا لفقدك يا عبد الحميد لمحزونون)
الهوامش:
(1) جريدة (المقاومة الجزائرية) نيسان - أبريل - 1957.
(2) صفحات من الجزائر. (الدكتور صالح خرفي) ص 79 - 91 و 334 - 335.
(3) الثورة الجزائرية (أحمد الخطيب) ص 122 - 127.
(4) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) 2/ 254 - 261.
(5) جريدة المقاومة - الجزائرية - 22 نيسان - أبريل - 1957.
(6) الجزائر والأصالة الثورية (الدكتور صالح خرفي) ص 23.
(7) كان الشيخ الإبراهيمي في هذه الفترة معتقلا في سجون (الحكومة).