نقد العلامة ابن باديس لطرق التدريس والمناهج العتيقة في تفسير القرآن الكريم
بقلم: د. علي الصلابي-
يرى الإمام عبد الحميد بن باديس أن في دراسة القرآن الكريم وتفسيره محاولة لبعث المجتمع الإسلامي الذي عرف مرحلة الركود الحضاري منذ أزمنة بعيدة، عن طريق بناء الإنسان المسلم بناء قرآنياً يكسبه الفعالية الحضارية ، ويخرجه من مرحلة الذهول الحضاري التي يعيشها، فقد كان رحمه الله يعدّ نفسه خادماً للقرآن الكريم، وقام بنقد المناهج العتيقة في التفسير التي كانت سائدة في المعاهد العلمية في وقته، وأكد بأنها مناهج تحول دون الانتفاع بهداية القرآن، واعتبر هذا مظهراً من مظاهر هجر القرآن.
ودعا ابن باديس إلى الاهتمام بعلم التفسير، باعتباره العلم الذي يحقق لنا تدبر آيات القرآن وتفهم معانيها، إذ لا يعقل أن يتخرج طالب من معهد من المعاهد العلمية المرموقة ويتصدى للوعظ والإرشاد والتدريس والتعليم، دون أن يكون قد أخذ بحظ وافر من علوم التفسير، وهذا من أكبر العيوب في تلك المعاهد.
وإذا وجد درس في التفسير في أحد هذه المعاهد فإن محتواه لا يعدو أن يكون مماحكات لغوية، وتطبيقات نحوية، فقال رحمه الله: “ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه والتفكير في آياته ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبيينه، فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبيينه، فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في الحلول الالية، دون أن يكون طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلاً، بل ويصير مدرساً متصدراً ولم يفعل ذلك”.
فكل منهج في التفسير لا يجعل من إبراز الهداية القرآنية هدفاً أساسياً له في المنظور الباديسي نوع من أنواع هجر القرآن حتى ولو كان فاعل ذلك يحسب نفسه في خدمة القرآن، فدرس التفسير ليس من أجل تطبيق القواعد الآلية من نحو وصرف وبلاغة، وإنما هو من أجل فهم الشرائع والأحكام وإدراك مقاصد التشريع وأسرار التكليف وتقديم إجابات حول المشاكل التي تواجه الإنسان.
والعلامة عبد الحميد ابن باديس جعل من أهم قواعد منهجه في التفسير بيان الألفاظ، وشرح معانيها شرحاً وافياً يساعد على فهم النص القرآني المراد تفسيره، ولقد تحدث ابن باديس نفسه عن هذا فقال في خطبة افتتاح دروس التفسير: “فقد عدنا ـ والحمد لله ـ إلى مجالس التذكير من دروس التفسير نقتطف أزهارها ونجتني ثمارها بيسر من الله تعالى وتيسيره على عادتنا في تفسير لألفاظ الآية بأرجح معانيها اللغوية، وحمل التراكيب على أبلغ أساليبها البيانية”.
ونظراً لهذا المنهج الذي اتبعه ابن باديس في التعامل مع الألفاظ والتراكيب، فإنه اشتد في نقد المفسرين الذين لم يولوا في تفاسيرهم هذا الجانب عناية كبيرة، فخلطوا في شرح الألفاظ وحمّلوا التراكيب ما لا تحتمله من المعاني.
ولننظر إليه ـ رحمه الله ـ وهو يفسر قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آية تَعْبَثُونَ *وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ *وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ *فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *} [الشعراء : 128 ـ 131].
فقد أوضح ـ رحمه الله ـ أن هذه الآية كشفت لنا نواحي كثيرة من تاريخ العرب، ومدى ما بلغه العرب من مدنية وحضارة، فهي نص صريح في استحكامهم بعلم تخطيط المدن والعمران بوجه عام.
ولكن الذي لم يعجب ابن باديس هو حمل المفسرين للفظ المصانع في الآية على معنى القصور أو مجاري المياه، وهذا التفسير تشهد له معاجم اللغة ودواوينها بالصحة، ولكن ابن باديس لم يعجبه هذا الاتجاه التفسيري، فقال: ولكن ليت شعري ما الذي صرف المفسرين اللفظيين على معنى المصنع اللفظي الاشتقاقي؟!. والذي أفهمه ولا أعدل عنه، هو أن المصانع جمع مصنع من الصنع كالمعامل جمع معمل من العمل، وأنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها العمران، ثم أكد ـ رحمه الله ـ أن هذا ليس كثيراً على أمة وصفها القرآن بما تقدم في الآية؛ لأن المصانع هي أول مستلزمات العمران ثم قال مناقشاً من يتشكك في حملها على المصانع بمعنى المعامل معتمداً على أن الآيات قبحتها ولا يعقل ما يلي:
ولا يقولن قائل: إذا كانت المصانع ما فهمتم، فلماذا يقبحها لهم وينكرها عليهم؟ فإنه لم ينكرها عليهم لذاتها، وإنما أنكر عليهم غاياتها وثمراتها، فإن المصانع التي تشيد تشيد على القسوة، والقسوة لا تحمد في مبدأ ولا غاية، ومن محامد المصانع أن تشاد لنفع البشر ولرحمتهم، ومن لوازم ذلك أن ترعى فيها حقوق العامل على أساس أنه إنسان لا آلة.
وهذا التفسير الذي انتصر إليه ابن باديس من كون المصانع في الآية جمع مصنع من الصنع، وهو تفسير تشهد له الدلالة اللغوية للكلمة كما وردت في معاجم اللغة، إذ إن من معانيها اللغوية ما يصنعه الناس، ثم ما يقوي هذا الرأي في نظري والله أعلم ـ أن السياق يفيده ويشهد له فقوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آية تَعْبَثُونَ *} [الشعراء : 128].
ويشمل كل المعاني التي ذكرها المفسرون للمصانع، من البناء والحصون ومجاري المياه..إلخ، ويأتي بعده قوله تعالى: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ *} [الشعراء : 129]. يفيد معنىً جديداً، غير مذكور في التركيب السابق وإعمال الكلام أولى من إهماله والتأسيس مقدم على التأكيد.
وكما اشتد ابن باديس رحمه الله في نقد بعض المفسرين على شرحهم لبعض الألفاظ القرآنية، فإنه وجه سهام النقد كذلك إلى بعض المفسرين في حملهم للتراكيب في بعض الآيات على غير وجهها الصحيح.
وسأكتفي بإيراد مثال واحد، وهو عند تفسيره لقوله تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبُّ غَفُورٌ *فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ *وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ *فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ *} [سبأ : 15 ـ 19].
فأكد أولاً على أن هذه الآيات معجزة في البلاغة إذ استوعبت تاريخ أمة بكاملها في سطور معدودة، ثم قال بأن هذه الآيات شاهد صدق على المدنية الزاهرة والحضارة الراقية التي بلغتها تلك الأمة العربية، فتلك المدينة كانت عامرة بالبساتين عن يمين السائر وشماله، ثم أن أصحابها كانوا متحكمين في بناء السدود وما كانوا ليبلغوا هذا المبلغ لولا تحكمهم في الهندسة التي هي ثمرة عدة علوم فكرية أخرى، ولكنهم كفروا بأنعم الله هذه ووظفوها فيما يغضب الله ويسخطه، فسلط الله عليهم من الأسباب ما خرب عمرانهم وأباد حضارتهم.
وتصرح هذه الآيات أن عمرانهم كان متصلاً بعضه ببعضه، فلا يخرج السائر من قرية حتى تلوح له أعلام القرية الأخرى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ *} [سبأ : 18]. وبالإضافة إلى قوة العمران، فقد كان الأمن شائعاً ليلاً ونهاراً، ولكن الشيء الذي كان ينقص هو الإيمان والشكر: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ : 19].
فما معنى قوله: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} هناك اتجاه عند بعض المفسرين مفاده أن هؤلاء بطروا هذه النعمة وأحبوا المفاوز يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في المخاوف فطلبوها، كما طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام أن يخرج لهم مما تنبت الأرض: {بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة : 61]. مع أنهم كانوا في عيش رغيد، في مَنّ وسلوى ومما يشتهون من ماكل ومشارب وملابس مرتفعة.
ولكن ابن باديس لم يعجبه هذا الاتجاه التفسيري فقال منتقداً: وأما قوله تعالى: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}، فإن السطحيين يحملونه على ظاهره، وأي عاقل يطلب بعد الأسفار؟ والحقيقة أنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم وإنما هو نتيجة أعمالهم، ومن عمل عملاً يفضي إلى نتيجة لازمة فإن العربية تعبر عن تلك النتيجة بأنها قوله، وهذا نحو من أنحاء العربية الطريفة.
بمعنى أن الأعمال التي كانوا يقومون بها كانت تستلزم ذلك الجزاء وهو زوال العمران المتلاحم الذي كان يرتاح فيه المسافر.
وهذه الأمثلة التي أوردناها تعكس الحس النقدي الذي كان يتمتع به العلامة عبد الحميد بن باديس، والدقة العلمية عنده في التعامل مع الألفاظ والتراكيب في الآيات المراد تفسيرها، فلم يكن رحمه الله مجرد ناقل لأقوال السابقين من المفسرين، وإنما كان ينقل بفهم وينقد بعقل، فيقبل ما يراه مقبولاً، ويردّ ما يراه غير مقبول.
مراجــع البحث:
د. علي محمّد محمّد الصّلابيّ، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج (2)، دار ابن كثير، دمشق، بيروت ، ط 1، 2016م، ص (262 : 26).
عبد الحميد بن باديس، تفسير ابن باديس (مجالس التذكير في كلام الحكيم الخبير)، دار الرشيد، الجزائر، ص 432 – 437
د. محمد الدراجي، الشيخ عبد الحميد بن باديس السلفية والتجديد ، دار قرطبة، الجزائر، ط1، 1428 هـ – 2007 م، ص 52.
محمد علي الصابوني، مختصر تفسير ابن كثير ، دار القرآن الكريم، بيروت – لبنان، الطبعة السابعة، 1402 هـ – 1981، (3 / 127).