صحيفة البصائر… كما رآها الشيخ مبارك الميلي رحمة الله عليه
بقلم: حسن خليفة-
كان الحسّ الصحفي (الذي يمكن التعبير عنه اليوم بـ «الحس الإعلامي») قويا متينا عميقا في فكر ومنهج الدعوة إلى الله تعالى عند الماهدين من علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين جميعهم، وعلى رأسهم القائد الفذّ العلامة الشيخ عبد الحميد ابن باديس الذي تحدث عن عالم الصحافة كما لم يتحدث عنه أحدٌ أبدا، فسماه «عالم الصحافة العظيم»، تأكيدا منه على أهميته ؛ وبيانا منه لإدراكه لخطورة دور الصحافة(الإعلام) في مجال التغيير والإصلاح؛ لأنه وسيلة الدعوة والتبليغ والإبلاغ والإيصال، وقد انخرط هؤلاء الماهدون في هذا العالم العظيم :تأسيسا وإنشاء، وكتابة، وتسييرا وإدارة، وتوزيعا وتكوينا حتى تحقق ما تحقّق ـ بفضل الله تعالى ـ من خيرفي نشرالفهم الصحيح للدين، وإيقاظ الوعي، والتهذيب وسداد التوجيه.
وبالطبع يتعذر تصوّر دعوة دون لسان، ودون قلم، ودون وسائط تبليغ وإيصال.. مع أن هذا هو شأننا اليوم ـ للأسف الشديد ـ وتلك مفارقة عجيبة غريبة دالّة.
ما أريد الحديث عنه في هذه السطورهو التأكيد على دور الصحافة والإعلام في المشروع التغييري/الإصلاحي، ولكن من منظور تاريخي بعض الشيء،وذلك باستعراض جزء من فهم الداعية المصلح مبارك الميلي لهذا الدور من خلال «صحيفة البصائر» ويمكن أن يكون المدخل هوهذا السؤال:
كيف تصوّر شيخ داعية مؤرخ مثقف كالشيخ مبارك الميلي رحمة الله عليه صحيفة البصائر، وهوالذي تولّى قيادتها على مدار أشهر(22 شهرا)(*) بما يعني إصدار نحو 90 عددا من أعداد البصائر، انتقلت فيها الجريدة من العاصمة إلى قسنطينة ؟.
إن الوقوف على فهم الشيخ الداعية الميلي في ذلك الوقت (الثلاثينيات) للصحافة ولجريدة البصائر تحديدا يجعلنا اليوم ـ نخجل ـ من فهمنا المتكلّس، ومواقفنا «البائسة» وتأخرنا في مجال الإعلام والتسويق المعرفي/الدعوي لما نؤمن به .كما نخجل من موقفنا من إعلام الجمعية ومن البصائر تحديدا.
كان فهم الشيخ مبارك الميلي للصحافة كما تحدث عنه بنفسه:
«من أهمّ الخطط وأعمّ الوسائل لتحقيق الغايات ونشر الدعوات إنشاء الصحف السيارة التي تحفظ جيّد الأقوال وسديد النظرات، وتدخل على الطالب في مسكنه، وعلى التاجر في متجره، وعلى الصانع في مصنعه، وعلى المـــلإ في ناديهم، وعلى المسافرين في مراكبهم، بلا لا يحجبها على الفتيات خدر ولا حرس، ولايحول بينها وبينهن خدر ولاحرس، وما وجدت فكرة الإصلاح الديني بأرض الجزائر حتى وجدت صحف ٌ تعبر عنها وتبشّر بها، وتدافع دونها «(البصائرعدد84 أكتوبر37)
أما فهمُه لدور البصائر تحديدا فهو ذلك الفهم المستند إلى الخطاب القرآني والمنطق الربّاني؛ حيث نقف على عمق التصور الإعلامي وخلفياته والرسالة الإعلامية المنوطة بالبصائرمن افتتاحية للشيخ مبارك للسنة الرابعة من صدور البصائر؛ باعتماده منطق ومنطوق الآية الكريمة المعبر عنه في وصية لقمان الحكيم في موعظته لابنه، مصداقا لقوله تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[لقمان:17]؛ حيث ذكر أن «البصائر» تسير في ضوء الوصية الخالدة التي هي من وصايا جمعية العلماء في جمعيتها العامة، وتوجيه رئيسها، هذه التي لاتزال علىه البصائر قائمة بذلك داعية إليه، وهي لاتزال على خطتها التي أعربت عنها للعمل على رفع مستوانا الاجتماعي في دائرة العروبة والإسلام ،من غير كراهية لجنس أو مبدإ أو شخص إلا جنس الظلم (البصائر عدد 141 نوفمبر1938)
وإذا نظرنا إلى الرابطة التي يجب أن تربط البصائربأعضاء الجمعية نجده واضحا كل الوضوح في ذلك؛ حيث يرتب على أعضاء الجمعية واجبات، كما يرتّب على البصائر أيضا واجبات، يقول: «وعلى أعضاء الجمعية أن يخبروا إدارة الجريدة بكل عمل يقومون به لخدمة الجمعية، وبكل عقبة يمكن أن تعترض سيرهم نحو غايتها، وبكل ظلامة (ظلم) تقع عليهم من أجل مبادئها، لتقوم إدارة التحرير بإبلاغ ذلك للرأي العام، فتبيّن سير الجمعية، وتخلّد موقف العاملين وتشهر بالظلمة الباغين «(عدد84)
ولم يهمل الشيخ الميلي كل ما له علاقة بسير وحركة الجريدة، طالما فهم دورها على ذلك النحو الأنيق العميق.. فقد استكتب لها، ودعا إليها في افتتاحياته وكلماته ودعا إلى الاهتمام بها(البصائر)ودعمها ورعايتها، والذود عنها بكل وسيلة؛ لأنها لسان حال الدعوة الإصلاحية.
ولم ينس مسالة التوزيع؛ لارتباطها الوثيق بنجاح الجريدة وضرورة وصولها في الوقت المناسب إلى قرائها وبأعداد كافية، حتى ينتفع بها أكبر عدد من القراء خاصتهم وعامتهم، ولذلك وُجدت وصدرت، يقول: «وعلى رؤساء الشعب وكل غيور من أنصار الإصلاح أن يرتبطوا بإدارة الجريدة للاتفاق على خطط العمل في نشر الجريدة بيعا واشتراكا، لتبقى على السير المنظم المنتظم والرقيّ المطرد»
إن مفهوم الشيخ الميلي لأهمية الجريدة، ومن خلالها دور الصحافة بصفة عامة، وهذا فهم كل زملائه المصلحين الدعاة يومئذ ـ نستكشفه من خلال التقدير العالي والتثمين الكبير لـ «الصحافة» والعمل على نسج علاقات وثيقة متينة بينها (الجريدة) وبين مجموع مكوّنات المحيط للتطوير والتحسين وحُسن الأداء والإبلاغ والإعلام بما يشمل: الكتاب، كبارا وشبابا، طرح القضايا الهامة، ترجمة كل ما يجري في الواقع، اعتماد الصحيفة كوسيلة لتبليغ الرأي العام، التحفيز على قراءة الجريدة وتوزيعها، وتمويلها…
بل وصل الأمر، بالنسبة للميلي رحمة الله عليه أن جعل فاتحة كل سنة لذكرى صدور البصائر عيدا للإصلاحيين، وسجل ذلك بقوله: «فقد بزغت شمس هذه الصحيفة على العالم الإصلاحي بعد طول انتظار .. فكان يومئذ للمصلحين ثلاثة أعياد وذكر منها..»….
وعيد إشراق هذه الصحيفة «(البصائرعدد90/ديسمبر1937).ولا ينسى أن يجعل أيضا مناسبة ذكرى صدور البصائر فرصة للدعوة لتـأصيل شخصية الأمة وتعزيزها «في احتفالها بمثل هذه الذكريات المجيدة، ويوضح أهداف اختيار تعداد عمر البصائر بالسنين القمرية، مع الرجاء من كل غيور على الإسلام والعروبة مهتم بحياتهما وقوتهما أن يعدّ عمر نفسه بالسنين القمرية(البصائر عدد 90).
تلك قبسات أحببتُ أن أضعها أمام أنظار الإخوة والأخوات قراء البصائر للتذكير ..والاعتبار.
* يمكن اعتداد كتاب «الشيخ مبارك الميلي: جهود متميزة في الحركة الإصلاحية الوطنية» (وهو في الأصل أطروحة ماجستير) كتابا مرجعيا في هذا المجال. وقد استفدنا منه في هذه السطور أيما استفادة.