في ذكرى خطيب العلماء وفقيه المصلحين العلاّمة الشيخ الطيب العقبي

بقلم: عبد الحميد عبدوس-

حلت يوم الخميس 21 ماي 2020 الذكرى التاسعة والخمسون (21ماي 1961) لرحيل خطيب العلماء وفقيه المصلحين الشيخ الطيب العقبي. كان الشيخ الطيب العقبي -عليه رحمة الله ـ من أعمدة الإصلاح ومن أبرز قيادات جمعية العلماء المسلمين.

ولد الطيب بن محمد بن إبراهيم العقبي (نسبة إلى بلدة سيدي عقبة) في 15شوال سنة 1307هـ الموافق 3 جوان1890م بولاية بسكرة بالجنوب الجزائري. هاجرت أسرته إلى الحجاز للحج سنة 1313هـ وكان صغيراً، ثم في السنة التالية سكنت عائلته المدينة النبوية في أول سنة 1314هـ /1895م، هرباً من حملات الفرنسيين بتجنيد الجزائريين في صفوف الجيش الفرنسي، وبعد وفاة والده أصبح يتيماً فتربى في حجر أمه، وقد سخر الله له شقيقه الأصغر حيث كان هو من يقوم بقضاء ما يلزم من الضروريات المنزلية فتفرغ للعلم.

تعلم على بعض العلماء بالحرم النبوي، مثل الشيخ محمد بن عبد الله زيدان الشنقيطي الذي أخذ عنه الأدب والسيرة، والشيخ حمدان الونيسي والذي كان من أبرز العلماء السلفيين في الجزائر وكان مربي ابن باديس، ثم هاجر للمدينة المنورة، وقد قابله ابن باديس في المدينة حين قدم للحج، وفي المدينة المنورة كان أول لقاء للعقبي مع ابن باديس والبشير الإبراهيمي، في سنة 1913، وبدأ مسيرته الإصلاحية بالكتابة في الصحف الحجازية داعياً للإصلاح والعمل فلقيت مقالاته قبولاً عند المسلمين وفتحت له صداقة ومراسلة مع بعض المصلحين المعروفين كشكيب أرسلان ومحبّ الدين الخطيب، وأصبح من أنصار ودعاة فكرة الجامعة الإسلامية وانتشر صيته ودوره بين المصلحين والنهضويين، ولهذا قام ساسة ورجال حزب تركيا الفتاة بنفيه إلى شبه الجزيرة التركية أكثر من سنتين، عقب ثورة الشريف حسين بسبب مقالاته في الصحف ولعدم تعاونه معهم، وقد لحقت به عائلته بعد خراب المدينة، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد إلى مكة المكرمة، فأكرمه الشريف حسين وتولى رئاسة تحرير جريدة «القبلة» وإدارة «المطبعة الأميرية» في مكة خلفا للعلامة محب الدين الخطيب.

رجع الشيخ العقبي إلى الجزائر في 1920م بهدف حماية أملاك العائلة من اعتداء البعض عليها، وبسبب اضطراب الأوضاع في الحجاز بين الشريف حسين والملك عبد العزيز بن سعود، فعاد للجزائر بنية حماية أملاكهم المعتدى عليها، ثم الرجوع إلى الحجاز.

أقام الشيخ الطيب العقبي بمنطقة بسكرة واشتهر بدروسه العلمية والدينية لطلبة العلم والعامة في مسجد «بكار»، وكان يعقد مجالس أدبية يحضرها أدباء ومثقفون أمثال الكاتب والصحفي الأمين العمودي و الشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة، وبسبب هذا النشاط قامت السلطة الفرنسية باعتقاله قرابة شهر ثم أفرج عنه، فعاد أقوى مما كان في الدعوة للتوحيد والأخلاق الفاضلة وحرب الطرقية والخرافات، في المساجد والصحف التي يشرف عليها العلامة ابن باديس (المنتقد والشهاب) وكانت مقالاته من المقالات الهامة فيهما.

ثم سعى الشيخ العقبي لتأسيس مجلة له ولإخوانه في بسكرة فظهرت جريدة «صدى الصحراء» في ديسمبر 1925م، وبعد عامين انفرد بتأسيس جريدة «الإصلاح» وذلك في 8 سبتمبر 1927م، وقد صدر من هذه الأخيرة 14 عددا ثم أوقفتها السلطة الفرنسية وذلك في سنة 1928م.

في جويلية1927 م تأسس نادي الترقي في الجزائر العاصمة ،وفي تلك الأثناء كانت شهرة العقبي قد اخترقتِ الآفاق، فاتصل به أهل النادي ليكون مشرفًا على النشاط فيه خطيبًا ومدرسًا ومرشدًا، فقبِل عرضهم، وانتقل -رحمه الله – إلى العاصمة، والتحق بنادي الترقي عام 1929م، ولم يكن خافيًا عليه أهمية نشر الدعوة والإصلاح في العاصمة وأثر ذلك على القطر كله، وقدِّرت محاضراته بهذا النادي بخمس محاضرات في الأسبوع، إضافةً إلى الحلقات والندوات التي كان يعقدها من حين لآخر مع جماعة النادي، ولم يكن نشاطه التعليميُّ مقتصرًا على النادي فقط، بل كان يلقي دروسًا في التفسير في المسجد الجديد بعد صلاة الجمعة، وبعد عصر كل يوم الأحد، وظل محاضرا دائماً في نادي الترقي حتى أقعده المرض سنة 1958.

عند تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بنادي الترقي، في سنة 1931كان للشيخ العقبي دور بارز وهام في هذا الحدث التاريخي المفصلي في تاريخ الجزائر الحديث ،انتخب ضمن مجلس إدارة الجمعية، وعين نائبا للكاتب العام وممثلا للجمعية في عمالة الجزائر العاصمة، وتولى رئاسة تحرير جميع صحف الجمعية (السنة والشريعة والصراط)، ثم جريدة (البصائر) من أول عدد لها صدر في 27 سبتمبر 1935م إلى العدد 83 الصادر في 30 سبتمبر 1937م حيث انتقلت إدارتها إلى قسنطينة، ومن نشاطاته في جمعية العلماء: إشرافه على مدرسة الشبيبة الإسلامية ودعا إلى إنشاء منظمة شباب الموحدين..

كان للشيخ العقبي تأثير بالغ في سكان العاصمة مما أزعج الفرنسيين وزاد في خشيتهم على سلطانهم، جراء تحريض الشيخ العقبي الجزائريين على الثورة، ومن آثار تأثير العقبي في حياة الجزائريين هجر الناس لشرب الخمر والميسر ومواطنها، ورجع أكثرهم إلى بيوت الله بعد أن خلت منهم، وفي هذا يقول الشيخ أحمد حماني رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأسبق: «فأقبل الناس عليه وأثّر في الوسط تأثيرا كبيرا، وقل الفساد والسكر والاعتداء، وكان مستشريا بالعاصمة، وانخفضت نسبة الجرائم، وتفتحت العقول والأذهان، وزالت منها كثير من الخرافات والبدع والأوهام، وصار للحركة جمهور غفير، خصوصا من العمال والشباب الذي سماه الشيخ العقبي (الجيش الأزرق) لما كان يمتاز به العمال من لباس البذل الزرقاء».

نتيجة لهذا النشاط الوطني الإسلامي التنويري، أصدر الوالي الفرنسي «ميشال» قراراً سنة1933 م يمنع بموجبه الشيخ العقبي من التدريس وجعل السبب أن العقبي ينشر المذهب الوهابي، ولمّا لم تنجح هذه المحاولات دبرت الإدارة الفرنسية مؤامرة لاتهام العقبي بقتل المفتي محمود بن دالي (كحول) بهدف تعطيل نتائج المؤتمر الإسلامي الذي شارك فيه العقبي مع ابن باديس والإبراهيمي في فرنسا ولعب فيه دورا بارزا للتصدي للاحتلال الفرنسي للجزائر، وفعلا فقد نجحت فرنسا في زعزعة المؤتمر الإسلامي وبث الفرقة بين العلماء والساسة وكبار المتبرعين للمؤتمر.

في 2 أوت 1936 تم تنفيذ مؤامرة اغتيال مفتي العاصمة الشيخ كحول وبعدها اعتقل الشيخ الطيب العقبي وتعمد الفرنسيون إهانته عند اعتقاله من نادى الترقي، وعن هذه الحادثة يقول نجله الأستاذ شكيب العقبي: «إن الشرطة الفرنسية داست بأقدامها برنوس الشيخ أثناء خروجه من النَّادي، كما خاطبته بأسلوب جاف وشتمته أمام الملأ، وقد حزن الشيخ حزنا عميقا لذلك»، وقد ثارت الجماهير احتجاجا على اعتقال الشيخ العقبي وصاحبه المحسن الشيخ عباس التركي فكادت تحدث فتنة عمياء لولا أن توجه إليهم الشيخان ابن باديس والإبراهيمي ونصحوهم بأن يقابلوا الصدمة بالصبر والتزام الهدوء والسكينة، مما أفشل على السلطات إغلاق الجمعية بحجة الشغب والفوضى.

قضى الشيخ العقبي في سجن بربروس ستة أيام، قبل أن يتراجع عكاشة عن اتهامه للشيخ وصاحبه، فأفرج عنهما بصفة مؤقتة، بتعهد عدم مغادرة العاصمة ووُضِعا تحت المراقبة، ولكن السلطات أخذت تماطل في إنهاء القضية سنة ونصف حتى صدر حكم بالبراءة للعقبي، لكن فرنسا سرعان ما اعترضت على الحكم واتهمت الشيخ العقبي مرة أخرى لتستمر معاناته مع قضاء الاحتلال ثلاث سنوات وبعدها صدر الحكم ببراءة الشيخ العقبي وصاحبه.

أثناء محاكمة الشيخ العقبي ظهرت نذر الحرب العالمية الثانية، فاستدعت السلطات الفرنسية العقبي وطلبت منه التوقيع على برقية تأييد لفرنسا ودعمها فوافق، ولكن السلطات طلبت أيضاً توقيع رئيس الجمعية ابن باديس، لكن ابن باديس رفض ذلك، ومع إصرار العقبي طرح ابن باديس الموضوع على إدارة الجمعية للتصويت.

وتم إجراء تصويت حول إرسال برقية تأييد من الجمعية لفرنسا فكانت النتيجة: 12 صوتاً معارضاً لذلك ومع رأي ابن باديس، و4 أصوات موافقة لرأي العقبي، فلم تُرسل البرقية، وكان منطلق الشيخ العقبي أن الشعب الجزائري ليس مستعداً بعد لمقاومة الاحتلال وأن الجمعية لا ينبغي لها أن تخوض الآن في العمل السياسي وأنه ليس من مصلحة الجمعية استعداء فرنسا في هذا الظرف.
وبسبب هذا الخلاف داخل قيادة الجمعية، تخلى الشيخ العقبي عن إدارةِ جريدة «البصائر» في سنة 1937م. حيث عوضه الشيخ مبارك الميلي في رئاسة تحرير البصائر، كما استقال الشيخ العقبي من المكتب الإداري للجمعية، ويقال إن فرنسا طلبت من العقبي أن يرسل برقية باسمه بعد استقالته من إدارة جمعية العلماء، لكنه رفض، في ذلك دلالة على أنه كان مخلصاً في رأيه لمصلحة الجمعية، وليس لمصلحته الخاصة.

ويروي الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين السابق قصة واقعية لحقيقة موقف العقبي من تأييد فرنسا في الحرب العالمية، فيقول: «في بداية الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م) كنتُ مجندا في إحدى الثكنات العسكرية بالبليدة، فساروا بنا إلى حضور مهرجان إعلامي دعائي أقيم في قاعة سينمائية كبيرة، للتنويه بمحاربة الحلفاء للدولة الألمانية الباغية، وما هي إلا لحظات حتى رأيتُ مندهشا فيمن يرى المصلح الكبير الشيخ الطيب العقبي يصعد إلى المنصة ليطلب إلى الجزائريين الحاضرين من المدنيين والعسكريين تأييدا كاملا مطلقا لفرنسا وحلفائها، في حربها الدفاعية من أجل الحرية والعدل والديمقراطية في العالم.

فإذا بالعالم المصلح الشيخ الطيب العقبي يفتتح خطبته بلمحة تاريخية للعالم العربي والإسلامي مع السياسة الاستعمارية الغاشمة التي درجت عليها فرنسا وبريطانيا في المشرق والمغرب، منددا بخيانة الحلفاء لوعودهم لمن ضحوا بدمائهم من الشعوب المستعمرة في سبيل انتصارهم سنة 1918م.
فكانت مقدمة خطاب الشيخ العقبي خيبة مريرة للسلطة المدنية والعسكرية التي نظمت المهرجان الإعلامي والدعائي مما جعل منظمي المهرجان يقطعون التيار الكهربائي فانطفأت الأضواء وانقطع صوت الشيخ الجليل وتفرق الجمع، بابتهاج الجزائريين وحسرة من الاستعماريين مدنيين وعسكريين».
توفي الشيخ الطيب العقبي -رحمه الله تعالى – في 21 مايو/ أيار 1961م، ودفن في مقبرة «ميرامار» بالرايس حميدو، وكانت جنازته جنازة مهيبة حضرها الآلاف من المشيعين.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.