نادي الترقي ونجمه الساطع الشيخ الطيب العقبي
ويقول عنه العلامة الراحل فارس البيان الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الرئيس الثاني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مذكراته : « … فكم نبتت فيه من مشاريع نافعة، وكم رنت في أبهائه أصوات مصاقيع خطباء العربية، وكم شبّت في أحضانه جمعيات مفيدة، وكم كان قدوة في الصالحات، وكم نسج الناس على منواله في تأسيس النوادي في أنحاء القطر، وحسبه شرفًا أنه مركز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وفيه تعقد اجتماعاتها السنوية العامّة، وحسبه فضلًا على الأمة ما له من الأيادي على مؤتمرها العام في هذه السنة، ففيه انعقدت الجلسات التمهيدية للمؤتمر، وفيه انعقدت اللجنة التنفيذية للمؤتمر في أيامه المشهودة، وفيه اقتبلت الأمة الجزائرية وفدها بعد رجوعه من باريس». وكنت ـ أنا كاتب هذه السطورـ شاهدا على الفرحة الغامرة والارتياح العميق الذي عبرت عنه ملامح العلامة الراحل الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين السابق عندما نجح في استرجاع نادي الترقي لحضن جمعية العلماء المسلمين، واستلم في 27 جانفي 2002 مفاتيح نادي الترقي من يد المجاهد الراحل عمر عيشون الذي ظل أمينا على النادي وقائما بشؤونه منذ استعادة الاستقلال الوطني. ومن أبرز خطباء ونجوم هذا النادي التاريخي الشيخ الراحل الطيب العقبي، فعند تأسيس النادي كانت شهرة العقبي قد اخترقتِ الآفاق، فاتصل به أهل النادي ليكون مشرفا على النشاط فيه خطيبا ومدرسا ومرشدا، فقبِل عرضهم، وانتقل – رحمه الله – إلى العاصمة، والتحق بنادي الترقي عام 1929م، ولم يكن خافيا عليه أهمية نشر الدعوة والإصلاح في العاصمة وأثر ذلك على القطر كله، وقدِّرت محاضراته بهذا النادي بخمس محاضرات في الأسبوع، إضافة إلى الحلقات والندوات التي كان يعقدها من حين لآخر مع جماعة النادي، ولم يكن نشاطه التعليميّ مقتصرا على النادي فقط، بل كان يلقي دروسا في التفسير في المسجد الجديد بعد صلاة الجمعة، وبعد عصر كل يوم الأحد، وظل محاضرا دائما في نادي الترقي حتى أقعده المرض سنة 1958. عند تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بنادي الترقي، في سنة 1931كان للشيخ العقبي دور بارز وهام في هذا الحدث التاريخي المفصلي في تاريخ الجزائر الحديث ،انتخب ضمن مجلس إدارة الجمعية، وعين نائبا للكاتب العام وممثلا للجمعية في عمالة الجزائر العاصمة، وتولى رئاسة تحرير جميع صحف الجمعية (السنة والشريعة والصراط)، ثم جريدة (البصائر) من أول عدد لها صدر في 27 سبتمبر 1935م إلى العدد 83 الصادر في 30 سبتمبر 1937م حيث انتقلت إدارتها إلى قسنطينة، ومن نشاطاته في جمعية العلماء: إشرافه على مدرسة الشبيبة الإسلامية ودعا إلى إنشاء منظمة شباب الموحدين.. كان للشيخ العقبي تأثير بالغ في سكان العاصمة مما أزعج الفرنسيين وزاد في خشيتهم على سلطانهم، جراء تحريض الشيخ العقبي الجزائريين على الثورة، ومن آثار تأثير العقبي في حياة الجزائريين هجر الناس لشرب الخمر والميسر ومواطنها، ورجع أكثرهم إلى بيوت الله بعد أن خلت منهم، وفي هذا يقول الشيخ أحمد حماني رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأسبق: «فأقبل الناس عليه وأثّر في الوسط تأثيرا كبيرا، وقل الفساد والسكر والاعتداء، وكان مستشريا بالعاصمة، وانخفضت نسبة الجرائم، وتفتحت العقول والأذهان، وزالت منها كثير من الخرافات والبدع والأوهام، وصار للحركة جمهور غفير، خصوصا من العمال والشباب الذي سماه الشيخ العقبي (الجيش الأزرق) لما كان يمتاز به العمال من لباس البذل الزرقاء». نتيجة لهذا النشاط الوطني الإسلامي التنويري، أصدر الوالي الفرنسي «ميشال» قرارا سنة 1933م يمنع بموجبه الشيخ العقبي من التدريس وجعل السبب أن العقبي ينشر المذهب الوهابي، ولمّا لم تنجح هذه المحاولات دبرت الإدارة الفرنسية مؤامرة لاتهام العقبي بقتل المفتي محمود بن دالي (كحول) بهدف تعطيل نتائج المؤتمر الإسلامي الذي شارك فيه العقبي مع ابن باديس والإبراهيمي في فرنسا ولعب فيه دورا بارزا للتصدي للاحتلال الفرنسي للجزائر، وفعلا فقد نجحت فرنسا في زعزعة المؤتمر الإسلامي وبث الفرقة بين العلماء والساسة وكبار المتبرعين للمؤتمر. في 2أوت 1936 تم تنفيذ مؤامرة اغتيال مفتي العاصمة الشيخ كحول وبعدها اعتقل الشيخ الطيب العقبي وتعمد الفرنسيون إهانته عند اعتقاله من نادى الترقي، وعن هذه الحادثة يقول نجله الأستاذ شكيب العقبي: «إن الشرطة الفرنسية داست بأقدامها برنوس الشيخ أثناء خروجه من النَّادي، كما خاطبته بأسلوب جاف وشتمته أمام الملأ، وقد حزن الشيخ حزنا عميقا لذلك». وقد ثارت الجماهير احتجاجا على اعتقال الشيخ العقبي وصاحبه المحسن الشيخ عباس التركي فكادت تحدث فتنة عمياء لولا أن توجه إليهم الشيخان ابن باديس والإبراهيمي ونصحوهم بأن يقابلوا الصدمة بالصبر والتزام الهدوء والسكينة، مما أفشل على السلطات إغلاق الجمعية بحجة الشغب والفوضى. قضى الشيخ العقبي في سجن بربروس ستة أيام، قبل أن يتراجع عكاشة عن اتهامه للشيخ وصاحبه، فأفرج عنهما بصفة مؤقتة، بتعهد عدم مغادرة العاصمة ووُضِعا تحت المراقبة، ولكن السلطات أخذت تماطل في إنهاء القضية سنة ونصف سنة حتى صدر حكم بالبراءة للعقبي، لكن فرنسا سرعان ما اعترضت على الحكم واتهمت الشيخ العقبي مرة أخرى لتستمر معاناته مع قضاء الاحتلال ثلاث سنوات وبعدها صدر الحكم ببراءة الشيخ العقبي وصاحبه. وبسبب الخلاف الذي حدث داخل قيادة الجمعية، عشيه اندلاع الحرب العالمية الثانية تخلى الشيخ العقبي عن إدارةِ جريدة «البصائر» في سنة 1937م. حيث عوضه الشيخ مبارك الميلي في رئاسة تحرير البصائر، كما استقال الشيخ العقبي من المكتب الإداري للجمعية، ويقال إن فرنسا طلبت من العقبي أن يرسل برقية باسمه بعد استقالته من إدارة جمعية العلماء، لكنه رفض، في ذلك دلالة على أنه كان مخلصاً في رأيه لمصلحة الجمعية، وليس لمصلحته الخاصة. ويروي الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين السابق قصة واقعية لحقيقة موقف العقبي من تأييد فرنسا في الحرب العالمية، فيقول: «في بداية الحرب العالمية الثانية (1939- 1945م) كنتُ مجندا في إحدى الثكنات العسكرية بالبليدة، فساروا بنا إلى حضور مهرجان إعلامي دعائي أقيم في قاعة سينمائية كبيرة، للتنويه بمحاربة الحلفاء للدولة الألمانية الباغية، وما هي إلا لحظات حتى رأيتُ مندهشا فيمن يرى المصلح الكبير الشيخ الطيب العقبي يصعد إلى المنصة ليطلب إلى الجزائريين الحاضرين من المدنيين والعسكريين تأييدا كاملا مطلقا لفرنسا وحلفائها، في حربها الدفاعية من أجل الحرية والعدل والديمقراطية في العالم. فإذا بالعالم المصلح الشيخ الطيب العقبي يفتتح خطبته بلمحة تاريخية للعالم العربي والإسلامي مع السياسة الاستعمارية الغاشمة التي درجت عليها فرنسا وبريطانيا في المشرق والمغرب، منددا بخيانة الحلفاء لوعودهم لمن ضحوا بدمائهم من الشعوب المستعمرة في سبيل انتصارهم سنة 1918م. فكانت مقدمة خطاب الشيخ العقبي خيبة مريرة للسلطة المدنية والعسكرية التي نظمت المهرجان الإعلامي والدعائي مما جعل منظمي المهرجان يقطعون التيار الكهربائي فانطفأت الأضواء وانقطع صوت الشيخ الجليل وتفرق الجمع، بابتهاج الجزائريين وحسرة من الاستعماريين مدنيين وعسكريين».