تجربة أحمد رضا حوحو في الترجمة الأدبية
بقلم : محمد بسكر-
اهتم الاستشراق الفرنسي بترجمة التراث الجزائري، وانتجت مؤسساته أدباء وباحثين أتقنوا اللسان العربي، وَخَبروا ثقافتنا، فنقلوا إلى لغتهم الكثير من آثارنا، ونشروا بحوثا تدل على طول المصابرة والباع، أمثال " أ. فانيان" الأستاذ بكلية الآداب بالجزائر، والذي تخصص في ترجمة كتب التاريخ العربية المتعلقة بإفريقيا الشمالية، والمستشرق "هوداس" أستاذ العربية في جامعة الجزائر، نشر عدة رسائل نقلها من العربية إلى الفرنسية، ككتاب التحفة لابن عاصم، وترجمة صحيح البخاري.. وغيرهما.
لم تتعاط النخبة الجزائرية الترجمة الأدبية كثيرا، وخاصة الترجمة من الفرنسية إلى العربية، رغم أن عددا كبيرا منهم تعلم في المدارس الفرنسية، وكان أول من أشار إلي أهمية الترجمة الأدبية الأديب "رمضان حمود"، فكتب مقالة في الموضوع سنة 1928م، تحت عنوان (الترجمة وتأثيرها في الأدب). وأشار بأنها الرابطة بين الأمم قديما وحديثا، ومن أركان الأدب التي لا يستهان بها، فهي إحدى الطرق التي يسلكها الأديب المتفنن نحو مدينة البيان وسحر الكلام، وترجم قطعة نثرية شعرية بعنوان المنفي"l' Exile "، للكاتب الفرنسي لاموني" l'amenais "، وهو من شعراء القرن التاسع عشر، وذكر بأنه ترجمها من لغته الجميلة إلى لساننا البديع بتصرف كبير يقتضيه الذوق العربي، وفي منتصف القرن الماضي اهتمت بعض النخب الأدبية بهذا الفن، أمثال الأستاذ " إسماعيل العربي" الذي قام بترجمة بعض القصائد الفرنسية إلى العربية ، و"الطاهر بوشوشي" وهو شاعر رومنسي، يكتب النثر ويترجم من الأدب الفرنسي، ترك بعض الأعمال منها " بحيرة لامارتين في الأدب العربي" سنة 1954م، وهي ترجمة لحياة هذا الشاعر الفرنسي، ونشر ترجمة لحياة وأفكار "جان جاك روسو" في حلقتين سنة 1958م.
يرجع تعامل الأديب أحمد رضا حوحو مع الترجمة الأدبية إلى فترة إقامته بالحجاز، حيث أكمل تعليمه بمدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة، وعمل فيها أستاذا سنة 1938م، وتزامنت حياته الدراسية مع ظهور مجلة المنهل السعودية بالمدينة المنورة سنة 1937م، لصاحبها ومُنشئها الأستاذ عبد القدوس الأنصاري، الذي اختاره سكرتيرا للمجلة، وعهد إليه بنقل نصوص أدبية من التراث الغربي.
كان ميل أحمد رضا حوحو للقصة والرواية والنقد هو الطّاغي على مسيرته الأدبية، فتجول قلمه بين أدب المقالة، وأدب الحوار، والأدب المسرحي، ولم يكن له اهتمام كبير بالترجمة الأدبية، يظهر ذلك في قلة الأعمال التي اشتغل فيها، ولعل اقتحامه لهذا اللون من الدراسات إنما تمّ بتوجيه من مدير المجلة، الذي رغب أن يطلع أدباء السعودية على الأدب الغربي، وسبق للأستاذ عبد القدوس الأنصاري أن كتب دراسة عن " آثار المدينة المنورة" سنة 1935م، وترجمت مقاطع منها من طرف الأستاذ "ز.ريخ" من المعهد الفرنسي للدراسات الشرقية، ونشرتها مجلة العلوم الاسلامية التي تصدر بباريس، لقد أراد الأستاذ عبد القدوس أن ينقل تجربة ترجمة النصوص إلى الأدب السعودي، ووجد في أحمد رضا الكفاءة العلمية التي تؤهله لهذا العمل، مقارنة مع أدباء شبه الجزيرة، الذين كانوا يجهلون الأدب الغربي، ولا يحسنون التعامل معه، في بيئة قليلة الاحتكاك بالفكر الأوروبي، وتنظر بعين الرّيب لهذا النوع من الأدب الدخيل.
تعامل "أحمد رضا" في أول مشواره في الترجمة الأدبية سنة...مع كتاب "الحج إلى بيت الله الحرام"، للمستشرق الفرنسي "ناصر الدين دينيه"، وهو كتاب لا تكمن أهميته في قيمته التاريخية التي سجل فيها رحلته إلى المشرق، وإنما في فصوله التي احتوت دفاعه المستميت عن الإسلام ، وقد اختار "أحمد رضا" منه بعناية فائقة ما يتعلق برد المؤلّف لافتراءات المستشرقين الغربيين في رحلاتهم المدونة، أمثال "بيبر كهارد" السويسري، و"بيرتون" الانجليزي، و"ليون روش" الفرنسي وغيرهم، ونشر هذه الفصول تحت عنوان "ملاحظات مستشرق مسلم على بعض آراء المستشرقين وكتبهم عن الإسلام" . ولأهمية ما كان يكتبه أن قام الأستاذ "عبد القدوس الأنصاري" بالتقديم لمقاله الأوّل، وممّا جاء في تَقدِمَتِهِ، قوله :« تعميما للمعرفة ونشرا لأفنان الثقافة، رأينا أن نفتح هذا الباب في المجلة، وسننشر فيه ما لذّ وطاب وحسن وأفاد، من ثمار التفكير الغربي أدبا وعلما، وقد افتتحناه بترجمة فصول من كتاب" الحج إلى بيت الله الحرام"، لناصر الدّين دينيه الفرنسي المسلم، لما فيه من متعة أدبية وعلمية، ولما له من علاقة خاصّة بهذه البلاد، وقد عهدنا بأمر ترجمة هذه الفصول إلى أديب أخذ من اللّغة الفرنسية بحظ وافر، هو أحمد رضا حوحو».
لم يترجم أحمد رضا حوحو لناصر الدين دينيه مقاطع من كتابه الحج فقط، وإنما وجدناه يرجع إليه مرة ثانية سنة 1939م، بعد سنتين من عمله الأول، ليسجل انطباعاته الشخصية بعد لقائه مع الملك " عبد العزيز آل سعود"، استطاع أن يعرّب كلامه بألفاظ تنم على تمكنه من أساليب اللغة، فينقل بأسلوبه السلس اندهاش وتأثر "ناصر الدين" بشخصية الملك التي تمثل قمة التواضع والبساطة الفطرية والاعتزاز بالنفس.
وترجم للأديب الفرنسي "فولتير "،" Voltaire " المصلح الاجتماعي الفرنسي، الذي عاش في عصر التنوير، وهو ناقد ساخر، اشتهر بسخريته الفلسفية الطريفة، ودفاعه عن الحريات والكرامة الإنسانية، لقد عان من الاضطهاد والتهميش، بسبب موقفه من النظام الفرنسي، فكان يرى بأن الملكية الدستورية البريطانية، أكثر تقدما واحتراما لحقوق الإنسان، أبدى ذلك في مجموع مقالاته بعنوان (Lettres philosophiques sur les Anglais). ولما يمثله أدبه من وقفة مع الشعوب المستضعفة في وجه الطغيان والتسلّط، وجد "أحمد حوحو" في شخصيته وأعماله ما يعبر به عن شعور وإحساس ظلّ مكتوما في صدره، وهو الشاب القادم من وطن يعاني التهميش الاجتماعي والاستبداد السياسي. ولعله تأثر كثيرا بأسلوبه الأدبي، فميل حوحو الى النقد الساخر وفن المجادلة والحوار، ما هو إلا صورة لانبهاره بهذه الشخصية الثائرة على الإستبداد السياسي والاجتماعي.
وتناول أيضا حياة الأديب "فيكتور هيجو "، صاحب رواية البؤساء، أشهر رواية فرنسية، بما تمثله من وصف اجتماعي ، وصراع بين الخير والشر والقانون، فهو بالنسبة إليه الزعيم الفريد الذي نهض بالأدب الفرنسي في القرن التاسع، فتأثر بكتاباته المعالجة لموضوع الفقر والفقراء، إذ كانت نفسه البائسة ـ كما قال: ((...تطالعني بين السطور، تقطر حيرة وألمًا )) ، فوجد فيه تشخيصا لإحساس مشترك بين أديبين، أو على حدّ تعبيره ، (( مزيج نفسين بائستين، تألمت احدهما منذ قرون، وتحيّرت الأخرى اليوم ))، وقد حاكى قصة البؤساء في مقالة نشرها في العدد الثالث من جريدة البصائر سنة 1947م، تحت اسم " خواطر حائر ".
لقد تميزت أعماله المترجمة بأسلوبها الأدبي الراقي، تجلت فيها انتقائيته للعبارات من غير تكلف، وامتزجت فيها مشاعره؛ لأنه ينقل من لغة عدو غاشم ، فلم تكن ترجمته مجرد نقل من لغة إلى أخرى، بقدر ما هي وقفة في وجه التبعية، وانطماس الذات، وتلك احدى المعاناة التي عانى منها المترجم شخصيا.
إنّ تجربة "أحمد رضا حوحو" رائدة في مجال الترجمة الأدبية، وإن قلّ انتاجه في هذا المجال ، فلم تتح له فرصة الاستمرار في أبحاثه، فأُجهضت تجربته في الأدب الفرنسي بعد ثلاث سنوات من العطاء، ليجد نفسه أمامه عقبات حالت بينه وبين القرّاء، لكونه يعيش في واقع اجتماعي يتسم بالانغلاق، ولا يقبل هذا النوع من الأدب؛ لأنّه يرى فيه خروجا عن المألوف، فقد توقفت مجلة المنهل عن نشر ترجمته للأدب الغربي، وتأسف الأديب أحمد رضا لذلك، فبعث برسالة إلى الأستاذ "عبد القدوس الأنصاري" سنة 1939م، أبدى أسفه لما أقدمت عليه المجلة، قال فيها : (( تأسفت جدا لغلق الصحافة الحجازية أبوابها في وجه أبحاثي في الأدب الفرنسي، ولا أدري موقف المنهل في هذا الشأن؟ وهل ستحرم حقيقة من الآداب الأجنبية)).
للموضوع مصادره