يوميات تلميذ في معهد ابن باديس أيام لابد أن تروى 1
بقلم: نورة بوحناش-
قبل البدء بقراءة الذاكرة: حياة سي عمرو هي حياة الجزائر، وذاكرته هي جزء حي من ذاكرة الجزائر، سي عمرو الذي تقلبت أطوار حياته، ممزوجة بأطوار الزمن الجزائري. طفلا عاش البؤس والفقر كما عاشته الجزائر تحت ظلم الكولونيالية، بنسختها الأشد بشاعة، بسماجة المنطق التحضري لرسالة فرنسا الإنسانية. تلميذ في الكتاب ثم في معهد ابن باديس، أطوار تتالت كان أثناءها يحمل هوية غريبة مزدوجة، تجمع بين متناقضتين، وفي الوقت نفسه تنفي الماضي وتبعثره، ولا تعرف للمستقبل استشرافا، إنه فرنسي مسلم، إذ يعبر شقي الهوية عن غربة للذات هو وهْمٌ لا يفسر، وهَمٌّ يبعثر الوجود. ولأن سي عمرو الطفل يفهم أصول هذه الهوية، فلم يكن له إذ ذاك إلا النسيان والقهر وفقدان الذاكرة. فهل سيتذكر يوما من يكون؟ هل سينبش في الماضي مع أقرانه عن الهوية المشتركة، لهؤلاء الفرنسيين المسلمين، ليعرف ذاته بين ذوات الفرنسيين والأوروبيين القابعين في أخصب أراضي الجزائر وأجملها؟ولعل الفترة التي سيقضيها في معهد ابن باديس في مدينة، تُذْكَرُ في تاريخ الجزائر على أنها مدينة مسلمة عربية، سيكون لها فصل المقال في بيان جذور الهوية وحدودها، وإجلاء الغمة، وبيان حدود الأزمة.
في قريته التي رأى فيها نور الحياة، كان كل شيء على الطبيعة الغفل، الإنسان، الحجر والسماء. أناس يأتون ويذهبون، مترددون على الحياة والموت منذ أمد بعيد، يعملون بين جنبات هذه الطبيعة، انتزاعا للقمة يسدون بها الرمق، عنت وكبد يتكرران بتكرار أيام الوجود. ولكنهم كانوا يتذكرون قول الشهادتين وكان شيوخهم يؤدون الصلاة ويحتفلون بزيارة الحرمين بعد تعب مضنٍ، وكأنها لحظات منسية طبعت في الذاكرة الجماعية لهؤلاء المنسيين.كما كانت يسود بينهم الود والرحمة، يرعون حقوق القربى والجيرة، يغيثون الملهوف، ويصبرون على البلايا، ويحبون بعضهم بعضا، ويتضامنون مع بعضهم، كما انتزعت من بينهم الخبائث، وهم يحيون على هذه الأخلاق الجميلة، لم يكونوا يعلمون أنها صنعة أولئك المبلغين بالحق الذين حلوا يوما ما في أرضهم، حاملين الدين واللغة، وجعلوهم مختارين بما ورثوهم من دين الفطرة والرحمة، ورفض الاستعباد جهادا، وإذن أليسوا مكلفين بحماية ميراثهم من الاندثار بين محاولات التبشير المتكررة؟ أليس هم من هربوا بدينهم إلى قمم الأطلس الشاهقة، هربا من هؤلاء الذين نذروا أنفسهم لإعادة الجزائر إلى سابق عهدها القديم بزعمهم، ومخلصين لتعاليم فرسان المعبد.
وعلى الرغم من ترديدهم لشهادة التوحيد، فهم لا يدركون معناها، فقد كانوا يزورون أماكن قدسها أجدادهم، ليواصلوا على هدي الآباء والأجداد، زيارة قبور صامتة، تنفخ فيها الرياح لقرون خلت، فيتردد في همس الزمان أن ساكنة هذه القبور يفعلون الأعاجيب، يبرؤون الأكمه والأبرص ويحيون الموتى، وينزعون العنت عن كل واقف للتضرع والاستجداء، وإذا ما أمعن المستجدي في استجدائه، بتقديم صدقة بين يدي ساكنة القبر، فستكون الاستجابة أمعن وأوضح، لتنتزع الهموم والغموم، بل قد يتصورون أن هذا الساكن الأعزل قد يغير القدر، لذلك يرتبون اللقاءات للعمل على الإخلاص في الولاء لساكنة هذا القبر أو ذاك، عبر ما تردد في المعجم الدلالي الجزائر "الزردة" وكم سيكون رضا أصحاب القبور كبيرا إذا ما أديت الطقوس حسب تعليمات الأولياء. فقد ورثت الذاكرة طقوس الولاء للاعتقاد فيها للعمل بها على مر الأيام المتتالية، لكن هؤلاء ينتشون أيضا إذا ما أدوا فروض الولاء للأحجار وأشجار، والمغارات حيث تسرع النسوة بالشموع، إضاءة لها بين جنبات الظلام، لعل طفلا أرهقته الحمى يشفى، أو عروس تعيسة لم تحبل مهددة بالطرد من أسرة زوجها، يأتيها الفرج من بين صدى المغارة التي ولت وجهها شطرها ها هي تبكي وتتوسل لكل هذه الكائنات الطبيعية، لعل فرجا ما يأتي من بين جنباتها. لقد غاب عن هؤلاء الذكر بغياب القراءة والكتابة، وعم الجهل فلم يكونوا يدركون معنى الشهادة، فهم لا يملكون نسخة الذكر، بل أصبحت لغة الذكر منبوذة وأهلها غرباء، فكيف يمكن الحصول على نسخة مكتوبة، ذلك أمر شاق بل مستحيل عند ساكنة هذه الجبال؟ فقد طال عليهم الأمد، وتباعد الزمان عن تاريخ عزتهم، ولم يعودوا يذكرونه، فتوارى خلف تلال النسيان.
يذكر سي عمرو أن عدد الذين كانوا يقرؤون القرآن، في قريته النائية على تخوم مدينة ابن باديس، لم يكن يتعدى خمسة رجال، ولكنهم يقرؤون ولا يستوعبون، لقد حدث لهم ما حدث للمورسكيين بعد خروج المسلمين من الأندلس، وكثيرا ما يتردد في ذهنه، سؤال عن تلك الأسباب التي دفعت هؤلاء المورسكيين الجزائريين إلى تذكر هويتهم في يوم ما، ثم عادوا وانتفضوا، ليثبتوا رويدا الهوية، وهم في سجال للدفاع عنها أمام أحفاد فرسان المعبد الذين يتوالدون دون انقطاع منذ قرون.
يذكر سي عمرو أنه ولد تحت سقف نسج من أغصان أشجار البلوط المقطوعة من الغابة القريبة، ويعلو هذا السقف قرميد جلب من محامى مدينة ميلة، وأن الجدران من حجارة، كثيرا ما هي مأوى للحشرات والحيوانات الضارة. لايختلف بيت مولده عن بيوت ساكنة الجبال، الذين فروا من فرنسا وتحصنوا هناك، بعيدا عنها وعن مثالبها. لم يكن سوى القايد ذلك الرجل المقيت الذي يرعى مصالح النصارى، هو الوسيط الذي يتوعد هؤلاء المعذبين في الأرض بالويل والثبور، إذا ما خانوا الأسياد الجدد الذين حلوا على أرض الجزائر.كان يزور القرية في فترات متباعدة ليذكرهم أن وضعهم في هذه الأرض هو وضع العبيد، وأن الرومي ينظر إليهم على أنهم أحقر من أن يهتم بهم الأسياد النصارى، وأن دينهم يزيدهم هوانا عند هؤلاء. إذ"كان ينبغي أن لا يعامل الأصلانيون وأراضيهم ككيانات يمكن تحويلها إلى كيانات فرنسية، بل كممتلكات تتطلب خصائصها اللا متغيرة العزل والفصل والإخضاع، رغم أن ذلك لا يلغي إمكانية الرسالة التحضيرية" إدوارد سعيد الثقافة وامبريالية ص 231
تلك هي ذكريات سي عمرو، وهي حياة للانديجان الطفل، حيث شعور بالغربة في أرض الانتماء الأصلي.فهو لم يكن يعرف أرضه، ولا انتماءه فسكان القرية ينطقون الشهادة، ويتكلمون العربية، ويؤدون فروض دين تعلموه من آبائهم ولكنهم لا يعرفون لهم رمزا لموطنهم، إلا أنه ينتمي إلى الدولة الفرنسية، وأنهم لا يمكن لهم أن يصلوا إلى مستوى الرومي، بل لا يستطيعون الاقتراب منه، أوه كم كانت الغربة عميقة، والعناء قاسيا، عندما تختلط المعاني، ويموت التاريخ ولم يعد سي عمرو الطفل يفقه شيئا من ظرفه الكولونيالي."وهكذا، فبينما أعادت فرنسا إنتاج نفسها في الجزائر، أُقصي الجزائريون إلى مرتبة دنيا من الهامشية والفقر" المرجع السابق ص 232
يذكر سي عمرو الطفل، أن هذا الجسر الذي يربط قرى المنطقة بالطريق الرئيسي، كان من إنجاز نابليون الثالث، قال أحد شيوخ القرية أن والده أخبره أن فرنسا، ولكي تستحوذ على المنطقة ذات الخيال الساحر بجبالها وغابات زيتونها ووديانها الجارية، قد سخرت الكثير من الأهالي لبناء الجسر فوق الوادي، ومن حينها لم يروا الرومي إلا نادرا، إنما القايد هو واسطته إلى سكان القرى المنتشرة في قمم الجبال وسفوحها، فقد يأتي متوعدا لكل من سولت له نفسه أن يشق عصى الطاعة، وعليه فقد تكيف هؤلاء مع الخوف وقرروا الحياد بالنفس خوفا على أبنائهم من القتل، ومن التجنيد الإجباري، ماذا يعني لمسلم أن يجاهد في سبيل فرنسا؟ هل عند موته سيكون شهيدا؟ وتيقن جميعهم أن فرنسا كانت قدرا مقدورا كما أومأ أحد شيوخ الزاوية، ما عليكم إلا أن تنحنوا لهذه الرياح العاتية، وأخذ شيوخ الطرقية ينسجون الخيالات والخرافات عن فرنسا، ولذلك سارت الحياة رتيبة اقتنع فيها الجميع بالقضاء والقدر، ولم يعد يتحدث عن هوان وذل.
هو عقد اختلطت الموازين فيه، ولم يعد الفقيه له قدرة على الفتوى فالحكم الجبري يطبق على الحياة، الناس والحجر، والاستسلام سيد الأيام المتكررة، بل انتهى دور الفقيه، ولم يعد هناك وقف، واستنهض الوافدون الجدد همة غريبة، طمس معالم الهوية، واسترجاع ميراث قديم جدا، إنه مجد روما وبيزنطة، وشمال إفريقيا المسيحي اللاتيني، لقد أزفت ساعة النهاية، والجزائر أصبحت فرنسية، وما من جدوى من تذكر التاريخ.
ويذكر سي عمرو الطفل أن الرومي صاحب ضيعة فارهة في منطقة رجاص، القريبة من مدينة ميلة، جاء يوما ما إلى الوادي سائحا، رفقة زوجته وأبنائه في أحد أيام الربيع الجميلة الضائعة في الجزائر الفرنسية. فأرسى عربته على شاطئ الوادي، ونزل إلى الأرض ليستمتع بالمناظر الطبيعية الخلابة التي حبى بها رب العالمين هذه البلدة التي لم تعد آمنة بحلول هؤلاء المغتصبين. يقول سي عمرو كنت حينها طفلا، ومظاهر العري والشقاء هي سيدة الحياة بين كل سكان المداشر المنتشرة، ولأن هؤلاء الوافدين يختلفون عنا اختلافا طبيعيا، فإن الجميع ذهل من منظر الرومي وأبنائه، عربته الأنيقة زوجته البيضاء الجميلة، وأبنائه الذين تبدو عليه نظرة النعيم، يومها حز في نفسه هذا المنظر، واختلط عليه الأمر، وتساءل عن هؤلاء فكيف يتنعمون في أرض ليست لهم، استحوذوا عليها استحواذا بالقهر والقوة، يا ترى هل يأتي يوم ننعم بخيرات الجزائر، كما ينعم بها هؤلاء الوافدون؟
يومها أدرك المسافة الفاصلة بين الذين نبتوا نباتا في هذه الأرض، وأولئك الذين اغتصبوها سيادة وانتهاكا، وسيكرر هذه الذكرى مرات ومرات، عندما سيصبح تلميذا في معهد ابن باديس، ففي يوم ما كان يجتاز وسط مدينة قسنطينة في طريقه إلى الدرس في معهد ابن باديس، استرجع ذكرى الرومي وعائلته على أنغام النشيد الوطني الفرنسي، يردد صداه في هذه المدينة العريقة، وقد بكت مآذنها وحزنت شوارع مدينتها العربية، نظر سي عمرو التلميذ المطربش آسفا إلى هذه الفرقة، الواقفة أمام مسرح قسنطينة تعزف أنغام (لامرسييز)، وقف وجنودها يؤدون حركات الزهو بهذه الأنغام، وسيربط سي عمرو الذكريات بعضها ببعض ليقسم أنه سيحرر الجزائر، حينها كان معلموه في المعهد يعلمونه أن شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب، وأن من قال أنه شعب مات فقد كذب.
1 – في كتاب الشيخ إدريس: ففي هذا الظرف الكولونيالي كانت تنسج ذكريات سي عمرو، لكن والده الحاج محمد قرر أن يرسله إلى كتاب القرية، فعلى الرغم من أزمة الانشقاق والغربة، وعلى الرغم من الفقر فجلال العلم المرتبط بالعمل لا يزال محمولا في ذاكرة هؤلاء المورسكيين الجزائريين، وعندما أزمع والده إرساله إلى كتاب القرية، بدأ لقب سي ينسج أول حروفه بين أفراد العائلة القريبة والبعيدة.
في صبيحة ما لبس سي عمرو الطفل "قنودرته" وانتعل "قباعته" ووضع زوادته على كتفه، لقد وضعت له والدته المحبة والحنونة أشياء ضرورية، ترافقه إلى المكان الذي سيجلس فيه ليحفظ القرآن ويُشَرِّفَ عائلته وربما يشفع لها يوم القيامة، كانت مكونات الزوادة لوحة وصمغ وقطعة كسرة، سيأكلها عندما يجوع، وقد أومأت له والدته بذلك قبل خروجه من بيته. انطلق مع والده، يمشي بين الأحجار في دروب وعرة وموحلة مسرع الخطى، متسائلا عن هذا الكتاب وشيخه وأقرانه الذين سيجلس على الحصير معهم مجتمعين.
وصل الأب وابنه إلى الكتاب، كان كوخا صغيرا تسقف بنبات الديس، كعادة الساكنة جميعهم إنه ميزة عمران المكان، دخلا معا إلى الغرفة الصغيرة المبطنة والمبلطة بالطين، فاستقبلهما الشيخ إدريس، وهو من الخمسة الذين يقرؤون القرآن ويحفظونه في المشتتة بين هذه البيوتات الفقيرة. كانت للشيخ إدريس حظوة تعلم العربية وحفظ القرآن في زاوية أولاد سيدي الشيخ بسيدي خليفة، بمحاذاة مدينة ميلة، هي أيضا مكان ما منسي من التاريخ الحضاري العربي الإسلامي، ساهم أيما مساهمة في تخزين مخزون الهوية، رحب الشيخ إدريس بسي عمرو الطفل وأجلسه على الحصير، وودع الوالد ابنه وهو يأمل في الخير الذي ينتظره في مآله من تعليم ابنه الأصغر القرآن.
في ذلك الزمان لم يكن الجزائري ممسوسا بوباء الدنيا، كان أكثر الكبار قد ورثوا من الذاكرة الممتدة من الفاتحين، أن الرجاء هو رجاء في الله وفي اليوم الآخر، لذلك عاد الحاج محمد إلى زوجته الحنون الطيبة مسرعا ليخبرها أن الطفل قد حل في مكانه، وأن مسعى رضا الله قد بدأ تحققه والحسنة بعشرة أمثالها، كيف لا وأن الذاكرة تبوح بمكنون من مكنوناتها، فمن علم ابنا من أبنائه القرآن وصبر على متاعبه، فسيكون لوالديه سندا للدخول إلى الجنة.
ولكن وللأسف الابنين الآخرين قد وجها إلى العمل، لتوفير لقمة الكفاف لهذه العائلة الفقيرة، وأخويه يذهبان يوميا مبكرا إلى حقول فقيرة يزرعونها ويرعون بعض القطعان من الماشية، يسرحون بها في الغابات المحيطة بالدشرة، ويعودون في المساء منهكين، وقد أضناهم التعب والإرهاق، وقد كان الأخ الكبير محبا لأخيه الصغير، فهو من سيرعاه بعد ذلك عندما انتقل إلى معهد ابن باديس بقسنطينة، وستتوطد علاقة المحبة بينهما طيلة الحياة وإلى النهاية أما عن الأخوات فقد كن ككل نساء الجزائر في ذلك الزمان، عالم إنساني منسي، يباع كما تباع السلع في الأسواق، عالم من الذوات البشرية المنهكة بتقاليد وأعراف، لا صلة لها بالذكر الموروث، فكم من فتاة تمت التضحية بها في سبيل دية تؤدي إلى الحياة.
حادث الشيخ إدريس والد سي عمرو الحاج محمد، عن أجر العلم الذي سيتلقاه ابنه، وكعهده فقد انتهى إلى اتفاق مرضي، ففي آخر العام، سيجمع الشيخ ثلاثة قناطير من القمح أو الشعير أجرا له، وفي كل جمعة ثلاثة بيضات أو دورو (عملة انقرضت بسبب التضخم الفاحش الذي حدث في الجزائر).
اليوم الأول بداية الدرس في الكتاب: القرآن كتاب بالعربية، وجماله وفهم معانيه لن ينال إلا بالعربية، وتعلم قراءته وحفظه لن ينال إلا بهذه اللغة.بدأ الشيخ إدريس بتعليم الأطفال الجالسين على الحصير الحروف الهجائية، اندمج سي عمرو الطفل مع جوقة الأطفال الآخرين، وبصوت واحد يرددون قائلين(الألف لاشان عليها، والباء تحتها نقطة ج نقطة من تحت، ح لاشان عليها وهكذا إلى أن وصل إلى نهاية الحروف الهجائية) لم يكن الطفل يفهم المدلول ولكنه كان يردد ويكرر، كما أمره الشيخ، وهكذا اندمج مع البقية وأصبحوا في وحدة واحدة، يقرؤون ويأملون في حفظ القرآن.
انتهى الشيخ من ترديد هذه الحروف الهجائية، وأمر هؤلاء التلاميذ أن يخرجوا ألواحهم، وأن يخطوا على هذه الألواح هذه الحروف التي حفظوها للتو.فتح سي عمرو الطفل الزوادة، وقد بدأ الجوع ينخر أحشاءه، فرأى قطعة الكسرة التي دستها أمه في هذه الزوادة بين أدوات درسه، نظر إليه متلذذا على الرغم من أنها كانت مجرد قطعة من كسرة شعير، ولكنه تناول اللوحة والقلم والصمغ، أكمل الكتابة بعناية، فهو الطفل المطيع والوديع كما عهده الجميع، بعدما أنهى ما أمر به الشيخ تلامذته، بدأ بتكرار سورة الفاتحة مع جموع الأطفال، فقد أمرهم الشيخ بحفظها قبل خروجهم من الدرس الأول. انتهى وقت الدرس اطمأن قلبه واستراح، فقد حقق وعد والديه بإدخالهما إلى الجنة.لما حان الخروج في منتصف النهار، خرج مسرعا برفقة هؤلاء الذين يشاركونه في البؤس والجوع، وجلس على حجر وأخذ يأكل كسرته، فإذا بها يابسة غصت في حلقه، فاتجه إلى ساقية ماء قريبة وأخذ يبلع كسرته بذلك الماء، ويحمد الله أنه وجد هذه الكسرة ليسد بها جوعه.
في المساء يعود سي عمر الطفل إلى بيته عبر تلك الدروب الوعرة والوحلة، فوجد أمه في انتظاره، مستبشرة باليوم الأول في الكتاب، سرد لها أبنها أحداث يومه، فزادت فرحتها، وانتظر سي عمرو الطفل المساء ليتناول العشاء مع العائلة، فهو كالعادة كسكسي ببعض حبات من الفول، ونام ليلة طويلة في عمق شتاء بارد كان فيها الثلج يغطي قمم الأطلس الشاهقة في جزائر أصبحت فرنسية، والإسلام فيها غريبا أما العربية فقد تم الحضر عليها، وأصبحت لغة أجنبية بأمر جمهوري ولم يعد ما يجمع الناس بها إلا صحف القرآن.
تكررت الأيام تلو الأخرى، وجاء الصيف بقيظه وقظيظه على ساحل وادي النجاء، وكالعادة ومنذ عشرات السنين على العائلة أن تنتقل إلى مصيفها المعتاد، هناك في غابة كثيفة يترقرق الماء بين جنبات صخورها الناتئة، وينتعش الهواء باردا في ليالي الصيف الحارة، حيث يسمر الكبار تحت أشجار التين المعمرة . لم يكن الانتقال إلى المكان الجديد والقديم للسياحة أو استجمام، بل بحثا عن الرزق، فهناك في قمم الجبال مرعى لبقرات قليلة وللقطيع الصغير من الأغنام والماعز، لعل الأم وبناتها ونساء العائلة، قد يجمعن قليلا من السمن يخبأنه ليكابدن صروف الدهر، وما يخبؤه الزمان، فذكرى الحرب العالمية الثانية لا تزال تتردد، إنه القحط، القطع والجوع، لذلك كان هم الكل ادخار ما يمكنهم ادخاره.
ولأن الأمطار تسقط مبكرا في بداية الخريف، يقوم رجال العائلة بزرع بعض الخضروات الضرورية كالبصل والثوم. وهكذا انتقل الجميع إلى "العزيب"كما كان يسمى واختلفت الحياة بعدها، وانتقل الكتاب مع الأطفال إلى قمة أحد جبال الأطلسي الضائعة في تلال الجزائر الشاسعة، واستكمل الشيخ إدريس تعليم الأطفال العربية وتحفيظهم القرآن، فهو أيضا كان من الجموع التي ترحل وفي صباح كل يوم كان الجميع يؤمون الكتاب، والكل كان ينظر إلى سي عمرو الطفل نظرة تقدير، فقد بدأ يكتب ويقرأ وحفظ بعض سور القرآن وهي أول بوادر النعمة.
بهذا قضى سي عمرو الطفل سنوات من طفولته في التردد على كتاب الشيخ إدريس من سنه السابعة إلى سن الثانية عشر في هذه المرحلة من عمره، انتقل سي عمرو إلى كتاب آخر يبعد عن البيت بمسافة طويلة، وأخذ يتعلم على يد شيخ آخر، وكالكتاب الأول، كان كوخا صغيرا مسقف بنبات الديس، وسيكرر رواد هذا الكتاب الجديد أنات الأيام الماضية عندما كانوا يتعلمون في كتاب الشيخ إدريس.كان الزمان هو سنتي 1948 -1949 ليحين موعد آخر في حياة سي عمرو الطفل.
وحان الوقت لكي يتردد على المدرسة التي بنتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ويا لها من قدرة قام بها الشيخ البشير الإبراهيمي، فقد تجاوز الآفاق وأوصل التعليم إلى هذه القرية المنسية على سفح الجبل وبمحاذاة الوادي، وفعلا فقد جاء الشيخ مزهود بلقاسم معلما معينا من قبل الجمعية، لكي يسكن في القرية، ويعلم الأطفال حقيقة دينهم، ويمدهم ببعض دروس العربية والفقه، حان الأوان لكي يلتحق سي عمر الطفل بالمدرسة ويجتمع بأقرانه في المسجد والمدرسة وقد رعتهما الجمعية لهدف نبيل إعلاء حقوق الجزائريين، أول حق هو معرفة من هم، هويتهم وكيف يمكن استرجاعها.
2-في مدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين -المسجد والمدرسة-: في كتاب الشيخ إدريس نال سي عمرو الطفل قاعدة أولى في العلم والتعلم، كما مكنه هذا الكتاب من نيل شرف لقب سي، بين مجموعة كبيرة من الذين لايقرؤون ولا يكتبون، وتتردد في ذاكرته بعد ذلك بسنوات طوال أنه كان ينتمي إلى هذه الجماعة المنسية بين ثنايا جبال الأطلس، ولم تكن لفرنسا علاقة بهذه الجماعة، وقطعا يعد هذا النسيان جزء من الازدراء المعهود من قبل المستعمر، بينما تذكرتهم جمعية العلماء ها هي قد بنت لأبنائهم مدرسة، وأخذت تعلمهم، لتنجلي عنهم ظلمة الجهل والاندثار، وها هي ترعى المسجد، وتقيم خطبة الجمعة، وبدأت تحارب العبادات التي اعتاد عليها السكان، وخالوا أنها قربات إلى الله.
حل المعلم الجديد الشيخ مزهود بلقاسم في القرية كان مختلفا تمام عن الشيوخ الذين حفظ على أيديهم القرآن وقرأ العربية، شيخ زيتوني مثقف، وقور المظهر حل إلى القرية رفقة عائلته ليسكن في البيت الذي بنته الجمعية بمساعدة الأهالي قرب المدرسة والمسجد.
يتبع-