مولود قاسم رجل الأصالة والتفتح ورائد التواصل والتآخي بين الشعبين التونسي والجزائري
بقلم: محمد صلاح الدين المستاوي-
حضرت بالعاصمة الجزائرية ملتقى دعا إليه المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر تكريما للأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم رحمه الله الذي تقلب في عديد المسؤوليات الرفيعة من مستشار للرئيس هواري بومدين إلى وزير للشؤون الدينية والتعليم الأصلي إلى رئيس للمجلس الأعلى للغة العربية فضلا عن نضاله الوطني في صلب جبهة التحرير قبل استقلال الجزائر وبعده.
وقد شارك في أشغال هذا الملتقى عدد من أساتذة الجامعات الجزائرية وأصدقاء مولود قاسم ومن زاملوه في المسؤوليات الحكومية والحزبية وقدم جميعهم شهادات في عبقرية مولود قاسم وسعة ثقافته وتنوعها وشموليتها، فقد كان نموذجا للتفتح والتفاعل مع الآخر في سعة صدر وخلو من المركبات والعقد فهو الذي انتقل في تكوينه من المدرسة القرآنية إلى جامع الزيتونة في تونس، وهي مرحلة خصبة جدا وقف عندها المشاركون وتحدثوا عنها بإعجاب وتقدير وامتنان لتونس التي آوت مولود قاسم وإخوانه من سبقوه أو زاملوه أو جاؤوا بعده من مختلف الأجيال فنهلوا من معين الزيتونة العذب وعاشوا بين إخوانهم وأهليهم الذين أكرموا وفادتهم، وكنت وأنا استمع إلى هذه الشهادات والاعتراف بالجميل لتونس وأهلها وزيتونتها المباركة أشعر بالافتخار والاعتزاز والإكبار الشديد لأبناء الجزائر المعترفين بالجميل (ولا يعرف الفضل إلا ذووه) وقلت في نفسي انه رصيد من الإخاء والحب بين شعبي تونس والجزائر قل أن يكون له نظير.
كان مولود قاسم رحمه الله النموذج المجسم لهذا الإخاء وهذا الحب وهذا الوفاء، فقد حرص رحمه الله عندما أوكل إليه الإشراف على قطاع التعليم الأصلي والشؤون الدينية على أن تكون تونس وأبناء تونس حاضرين في كل ما ينظمه من ندوات وملتقيات الفكر الإسلامي التي شهدت في عهده ازدهارا وانتشارا وتوسعا وكانت أشبه ما يكون بالجامعات الصيفية التي تبث أعمالها وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة تعميما لفوائدها الجمة.
حضر هذه الملتقيات من تونس بدعوة من مولود قاسم رحمه الله شيوخ مولود قاسم وأساتذته ومن زاملوه في الزيتونة نذكر من هؤلاء: عثمان الكعاك والصادق بسيس والحبيب المستاوي والشاذلي النيفر والشاذلي بلقاضي والمختار بن محمود وغيرهم رحمهم الله فكانت قاعات الملتقيات وقاعات النزل التي يقيمون فيها أشبه ما تكون بالنوادي الثقافية التي تروى فيها الذكريات وتستحضر المناظرات التي شهدتها في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن الماضي الخلدونية وغيرها من النوادي والجمعيات الثقافية.
لقد دعا مولود قاسم رحمه الله من ذكرت من الأسماء الذين غادرونا إلى دار البقاء كما دعا غيرهم وأنا أحدهم ممن يحفظون لمولود قاسم رحمه الله وكل إخوانه من أبناء الجزائر ممن درسوا بالزيتونة حبهم الشديد لتونس واعترافهم واعتزازهم بمعهدهم العتيد الزيتونة الذي بادلهم هذا الحب والود ولم يبخل عليهم بأي شيء لقد سوى بينهم وبين إخوانهم التونسيين بل فتح لهم هناك في الجزائر فرعين لجامع الزيتونة في قسنطينة وعنابة.
والجزائريون يعتزون بأن رئيس جمعية العلماء الجزائريين ومؤسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله درس في الزيتونة وحاضر وسامر على منابر الجمعيات التونسية الثقافية.
إن مولود قاسم رحمه الله الذي أقام المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر ذكراه هو نموذج للمثقف والعالم والمفكر والمصلح والوطني الغيور تماهت وامتزجت في شخصه كل هذه الأبعاد فجعلت منه من لا ينقضي ذكره على مرّ الأيام.
لقد ملأ مولود قاسم رحمه الله الدنيا وشغل الناس آمن بالإصلاح وآمن بالتغيير وآمن بالعمل وكان يتوقد حماسا وغيرة على الهوية والأصالة يدافع عنهما بلا هوادة ويتحمل من اجلهما كل أذى. * لقد كان رحمه الله امتدادا لمدرسة الإصلاح، مدرسة السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وكان يحفظ عن ظهر قلب كتاب العروة الوثقى.
حارب الجمود والركود والتكاسل والتواكل ودعا إلى الاجتهاد ومارس التفتح في أوسع مدى، فقد كان يتقن ما يزيد على خمسة عشر لغة (الفرنسية والانجليزية والايطالية والألمانية والسويدية والاسبانية وغيرها وغيرها) إتقان من يكتبها ويحاضر بها.
ولكنه وهو المنحدر من قبائل الجزائر كان شديد التمسك باللغة العربية لا يقبل أن يقع النيل منها أو زحزحتها عن مرتبتها الأولى في كل شيء: في الإعلام والتعليم في كل مراحله واختصاصاته وكان يحاضر للإقناع بعبقرية اللغة العربية ودقتها وأنها رمز الشخصية ومفتاح التقدم.
وعندما ترأس المجلس الأعلى للغة العربية كان رحمه الله يباشر بنفسه إزالة كل ما يمكن أن يجعل اللغة العربية في غير منزلتها الأولى انطلاقا من اللافتة البسيطة في الشارع.
تلك بعض من خصال مولود قاسم رحمه الله رجل الأصالة والتفتح ورائد التواصل والتقارب والتآخي بين أبناء الشعبين التونسي والجزائري.
لقد سعدت أيما سعادة بالأيام الثلاثة التي قضيتها في الجزائر بهذه المناسبة التي أتاحها لي الدكتور أبو عمران الشيخ رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر حيث التقيت بصفوة من عرفت من أبناء الجزائر من الأساتذة الفضلاء الذين لم يتركوا لي ما أقول بما اثنوا به على تونس وعلمائها وشعبها فلم أضف ما يذكر غير التعبير عن مبادلتهم نفس المشاعر داعيا إلى أن تكون مثل هذه المناسبة فرصة لتوثيق ذكريات التواصل والتمازج والالتحام بين أبناء تونس والجزائر خلال العقود التي سبقت إحراز البلدين لاستقلالهما وخاض فيها الشعبان ملاحم من النضال المشترك بالقلم والفكر وبالسّاعد والسلاح في الساقية وغير السّاقية ولعل هذه الفكرة (عقد ندوة للتاريخ لهذه الحقبة ما دام من عاشوها لا يزالون على قيد الحياة) ترى النور هناك في الجزائر أو هنا في تونس ورحم الله مولود قاسم فقد وضع لبنات في صرح هذا التكامل والتفاعل والتمازج بين شعبي تونس والجزائر.