زيارة الشيخ محمد الأمين بوخبزة للجزائر ولقائه العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي

وهذه قد سطر أحداثها ببنانه، واعتصرها من ذاكرته، في جزء لطيف مفرد، أسماه ملامح من رحلاتي الحجازية)، قال فيه بعد الحمد لله والصلاة والسلام:

كانت رحلتي الأولى بَرّا عام 1382 هـ-1962 م ضمن وفد من بني بلدي في سيارة مشتركة، زرنا خلالها الجزائر وتونس وليبيا ومصر، ثم امتطينا طيارة لضيق الوقت إلى جدة، وبعد انتهاء الحج عدنا بحرا إلى الأردن ثم زرنا سورية ولبنان، ومنه بحرا إلى الإسكندرية فبرشلونة فالمغرب.

وكانت رحلة طيبة طالت ثلاثة أشهر ونصف لولا ما شابها من ضياغ سيارتنا بمصر حيث استولى عليها المصريون بميناء الإسكندرية ظلما وعدوانا بحيلة مفتعلة، وتفصيل ماجريات الرحلة ووصف المنازل والديار والأخلاق والعادات والمشاهد يطول جدا، ويحتاج إلى وقت، والمقصود الآن الإشارة إلى ما تم لنا من لقاء بعض أهل العلم، وما استفدناه من هذا اللقاء، وزيارة بعض مشاهد مشاهير أهل العلم للاتعاظ والاستذكار.

فأول ذلك بعد خروجنا من المغرب زيارة مدينة تلمسان الجميلة الوادعة، وقد صلينا بها صلاة الجمعة بالجامع الكبير الذي هو أثر من آثار المغاربة بصحنه ونافورته وصومعته المربعة المزخرفة بالزليج المغربي، ومن كتابة منقوشة على الجدار القبلي من المسجد علمت أن بمقصورته خزانة كتب وضريح أحد ملوك تلمسان المشهوريين من بني زيان، أظنه: يغمراسن، لم يتح لي الوقوف على الكتب ولا القبر، وكان خطيب الجمعة العربي الحصار (وللتاريخ فإن أولاد الحصار هؤلاء هجر منهم إلى المغرب فكان منهم بتطوان إلى عهد قريب وانقرضوا(1)، وما زال منهم إلى الآن بسلا)، وكان الرجل يخطب ويُطَعّْم كلامه باللهجة الدارجة للإفهام، وربما عبر خلالها باللغة الفرنسية لزيادة البيان، أننا لاحظنا أول ما لاحظنا أن الجزائريين حتى المتعلمين منهم يخللون كلامهم بالفرنسية، وهذا من أثر الاستعمار الفرنسي الذي طال واستطال قرابة قرن ونصف، ولولا ما من الله به عليهم من قيام جمعية العلماء المسلمين بهنة وعناية العالمين الشخين عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي الذين إليهما بعد الله تعالى يرجع الفضل في بقاء القرآن واللغة لعربية بينهم ولا سيما في بعض المدن والمراكز التي كان نشاط العلماء جديا بها رغم اضطهاد الفرنسيين لهم ومحاربة التعليم الإسلامي واللغة العربية، إضافة إلى الصوفية وزواياهم جادة في تخذير أعصاب الشعب وأمره بالاستسلام للحكام وعدم مناهضة سياستهم، ثم صعدنا جبل العباد مارين بمقبرة به ضريح الشيخ محمد بن يوسف السنوسي صاحب العقائد، وبمصلى الجبل -وهو عامر المباني والسكان- تقع مدرسة أبي عنان المريني ومسجده الذي بناه قرب ضريح أبي مدين الأندلسي رحمه الله، وقد دخلنا المسجد وهو معربي في هندسته وصومعته التي تضارع صوامع فاس.

وقد زرنا بالجزائر مدنا كثيرة، منها: ابن العباس، وتلمسان، وقسنطينة، والجزائر العاصمة، وسطيف وعنابة وغيرها. ومكثنا أياما جميلة بالعاصمة، زرت خلالها ضريح الشيخ عبد الرحمن الثعالبي الفقيه المشهور صاحب التآليف العديدة كتفسيره (الجواهر الحسان)، و(العلوم الفاخرة)ن وغيرها، وكضريح مولاي محمد، وقد لاحظت من مظاهر التغريب الغريبة اللافتة للنظر: كتابة الرخامات على القبور بالفرنسية مع صور المقبور بشكل كتاب مفتوح، وكان نزولنا بفندق قريب من جامع كشتاوة القريب من ساحة الشهداء حيث الجامع الحنفي الشهير الذي تحمل صومعته المغربية ساعة كبرى وسطه، وهو مبنى على الطراز التركي، وقريبا منه يقوم الجامع الكبير الطي هو من بناء المرابطين، وما زال شكله وهندسته وصومعته المربعة القصيرة، أما جامع كتشاوة فقد كان من المساجد التي حولها الفرنسيون إلى كنائس، فلما نصر الله الجزائريين عليهم وأحلوهم عن الوطن أعادوا هذه المساجد إلى وضعها الإسلامي، وأزالوا الصلبان من أبوابها ووقبابها وأبراجها، وكانت أول جمعة أقيمت بعد إعلان الاستقلال بهذا المسجد الفخم، وخطب به فيها الشيخ البشير الإبراهيمي خطبة نارية بأسلوبه العجيب ولهجته الصادقة. ومازالت نبراته ترن في آذاننا وقد أذيعت يومها بالراديو. ولذلك كان من أهم مقاصد الرحلة الاتصال بمثل هذا الشيخ والأخذ عنه. فسألت عنه كثيرا ، ومن عجب أنني لم أجد من يعرفه وهو أشهر عالم جزائري عم صيته المغرب والمشرق قديما وحديثا، ومواقفه في مناهضة الاستعمار ما زالت ماثلة في آثاره خصوصا جريدة (البصائر) التي كانت تعتبر بالمغرب والجزائر وتونس بمثابة قنبلة قوية المفعول يحاكم ويعاقب من ضبطت عنده، فكان الناس يتواصون بقراءتها، ويبذلون ماشاء الله للحصول عليها خصوصا بعد ظهور طلائع الأزمة السياسية بالمغرب التي انتهت بنفي الملك محمد الخامس وخلفه ، فكان الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله يتصدى لكشف المخطط الفرنسي وفضح سياسة فرنسا وعملائها كعبد الحيى الكتاني والتهامي الكلاوي، وكان نصيب الكتاني من حملاته كبيرا نظرا إلى مركزه العلمي وشهرته بالمشيخة(2)، ومعرفة الشيه البشير به، قلت: وظللت أسأل عنه غير يائس إلى أن لمحت شابا وسيما يتأبط كتبا وجرائد فتوسمت فيه المعرفة وسلمت عليه وسألته عن أحوال البلد وما جرت به العادة، ثم سألته عن الشيخ فأخبرني أنه يعرفه وأن سكناه بحي حيدرة وهو بعيد وأشار عليّ أن أركب الحافلة رقم كذا، وبعد الوصول إلى الحي وهو كبير واسع اسأل الشرطة، فشكرته وامتطيت الحافلة إلى الحي وقصدت الشرطة فلم أجد عندهم خبرا عنه، ولما رأوا حيرتي وتعجبي، أمرني أحدهم أن أتصل بمحطة البنزين قائلا: إن جميع أهل الحي يمرون بسياراتهم عليها وأصحابها يعرفونهم، فقصدتها وسألتهم فأفادوني أن رجلا أشيب أعرج يمر أحيانا قليلة عليهم، وأنه يسكن بمفترق الطرق القريب، وأشاروا إليه، فذهبت ووجدت دكانا للمأكلولات ثمة فسألت صاحبه، فأشار إلى فيلا صغيرة فقصدتها وطرقت بابها مرارا إلى أن عزمت على الانصراف آيسا، فإذا بالشيخ يطل ملتفتا خارج الباب فتقدمت وسلمت، فسأل عني فتعرفت إليه فرحب، واستدعاني للدخول خلفه، ولأول مرة رأيت الشيخ عيانا وعلامة الهرم والإعياء بادية عليه، وعاهة العرج كبيرة، فجلسنا في حجرة متواضعة لا أثاث فيها ولا فراش إلا بساطا متواضعا ومنضدة صغيرة جدا عليها جرائد ومجلات وعصا الشيخ، وبعد حديث قصير اعتذر الشيخ عن خلو البيت قائلا بأن أثاثه وكتبه وأهله مازالوا بالقاهرة، وأن الإخوان (بقصد الحكام من جبهة التحرير: ابن بلة ورفاقه) لم يخصصوا له مكانا مناسبا واسعا يسعه، وتحدث بمرارة عن جفوتهم له، وأنهم لم يمنحوه إذنا بزيارة المغرب للاتصال بإهوانه من معارفه من زعماء المغرب وعلمائه، وسمى لي عددا منهم ما ولت أذكر: ابن العربي العلوي وكنون وداو وعلالا الفاسي وغيرهم، قال: وما وزال يطالبهم ويلح عليهم وهم يسوفون، كما تحدث الشيخ عن بعض ذكرياته بالشرق كالحرمين ودمشق والعراق ومصر، وعن نشاطه الصحفي والتعليمي، وكنت أحب أن أدون ذلك لو كان الظرف يسمح، ولم يكن نتيسرا إذ ذاك اقتناء آلة تسجيل، وأخيرا طلب مني الشيخ أن لا أنساه من دعاء صالح من مظان الإجابة بالحرمين، وأن أزوره في العودة ليأنس بي رحمه الله وجزاه خيرا، ولم يكتب لي أن أزوره لأنني عدت إلى وطني عن طريق إسبانيا، وكنت سألت الشيخ عمن أزوه بتونس فسمى لي شيخا كتبيا بالقرب من جامع الزيتونة، لعل اسمه: صالح الثميني، وقد زرته وجلست معه، وهو من علماء الإباضية، ثم ودعت الشيخ البشير وخرجت ناسيا نظارتي الشمسية بمنزله ولم أعد إليها رغم اعتيادي لُبسها، واشتريت أخرى، ووذلك لبعد الحي وإعجال السفر، ولم أكن عرفت السبب في إضراب الشيخ البشير عن ذكر علماء تونس كابن عاشور وابنه والشاذلي النيفر وحسن حسني عبد الوهاب، حتى اقتنيت مجموعة آثاره المختارة فقرأت ردودخ على الشيخ الطاهر بن عاشور، ومن سار على مهجه في موقفهم من محنة التجنيس الذي فرضه الفرنسيون على التونسيين فكان مثار أخذ ورد وسبب امتحان عسير لكثير من العلماء والكتاب، وكان موقف الشيخ الطاهر غير مشرف، وهو شيخ الإسلام وكبير علماء الزيتونة، رحمه الله وسامحه، وحاولت الاتصال بالسيد توفيق المدني صاحب (تاريخ الجزائر) فلم أفلح كما سألت عن الشاعر محمد العيد، فقيل بأنه يسكن ببلدة تبعد عن العاصمة بألف كيلومتر، وفي مرورنا بمدينة سطيف دخلت مسجدا على الطريق فوجدت بها حلقة كبيرة ووسطها رجل ملتح كبير فأردت الجلوس بها فنطروني شزرا فخرجت وعلمت بعد ذلك أنهم إباضية، أي من بقايا من الخوارج ويسمونهم هناك الخوامس، أي: أصحاب المذهب الخامس.

وبعد أيام ودَّعنا الجزائر ودخلنا التراب التونسي...


الهوامش:

1- انظر عمدة الراوين (3/126)

2- وله كتاب في الرد عليه سماه: نشر الطي من أعمال عبد الحيى، ذكره عبد السلام ابن سودة في كتابه دليل مؤرخ المغرب الأقصى، ص 157.


المصدر: مَظاهِرُ الشَّرفِ وَالعِزَّة المتجَليَّة في فهرسَة الشَّيخ مُحَمَّد بُوخُبْزة، إعداد وتخريج: بدر العمراني الطنجي، صفحات: 49-50-51-52-53-54.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.