منهج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في ممارسة النصيحة وأثرها في إصلاح الواقع الاجتماعي الجزائري (2/3)
بقلم: أ.د. كمال لدرع-
ثالثا: وسائل تحقيق النصيحة عتد جمعية العلماء
1. التعليم وإنشاء المدارس:
لقد انتشر الجهل بين الجزائريين بفعل سياسة التجهيل التي مارسها المستعمر الظالم ضد الشعب الجزائري، حيث كانت الأمية، تجاوز ثمانين في المائة في أوساط الجرائريين، والإحصائيات تشير إلى قلة الأطفال المتمدرسين خلال الفترة الاستعمارية وقلة المدارس الحكومية التي أنشأتها فرسا لفئة قليلة من الجزإئديين، في حين كان ما يقرب من نصف المليون طفل محروما من التعليم نظر لقلة المقاعد المدرسية. إضافة إلى ذلك هو رفض بعض الآباء إرسال أبنائهم إلى تلك المداس التي كانت برمجها لا تخلو من نشر الإلحاد وتزييف الحقائق التاريخية إضافة إلى منع اللغة العربية فيها والدين الإسلامي.
من هنا أدركت جمعية العلماء أهمية التربية والتعليم في تحقيق مقاصدها العقدية والفكرية، وأن التعليم هو أساس الإصلاح، فركزت على التعليم الإسلامي، بإنشاء المدارس، وحثت الجزائريين وشجعتهم على إرسال أبنائهم إلى مدارسها، قصد تعليم وتثقيف أكبر عدد ممكن من أبناء الجزائريين، فالتعليم هو الذي يصبغ المتعلم بالصبغة التي يكون عليها في مستقبل حياته، يقول الشيخ ابن باديس: (لن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم، فالتعليم هو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته وما يستقبل من علمه لنفسه وغيره فإذا أردنا أن نصلح العلماء فلنصلح التعليم، ونعني بالتعليم التعليم الذي يكون به المسلم عالما من علماء الإسلام يأخذ عنه الناس دينهم ويقتدون به فيه. ولن يصلح هذا التعليم إلا إذا رجعنا به للتعليم النبوي في شكله وموضوعه في مادته وصورته فيما كان يعلم صلى الله عليه وآله وسلم وفي صوره تعليمه)(41).
كها اهتمت الجمعية بالتعليم المسجدي، فلم يعد المسجد يقتصر دور على الصلاة، وإلقاء المواعظ وخطب الجمعة، فجعلت من المساجد مدارس للتعليم وذلك إدركا منها بأن المسجد والتعليم في الإسلام مترابطان، وهو الذي كان عليه المسجد في الصدر الأول من الإسلام. فوضعت برامج واسعة لنشر التعليم الديني وتدريس العربية لكل الفئات: للصغار المبتدئين، وللكبار والعمال، والنساء، واهتمت أيضا بالمتعلمين في المدارس الحكومية بتكميل معلوماتهم، فشيدت لذلك المدارس والمعاهد(42).
ولم يقتصر دور جمعية العلماء التربوي والتعليمي داخل الوطن فحسب، بل أسست مدارس للمهاجرن الجزائريين بفرنسا حيث يشكلون جالية كبيرة. فقد تنبهت الجمعية إلى الأخطار المحدقة بأولئك المهاجرين المعرضين لخطر الذوبان في الحضارة الأوروبية، والابتعاد عن أصول دينهم، فأرسلت إليهم المعلمين والوعاظ والمرشدين، وأسست لهم النوادي والمدارس لتعليم أبنائهم.
وقد كان منهج الجمعية في التعليم يقوم بمهمة مزدوجة، المهمة الأولى تعليم مبادئ الدين والعربية، والمهمة الثانية مواجهة المسخ الاستعماري عن طريق منهج الإخلاء ثم الملء، أي بيان فساد المعلومات المشوهة التي أعطتها فرنسا للتلاميذ لتعيد الجمعية عبر مدارسها بعد ذلك تزويد المتعلم بمعلومات جديدة صحيحة ودقيقة عن أصله ودينه وهويته.
لقد استطاعت الجمعية في ظل الظروف الاستعمارية أن تؤسس المدارس رغم رقابة سلطة الاحتلال الذي كان يخشى من هذه المدارس، فكونت جيلا من الأبطال فجروا الثورة(43) فيها بعد دامت سبع سنوات دفعت فيها الجزائر ما يزيد عن مليون ونصف مليون من الشهداء.
إن رجال الجمعية زرعوا حب العلم والتعلم في الأجيال وفق منهج سليم وتعليم قويم ساروا فيه على منهج السلف، وتمكنت الجمعية في خلال عشرين سنة من وجودها أن تؤسس ما يقارب 150 مدرسة ومعهدا موزعين على كامل الإقليم الجزائري، وقد بلغ عدد تلاميذها ما يزيد عن خمسين ألف بين الذكور والإناث، يقوم على تربيتهم وتعليمهم ما يقرب من ألفي معلم، نافست بذلك المداس الحكومية التغريبية. ودعمت جمعية العلماء رسالتها في التعليم بإرسال البعثات إلى بلاد الإسلام كالزيتونة(44).
2. دروس الوعظ والإرشاد الديني في المساجد العامة:
وظفت جمعية العلماء المساجد في توجيه الجمهور وصناعة الرأي العام، ومخاطبة الناس الذين يؤمون بيوت الله للصلاة عن طريق الدروس العامة وخطب الجمعة التي كانت تتناول قضايا الناس وتعالج مشاكلهم الواقعية، فإلى جانب الدروس التعليمية في اللغة(45) والفقه(46) والعقيدة(47) كان العلماء يلقون دروسا عامة في التفسير وشرح الحديث التي كان لتلك الدروس بعدا واقعيا، وأثرها في نشر الوعي العام، وتصحيح المفاهيم، وبيان دسائس الاستعمار ومكره، قال الإبراهيمي: (أما في المسجد فطريقة الجمعية في الوعظ والتذكير هي طريقة السلف، تذكر بكتاب الله، تشرحه وتستجلي عبره، وبالصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبينها وتنشرها، وبسيرته العملية، تجلوها وتدل الناس على مواضع التأسي منها، ثم سير الصحابة وهديهم، ثم سير حملة السنة النبوية وحملة الهدي المحمدي في أقوالهم وأعمالهم كذلك)(48).
3. تنظيم محاضرات ولقاءات في النوادي في شؤون الحياة العامة:
فتحت الجمعية النوادي(49) واقتحمت الأماكن العامة للاحتكاك بالجماهير وإلقاء المحاضرات في التهذيب والأخلاق وشؤون الحياة العامة، كما استغلت النوادي التي أسسها الشعب الجزائري من قبل والتي ظهرت في مطلع القرن العشرين، كنادي الترفي(50) الذي يعتبر أكبر نادي في الجزائر آنذاك، وكان علماء الجمعية ومصلحوها يلقون المحاضرت والدروس في هذه النوادي غير مكتفين بالمساجد ولا بالمدارس التي أسسوها، وكان نشاطهم في هذه النوادي قبل تأسيس الجمعية، وازداد بعد تأسيسها مما يدل على إدرك أهمية النوادي في الاتصال بالجماهير ونشر الوعي بينهم. فالشيخ ابن باديس رحمه الله تعالى بعد تأسيس نادي الترقي في العاصمة كان أول محاضر به(51) الذي ألقى محاضر، حول تاريخ النوادي والاجتماع طيلة العصر الجاهلي ثم العصر الإسلامي إلى حد القرن العشرن، وبين أثرها في إحياء الحياة الفكرة والتريوبة عند سائر الأمم.
إن النوادي في تلك الفترة في الجزائر تختلف في رسالتها عما كان منتشرا في بعض البلدان، فلم تكن نوادي للمجون والخمر والرقص والاختلاط، بل للرقي الديني والاجتماعي ونشر الوعي والنصح العام وطرح القضايا العامة للنقاش وتبادل الرأي وبث اليقظة الفكرية والثقافية للمسلمين الجزائرين(52)، فنادي الترقي مثلا كان الغرض من تأسيسه هو طرح ومناقشة الوضعية العامة التي آلت إليها الجزائر العاصمة في النصف الأخير من العشرينيات؛ لذلك تعاقب على هذا النادي عدة علماء يلقون المحاضرت والندوات العلمية في الفكر واللغة والأدب وقضايا الأمة، كالأستاذ أحمد توفيق المدني(53)، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والطيب العقبي، والشعراء والأدباء وكثفت الجمعية من نشاطها فيه، بدليل أن تأسيسها سنة 1931 م كان في نادي الترقي.
فالنوادي كانت منبرا يوجه منه المصلحون ضرباتهم للفساد الخلقي، وفضح أساليب الاستدمار الذي كان يفرق بها بين الجزائريين، وكان فضاء لإحياء اللغة العربية عن طريق تنظيم منافسات في الشعر والخطابة والنثر، وكان لها تأثيرها في الشباب وعموم الناس الذين كانوا يحضرون المحاضرات والأنشطة المختلفة. كما كان للنوادي دورا كبيرا في محاربة الآفات كالخمر والتسول والسرقة والزنا، وشحن همم الناس ومحاربة التنصير وإثبات الشخصية الإسلامية الجزائرية من خلال المحاضرات والخطب الواعظة. كما عملت بعض النوادي كنادي الترقي على مساعدة الفقراء والمحتاجين والذين كانوا محل تركيز من قيل البعثات التبشيرية المسحية.
4. الصحافة:
تنبهت جمعية العلماء إلى الدور المهم الذي تؤديه الصحافة(54) في الدعوة والإصلاح وتقديم النصح للمجتمع الجزائري وتبليغ صوتها إلى جمهور عريض من الناس. وقد تأثرت في ذلك بالحركة الفكرية في المشرق والتي كان لها صحفها الخاصة. علما أن بعض علمائها المؤسسين أنشئوا صحفا ومجلات قبل نشأة الجمعية بسنوات كالشيخ ابن باديس(55) الذي أنشأ جريدة المنتقد والشهاب التي استمرت بعد تأسيس الجمعية وكان لها تأثير إعلامي قوي وفاعل، واجه الشيخ ابن باديس في سبيل ذلك الكثير من المصاعب والعقبات جعلت المستعمر البغيض يصدر قرارا بغلقها غداة اندلاع الحرب العالمية الثانية في شهر سبتمبر من عام 1939 م(56).
وكانت أول جريدة أصدرتها جمعية العلماء المسلمين بعد تكوينها بسنتين هي جريدة "السنة المحمدية" وكان أول عدد منها في الثامن من ذي الحجة سنة 1351 هـ(1933 م)، وسرعان ما أوقفتها الإدارة الاستعمارية بحيث صدر آخر عدد منها في 10 ربيع الأول سنة 1352 هـ الوافق لـ03 جويلية 1933 م. بعدها أصدرت الجمعية جريدة أخرى هي "الشريعة المطهرة" في 17 جويلية سنة 1933 م، أي بعد توقيف "السنة المحمدية" بأًربعة عشر يوما فقط، وأوقفتها هي الأخرى الإدارة الاستعمارية في 28 أوت سنة 1933 م أي أنها لم تستمر في الإصدار سوى أربعين يوما. ثم أصدرت الجمعية جريدتها الثالثة تحت اسم "الصراط السوي" في 11 سبتمبر 1933 م، أي بعد أقل من شهر من توقيف "الشريعة المطهرة" إلا أنها هي الأخرى تم توقيفها من طرف الإدارة بعد ثلاثة أشهر فقط من صدورها وذلك في شهر يناير سنة 1934 م. وأصدرت السلطة الاستعمارية قرار بحرمان الجمعية من إصدار أية جريدة، فتعطلت صحافتها مدة سنتين من يناير سنة 1934 م إلى ستمبر سنة 1935 م. وبعد جهود كبيرة بذلتها الجمعية لأجل الحصول على رخصة من الحكومة الفرنسية بإصدار جريدة باسم الجمعية، صدرت في 27 سبتمبر 1935 م جريدة "البصائر". وقد استمرت مدة تؤدي رسالتها وتوقفت قبل الحرب العالمية الثانية، ثم استأنفت صدورها من جديد في سلسلتها الثانية ابتدا من 25 يوليو سنة 1947 م واستمرت إلى أن توقفت ثانية في السادس من أفريل سنة 1956 م أي بعد حوالي سنتين من قيام الجهاد المسلح سنة 1954 م. وتعد البصائر من أهم الجرائد التي أصدرتها الجمعية لأنها كانت تمثل لسان حال الجمعية، تنشر أفكارها، وتدافع عن قضايا العروبة والإسلام إلا أنها كانت تناقش جميع القضايا التي تهم الأمة الجزائرية والعالمين العربي والإسلامي.
وأهمية جريدة البصائر تكمن في أنها كانت تتناول أبوابا متنوعة تقدم فيها النصح إلى المجتمع الجزائري، ومن هذه الأبواب:
1- حقائق الإسلام ومحاسنه، شرحها وبيانها.
2- إحياء السنن الميتة التي تركها الناس وذلك بالقول والفعل.
3- التاريخ الإسلامي: عبر وعظاته وسير أمجاده.
4- الأمراض الاجتماعية.
5- الحث على العلم وتنبيه الناس إلى أهميته.
6- الكتابة في موضوع اللغة العرية وآدابها.
كما ظهرت بعض الصحف الإصلاحية من قبل بعض العلماء والمصلحين الذين كانوا أيضا من بين المؤسسين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، منها جريدة "الجزائر" أشرف على إصدارها الشاعر والصحفي محمد السعيد الزاهري عطلتها وأوقفتها السلطات الفرنسية فور صدورها مباشر.
جريدة' "الحق" صدرتة سنة 1936 م بمدينة بسكرة. كما أصدر الشاعر والأستاذ وأحد أعمدة الصحافة الإصلاحية في الجزائر أبو اليقظان مجموعة من الجرائد كلها أوقفت نظر لجرأتها معالجتها لمختلف القضايا(57).
والملاحظ أن علماء الجمعية قاموا بنشاط صحفي قبل نشأة الجمعية وبعد نشأتها مما يدل على النشاط الفكري الذي كان يمتاز به العلماء، وعلى أهمية الصحافة في نظرهم التي تمثل عندهم وسيلة مباشرة من وسائل الاتصال بالجماهير ونشر أفكارها على أوسع نطاق وإسماع صوتها خارج القطر الجزائري، وإحدى أدوات التريية والتعليم التي تسهم في تصحيح عقائد الناس، ونشر الفضيلة ومحاربة البدع والخرافات وتقويم السلوك وتبصير العقول، يقول ابن بادبس رحمه الله تعالى: (ننشر في هذا الباب من مجلة (الشهاب) ما فيه تبصراً للعقول أو تهذيب للنفوس، من تفسير آية كريمة أو حديث شريف، أو توضيح لمسألة في أصول العقائد أو أصول الأعمال، معتضدين بأنظار أئمة السلف الذين لا يرتاب في رسوخ علمهم وكمال إيمانهم، وأئمة الخلف الذين درجوا على هديهم، في نمط وسط بين الاستقصاء والتقصير).
فكانت الصحافة من أهم الوسائل التي اتخذتها الجمعية بطريقة منهجية وفعالة في التغيير والإصلاح والنصح ونشر الوعي وربط الناس بدينهم ووطنهم، وإيقاظ هممهم وتحفيز نفوسهم لطرد المستعمر الفرنسي، ومحاربة الجهل والشعوذة التي اننشرت في المجتمع الجزائري.
5. الأمر بالمعروف والنهي ض المنكر:
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم الوسائل التي اعتمدتها جمعية العلماء، في تقديم النصح إلى الغير، واعتبرته من أساسيات مهام علمائها، وهي بذلك تمتثل لما دعا إليه القرآن الكريم وصف به خيرية هذه الأمة من ضرور القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي ترى بأن أولى من يقوم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هم العلماء بما أوتو من علم وحكمة، فصلاح الناس بصلاح علمائهم، والنصيحة إنما تكون من أهل العلم، وأنما الناس يتقبلون النصيحة من العلماء الثقات، يقول الشيخ ابن باديس: (لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وسلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام وعملهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل فكذلك المسلمون يكونون، فإذا أردنا إصلاح المسلمين فلنصلح علماءهم)(58)، ويقول الشيخ البشير الإبراهيمي وهو يشرح وظيفة عالم الشريعة: (وواجب العالم الديني أن ينشط إلى الهداية كلما نشط الضلال، وأن يسارع إلى نصرة الحدق كلما رأى الباطل يصارعه، وأن يحارب البدعة والشر والفساد... وواجبه أن ينغمس في الصفوف مجاهدا ولا يكون مع الخوالف القعدة، وأن يفعل ما يفعل الأطباء الناصحون من غشيان مواطن المرض لإنقاذ الناس منه، وأن يغشى مجامع الشرور لا يركبها مع الراكبين، بل ليفرق اجتماعهم عليها)(59).
وبقول أيضا: (أرأيت لو كان علماء الدين قائمين بواجب التذكير بالقرآن، مؤدين لأمانة الله، راعين لعهده في أمة واحدة، أكانت الأمة الإسلامية تصل إلى هذه الدركة التي لم تصل إليها أمة. فهي كثيرة العدد تبلغ مئات الملايين ولكنها غثاء كغثاء السيل)(60)، ويقول الشيخ العقبي في بيان مسؤولية العلماء: (العلماء هم حملة هذا الذين، وهم المسؤولون عن تبليغه وهم الذابون عنه والمدافعون عن حماه. فمن استمسك بغرزهم واهتدى بهديهم نجا، ومن صد عنه وأعرض عما جاؤوا به ضل وغوى)(61).
وهؤلاء هم أهل العلم الصحيح الداعون إلى التوحيد والسنة يستبدون ذلك من أصول الدين وفهم السلف واجتهاد من اتبعهم بإحسان من العلماء. وهم الذين يستحقون أن يكونوا ورثة الأنبياء(62).
قال الشيخ مبارك الميلي: (إن الأمة إذا فقدت العالم البصير، والدليل الناصح، والمرشد المهتدي؛ تراكمت على عقولها سحائب الجهالات، وران على بصائرها قبائح العادات، وسهل عليها الإيمان بالخيالات، فانقادت لعالم طماع وجاهل خداع، ومرشد دجال ودليل محتال، وازدادت بهم حيرتها واختلت سيرتها، والتبست عليها الطرائق، وانعكست لديها الحقائق، فتتهم العقل، وتقبل المحال، وتشرد من الصواب، وتأنس بالسراب)(63)
ورغم الظروف التي كانت تعيشها الجمعية، فكانت تماس وظيفة الاحتساب بكل حكمة وعلم، لتكثير الخير وتقليل الشر، ولم تأخذها في الله تعالى لومة لائم، وتحملت كل الصعاب في ذلك من تهديدات الإدارة الاستعمارية، وتربص الطرقية السائرة في ركب الاستعمار، ومكر بعض المثقفين الذين تغذوا بالثقافة الفرنسية، حتى قال ابن باديس رحمه الله: (تستطيع الظروف أن تكيفنا ولكنها لا تستطيع يإذن الله إتلافنا)(64).
وللعلماء دور مهم في التغيير، ولهم أثرهم في تغلغل النصيحة إلى قلوب المخاطبين، وهم محل ثقة من الناس، يتولون قيادة الأمة إلى الخير وهي ترجع إليهم في أمور دينهم ودنياهم، يقول الشيخ الإبراهيمي: (ولعلماء الإسلام سلطان على الأرواح، مستمد من روحانية الدين الإسلامي وسهولة مدخله إلى النفوس: تخضع له العامة عن طواعية ورغبة، خضوعا فطريا لا تكلف فيه، لشعورها بأنهم المرجع في بيان الدين، ويأنهم لسانه المعبر حقا عن حقائقه، والمبين لشرائعه، وأنهم حراسه المؤتمنون على بقائه، ويأنهم الورثة الحقيقيون لمقام النبوة، وكان العلماء يجمعون بين وظيفة التبيين في التعبديات، وبين وظيفة التقنين في المعاملات، أما الخلفاء فلم تكن وظيفتهم في الحقيقة إلا التنفيذ لما يراه العلماء من مصلحة في المعاملات الفردية أو الاجتماعية)(65).
لكن إذا تخلى هؤلاء العلماء عن دورهم في بيان الحق وأخلدوا إلى الدنيا وزخارفها فإن في ذلك هلاكا للمجتمع، وتمكينا للسفهاء من نشر ضلالتهم بين الناس، يقول الشيخ الإبراهيمي: (ما ظلم الله العلماء، ولكن ظلموا أنفسهم، ولم يشكروا نعمة العلم، فسلبهم الله ثمراته من العزة والسيادة؛ والإمامة والقيادة، وكان لخلو ميدان السلطة والأمر منهم أثر فاتك في عقائد المسلمين وأخلاقهم، وكان من نتائجه إلقاء الأمة بالمقادة إلى من يضل ولا يهدي من المشعوذين الدجالين. فأضلوها عن سواء السبيل، ومكنوا فيها للداء الوييل، وأعضل أنواعه الاستعمار، الذي وجد منهم مطايا ذللا سماحا إلى غاياته الخبيثة في الإسلام والمسلمين، ولو كان العلماء هم القادة، وكانوا أحياء الضمائر والمشاعر، وكانوا كما كانوا شداد العزائم والإرادات، لوجد منهم الاستعمار في مشارق الإسلام ومغاربه حصونا تصد، ومعاقل ترد)(66).
وهيبة العلماء وتقديرهم من قبل الناس يكون بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وقيامهم بالحق والدفاع عنه، ومحاربتهم للبدع والضلالات والعقائد الفاسدة التي التصقت بالإسلام، و(هو ما تقوم به جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في دعوتها وعملها الإصلاحيين، وإنها لا تفتأ جاهدة في الإصلاح الديني حتى تؤدي أمانة الله منه، وتبلغ الغاية من إقراره في النفوس، وتمكينه في الأفئدة، وقد بلغت دعوتها للمقصوارت في خدورهن، وللرحل في قفارهم، وللبداة في بواديهم، وللحضر في نواديهم، حتى أصبحت آثارها بادية في العقول والأفكار والإرادات وقد رجع للقرآن بعض نفوذه وسلطانه، وحجته وبرهانه، وللسنة النبوية مكانها علما وعملا، وللعلماء المصلحين قوتهم في التوجيه، ومكانتهم في التدبير، وقدرتهم على القيادة)(67).
يتبع-
الهوامش:
41- أسست مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة، ومدرسة دار الحديث بتلمسان التي ظلت تشكل قلعة للتعليم الإسلامي تحت إشرف الشيخ الإبراهيمي.
42- اندلعت الثور الجزائرية في 01 نوفمبر 1954 م وهي من الثورات الكبرى في القرن العشرين ودامت إلى غاية إعلان الاستقلال في 05 جوبلية 1962 م.
43- وكان مشروع الشيخ ابن باديس إرسال بعثة من البنات إلى الشام إلا أن المنية عاجلته.
44- فكانت ندرى بعضى متون اللغة العرية كألفية ابن مالك والأجرومية.
45- كتدريس متن خليل في الفقه المالكي.
46- كالعقائد الإسلامية التي كان يمليها ابن باديس على طلبته، وقد تولى أحد تلامذته الأستاذ محمد الصالح رمضان طباعتها.
47- من كتاب سجل مؤتمر جمعية العلماء، ص:64.
48- كلمة النادي أصلها مأخوذ من دار الندوة، وقد ذكرت في القرآن الكريم أكثر من مرة قال تعالى: (...وتأتون في ناديكم المنكر) العنكبوت:29، كما تعني دار الندوة كل دار يرجع إليها وبجتمع فيها (جماعة من العلماء، المنجد في اللغة والأعلام، دار المشرق، بيروت، 2000، ص:38).
49- والمقصود بالنوادي التي أسسها الجزائريون في الفترة الاستعمارية هي مؤسسات شعبية حر أسسها مجموعة من المثقفين والأعيان وغيرهم لأغراض ثقافية ودينية مستقلة عن سلطة الاحتلال كفضاء للالتقاء والتثقيف وطرح القضايا المختلفة. (خالد مرزوق والمختار بن عامر، مسيرة الحركة الإصلاحية بتلمسان، آثار ومواقف 1907/1956 (مركز التصدير ،تلمسان-الجزائر- 2003، ص 35).
50- نشأ نادي الترقي سنة 1926 الذي صادف تأسيسه مرور قرن على الحصار الفرسي للجزئر سنة 1827 م، وكان هذا بتكاثف جماعة من أعيان العاصمة وأغنيائها الذين أسسوا ناديا تحت اسم نادي الترقي وفتحوا له مقرا ضخما بوسط العاصمة وهو إنجاز مهم يدل على حياة فكرية جديدة ووسلية لنشر الوعي وتكاثف الجهود، انظر: (سعد الله، أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ج:3، ص:20، - الشهاب، المجلد :03، السنة الثالثة، جونية 1927، ص:120).
51- كان ذلك بطلب من مؤسسي النادي في يوم 18 جويلية 1927 عرفانا بعلمه وفضله وفاتحة خير على النادي.
52- محمد العاصي، أعظم ناد في الجزائر وإن كان بعد 100 عام، الشهاب؛ المجلد 03، السنة الثالثة، العدد 107 (04 أوت 1927) ص 154.
53- أحمد توفيق المدني (1899/1984) من مواليد مدينة تونس وهو من عائلة جزائرية، زعبم سياسي قدير درس بالزيتونة وشارك في النضال الوطني بتونس ضمن الحزب الدستوري، سجن عدة مرات، له عدة مؤلفات منها كتاب الجرائر 1931، وكتاب هذه هي الجزائر 1957، وكتاب حياة كفاح في ثلاثة أجزاء، عرف بنشاطه السياسي والصحافي للمزيد أنظر: محمد الطاهر العدواني، مجلة التاريخ، العدد: 18 (م.و.ف.م، الجزئر، 1985) ص: 169.
54- اهتم العلماء والمصلحون الجزائريون بالصحافة واعتبروها وسيلة لنشر الوعي والتصدي للمخططات الاستعمارية، وذلك منذ سنة 1908 م حيث أصدر الرسام الكبير عمر راسم جريدة "الجزائر". وفي أفريل من سنة 1913 م صدرت جريدة "الفاروق" للشيخ عمر بن قدو، الذي يعبر من أتباع المدرسة الإصلاحية الإسلامية المتأثرة بالشيخ محمد عبده ومجلة المنار للشيخ رشبد رضا، وفي عام 1913 م أصدر الأستاذ عمر راسم مرة أخرى جريدة أخرى بعنوان "ذو الفقار" في شكل مجلة مصورة متأثرا بفكر ودعوة محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وكانت هذه الجريدة كما يصفها الشيخ أحمد توفيق المدني في مؤلفه (كتاب الجزائر) أول جريدة عربية اكتشفت الخطر الصهيوني ونبهت عليه. وفي سنة 1919 م أصدر الأمير خالد جريدة "الإقدام" باللسانين (العريي والفرنسي) وكانت أول جريدة عربية جريئة ودام صدورها إلى غاية سنة 1925 م بعد نفي الأمير خالد إلى الإسكندرية بمصر. وفي سنة 1924 م أصدر السيد عمر بن قدور مرة ثانية جديدة "الفاروق" في صورة مجلة أسبوعية ثم أوقفها من تلقاء نفسه واشترك مع الأستاذ محمد بن بكير في إصدار جريدة باسم "الصديق" غير أنها لم تعمر طويلا هي الأخرى. وفي عام 1923 م صدرت جريدة "لسان الدين" وهي أسبوعية دينية سياسية أصدرها السيدان: مصطفى بن حافظ وابن عبد العزيز حسن.
55- كانت أول مشاركة له في الصحافة سنة (1919 م) في جريدة "النجاح" التي كانت تصدر في مدينة قسنطينة لصاحبها عبد الحفيظ بن الهاشمي وقد اشترك الشيخ عبد الحميد بن باديس في تأسيسها والكتابة فيها باسم مستعار هو "القسنطيني" ثم انفصل عنها لأنها كانت في بدايتها إصلاحية ثم انحرفت وصارت لسانا من ألسنة الإدارة الاستعمارية في الجزائر واستمرت هذه الجريدة في الصدور حتي بداية الجهاد المسلح سنة 1954 م أين أعدم رئيسها من طرف المجاهدين لذات السبب الذي انحرفت لأجله الجريدة. ثم أحس الشيخ ابن بادبس بضرورة توسيع مجال الدعوة والنصح
ليشمل كل الشعب، فخاض العمل الصحفي وبرع فيه، فأصدر في 03 جربلية 1925 م الموافق لـ11 ذي الحجة سنة 1343 هـ جريدة "المنتقد"، وكان هدف الجريدة هو تسليط الضوء على أخطار المستعمر ومحاربة بدع وضلالات رجال الطرق الصوفية التي خدرت المجتمع الجزائري وانحرفت به عن الإسلام الصحيح، وكان شعارها: (الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء). وفي افتتاحية العدد الأول بين ابن بادبس أهدافه وغاياته وأراد أن يعرف دعوته للناس فكتب يقول: (باسم الله، ثم باسم الحق والوطن، ندخل عالم الصحافة العظيم، شاعرين بعظمة المسؤولية التي نتحملها فيه، مستسهلين كل صعب في سبيل الغاية التي نحن إليها ساعون... وها نحن نعرض على العموم مبادئنا التي عقدنا العزم على السير عليها. نحن قوم مسلمون جزائريون؛ فلأننا مسلمون نعمل على المحافظة علي تقاليد ديننا التي تدعو إلى كمال إنساني، ونحرص على الأخوة والسلام بين شعوب البشر)، ثم يقول: (إننا سننتقد الحكام، والمديرين؛ والنواب، والقضاة، والعلماء، وكل من يتولى شأنا من أكبر كبير إلى أصغر صغير، من الغرنسيبن والوطنيبن، ونناهض المفسدين والمستبدين من الناس أجمعين). وفي نفس السنة (أي في سنة 1925 م) وبعد أن أوقف الاستعمار جديدة "المنتقد" أصدر الشيخ جريدة "الشهاب" وكانت في أول الأمر أسبوعية ثم تحولت في فبراير من سنة 1929 م إلى مجلة شهرية تحتوي افتتاحية، ومقالات وفتاوى وقصصا وأخبارا وطرائف وتراجم وغير ذلك.
56 - كتب الإمام حسن البنا في افتتاحية العدد الأول من مجلة الشهاب التي أسسها في القاهرة في نهاية الأربعينات كلمة تقدير وجهها للإمام عبد الحميد بن باديس ومجلته الشهاب قال: "قامت مجلة الشهاب الجزائرية التي كان يصدرها الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله في الجزائر بقسط كبير من هذا الجهاد، مستمدة من هدي القرآن الكريم وسنة النبي العظيم سيدنا محمد. وإنا لنرجو أن تقفو "الشهاب" المصرية الناشئة أثرها وتجدد شبابها، وتعيد في الناس سيرتها في خدمة دعوة القرآن وتجلية فضائل الإسلام، على أن الفضل للمتقدم وفضل السبق ليس له كفاء".
57- منها جريدة (وادي ميزاب) صدر منها 119 عددا من 1926/10/01 إلى 1929/01/18 م. وجريدة. (ميزاب) صدر منها عدد واحد في 1930/01/25 م. وجريدة (المغرب) 38 عددا، من 1930/05/29 إلى 1931/03/09 م. و(النور) 78 عددا، من 1931/09/15 إلى 1933/05/02 م. و(البستان) 10 أعداد من 1933/04/27 إلى 1933/07/13. و(النبراس) 6 أعدد من 1933/07/21 إلى 1933/08/22. و(الأمة) 170 عددا من 1933/09/08 إلى 1938/06/06. و(الفرقان) 6 أعداد من 1938/07/08 إلى 1938/08/03.
58- الشهاب : ج11، م10، غرة رجب 1353هـ/الموافق لـ:10 أكتوبر 1934 م. آثار الإمام ابن باديس، ج:4، ص:77.
59- في مقال له بعنوان وظيفة علماء الدين، نشر في مجلة المنهل من ثلاثة أجزاء، وهذا النص مأخوذ من الجزء الثالث، في ربيع الأول 1372 هـ/1952 م، جدة – الآثار، ج:4، ص:117.
60- المرجع نفسه.
61- جريدة السنة، ج:1، ص:12.
62- عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى اللة عليه وسلم يقول: "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا ،إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ" أخرجه الترمدي في سننه في كتاب العلم عن رسول الله؛ باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة رقم: 2606- ورواه أبو داود في سننه في كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، رقم :3157 - ورواه ابن ماجه في سننه من المقدمة، فضل العلماء والحث على طلب العلم، رقم219.
63- الشرك ومظاهر: ص: 161.
64- الشهاب 5/3 1347-1346 هـ.
65- جريدة البصائر، العدد: 36، سنة: 1948 م.
66- المرجع نفسه.
67- المرجع نفسه.