حمّادي السّاحلي (1928-2002): محطات وبصمات
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
لقد كنت حريصا في رحلتي الأخيرة إلى تونس الخضراء (يوليو 2018) على شراء كتاب "حمّادي السّاحلي في آخر كتاباته" الذي أعده نجله الأستاذ محمد العزيز السّاحلي. وتضمن هذا الكتاب النفيس مقالات الأستاذ حمّادي السّاحلي (1928-2002) غير المنشورة، وأخرى مغمورة، وكذلك صفحات مشرقة من مذكراته التي تنشر للمرة الأولى. من هو الأستاذ حمّادي السّاحلي؟ وما هي أهم إسهاماته التاريخية والثقافية؟
مسار في سطور
الأستاذ حمّادي السّاحلي هو من أبرز المؤرخين التونسيين المعاصرين، ولد بتونس في 16 ماي 1928. درس في المدرسة العرفانية عند الشاعر والأديب محمد بن جعفر الذي حبّب فيه المطالعة. ثم أتم تعليمه الثانوي في الصادقية حيث تلقى تكوينا متينا مزدوجا باللغتين العربية والفرنسية على نخبة من العلماء والأدباء التونسيين، أذكر منهم: محمد الفاضل بن عاشور (1909-1970)، ومحمود المسعدي (1911-2004)، ومحجوب بن ميلاد (1916-2000)، وأحمد عبد السلام (1922-2007)، الخ. وكان يتردد أيضا على جامع الزيتونة ليتابع بعض الدروس على علمائها كالشيخ محمد الزغواني (1896-1979).
وبعد حصوله على شهادة الباكالوريا، سافر إلى فرنسا في عام 1950 لمواصلة تحصيله العلمي في جامعة السوربون بباريس ثم التحق بجامعة اكس أون بروفانس في الجنوب الفرنسي. وقد تأثر بثلاثة أساتذة، وهم: ريجيس بلاشير (1900-1973) في الدراسات العربية، وهلدبير إيسنار (1904-1983) في مجال علم الجغرافية، وبخاصة بيير رونوفان (1893-1974) في الدراسات التاريخية.
وكتب السّاحلي عن تأثير هذا الأخير، فقال: « أسعفني الحظ خلال السنة الأولى بحضور الدروس التي كان يلقيها عهدئذ كبار أساتذة التاريخ بفرنسا وفي طليعتهم العلامة بيير رونوفان المتخصص في التاريخ المعاصر، فانبهرت بطريقتهم الرائعة في تناول الأحداث التاريخية بالدرس وتحليلها والربط بين أسبابها ومسبباتها، في حين كانت دروس التاريخ بالصادقية في أغلب الأحيان مجرد سرد جاف للمعلومات بطريقة مملّة ومنفّرة». وقد دفعه هذا التأثير إلى التحوّل من دراسة الأدب العربي إلى التخصص في التاريخ.
وبعد عودته من فرنسا، عيّن السّاحلي مدرسا للتاريخ والجغرافيا بالمعهد الثانوي بسوسة، ثم أستاذا بجامعة تونس وباحثا بالمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية حيث أنجز مجموعة من الدراسات، وشارك في أعماله وندواته.
وفي مجال التأليف، أصدر الأستاذ السّاحلي 4 كتبا، وهي: "فصول في التاريخ والحضارة"، "الصحافة الهزلية في تونس (1906-1956)"، "استقلال الشعوب بعد الحرب العالمية الثانية"، و"تراجم وقضايا معاصرة". وتناولت هذه الكتب محطات من تاريخ تونس المعاصرة، وتراجم لأعلام الفكر والثقافة في تونس في القرنين التاسع عشر والعشرين.
كما ترجم 20 كتابا، وساهم في تحقّيق 26 كتابا. كذلك نشر 84 مقالا وبحثا في التاريخ والتراجم، أذكر منها على وجه الخصوص: المدرسة التاريخية التونسية الحديثة، الحركات الإصلاحية في تونس من أواخر القرن 19 إلى مطلع القرن العشرين، رواد تحرير المرأة بتونس في الثلث الأول من القرن العشرين، ...الخ.
التاريخ ورسالة المؤرخ:
يهدف هذا المبحث إلى تحديد نظرته للتاريخ ورسالة المؤرخ. أولا: ما هو التاريخ في نظره؟ «التاريخ يتمثل أساسا في ملاحظة الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومحاولة تفسيرها بالاعتماد على ما تقدمه العلوم الأخرى من معلومات للمؤرخين كالجغرافيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والعلوم الاقتصادية».
فهذه نظرة معاصرة للتاريخ الذي ينفتح على العلوم الأخرى ويستفيد من فتوحاتها ومكاسبها في إعادة بناء الأحداث، وتفسير أسبابها بشكل عميق، وتحليل تداعياتها بشكل دقيق وشامل.
أما رسالة المؤرخ فإنها تتمثل في نظره في 3 أشكال: أولا: « تعويد الشبان على إعمال الفكر لفهم الوقائع التاريخية وتأويلها التأويل الصحيح، بالنظر إلى أسبابها». ثانيا: « غرس روح النقد.. حتى يدركوا معنى النسبية البشرية، وذلك بتعويدهم على النظر إلى الوقائع والأحداث التاريخية بحسب العقلية السائدة في العصر الذي جرت فيه».
وتتمثل الرسالة الثالثة في «غرس الروح الوطنية في نفوس تلاميذه وتدريبهم على الاعتزاز بقوميتهم وملتهم... ويحبّب إليهم روح التسامح والتفاهم بين بني الإنسان».
فالتاريخ ليس فقط علم قائم بذاته، له أدواته ومنهجه وموضوعاته، وإنما هو أيضا مقوّم من مقوّمات الأمة، وعنصر من عناصر هويّتها.
إحياء تراث الحركة الإصلاحية التونسية:
كان للأستاذ حمّادي السّاحلي الفضل في نشر آثار الشيخ عبد العزيز الثعالبي (1876-1944) تحقيقا وترجمة. فقد ترجم كتابيه: "تونس الشهيدة"، و"روح التحرر في القرآن". ونشر عدة كتبه: "مسألة المنبوذين في الهند"، و"محاضرات في تاريخ المذاهب والأديان"، "خلفيات المؤتمر الإسلامي بالقدس (1931)"، "سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية"، "الرحلة اليمنية"، و"محاضرات في التفكير الإسلامي والفلسفة"، و"معجزة محمد رسول الله (ص)"، "تاريخ شمال إفريقيا".
وبالإضافة إلى تحقيق وتقديم هذه الكتب، نشر الأستاذ السّاحلي مجموعة من المحاضرات والبحوث التي أعدها حول هذا المصلح الكبير الذي جمع بين النضال السياسي والعمل الإصلاحي والإنتاج الفكري.
ولم يقتصر اهتمامه على تراث الشيخ الثعالبي، إذ نشر أيضا آثار الشيخ محمد بن الخوجة (1869-1942) مثل كتابه: "تاريخ معالم التوحيد في القديم وفي الجديد". كما ساهم في نشر آثار الشيخ محمد النخلي (1869-1924) التي جمعها نجله عبد المنعم النخلي.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن السّاحلي وجد كل العناية والدعم والتشجيع من طرف مؤسسة دار النشر المعروفة دار الغرب الإسلامي التي أسسها التونسي الحبيب اللمسي (1930-2017) في بيروت خدمة للثقافة العربية في شمال إفريقيا والتعريف بأعلامها والترويج لأعمالهم في الآفاق.
تاريخ تونس المعاصر:
ساهم الأستاذ السّاحلي في هذا المجال من خلال إعادة نشر العديد من المؤلفات المرجعية أذكر منها: كتاب "تاريخ تونس المعاصر" للأستاذ أحمد القصاب، و"خلاصة تاريخ تونس" للأستاذ حسن حسني عبد الوهاب (1884-1968)، و"صفحات من تاريخ تونس" للشيخ محمد بن الخوجة. ولقد حدّد أهدافه من هذه الإصدارات في «لفت الانتباه إلى ضرورة الحرص على جمع ما تناثر من بحوث الأدباء والمفكرين التونسيين»، وتحفيز الباحثين على مزيد البذل والعطاء للتعريف بسيرهم، وإحياء تراثهم.
وبالإضافة إلى هذه الكتب، نشر الأستاذ السّاحلي عددا من الوثائق المهمة والنادرة في المجلات المتخصصة كـ "حوليات جامعة تونس"، و"المجلة التاريخية المغربية"، و"روافد"...الخ.
ولا بأس أن أشير هنا إلى وثيقتين لهما صلة بالحياة السياسية والاقتصادية في تونس في فترتين حرجتين: رسالة محي الدين القليبي حول الوضع بتونس غداة الحرب العالمية الأولى، وتقرير المقيم العام الفرنسي حول الوضع بتونس في سنة 1934، ...الخ.
وساهم أيضا في كتابة تاريخ بعض المؤسسات التعليمية والثقافية كالصادقية، والخلدونية، وسرد مسارات رجال الإصلاح ورواد الحركة الوطنية التونسية، ودراسة آثارهم وأعمالهم.
كذلك كتب مقالات عن العديد من المؤرخين التونسيين، وأبرز دورهم في المدرسة التاريخية التونسية أمثال: عثمان الكعاك (1903-1974) ، والبشير التليلي (1935-1986)...الخ. وقد وصف رصيد هذه المدرسة بـ «إنتاج متميز بالتنوع والغزارة، ومتسم بالروح العلمية عامة، وذلك بفضل ما اتبعه الباحثون والمهتمون بالدراسات التاريخية من طرق ومناهج متطوّرة».
رصيد حافل في الترجمة:
لقد بذل الأستاذ السّاحلي جهودا جبارة في تعريب العديد من الكتب التاريخية التي تناولت ماضي المغرب العربي بشكل عام وتونس بشكل خاص في العصور القديمة والفترة المعاصرة. وعلّل الأستاذ السّاحلي تحوّله من التحقيق إلى الترجمة بقوله: «الترجمة ميدان فسيح. وقد خصصت مجهودي في التعريب وبخاصة المؤلفات التاريخية. وقد لاحظت أن الكتب المهتمة بتاريخ المغرب العربي وتونس مكتوبة باللغة الفرنسية بما أن تاريخنا غير معروف كما ينبغي في الخارج اخترت ترجمة وتعريب هذه الكتب».
وبدأ عمله في الترجمة بتعريب كتاب "تاريخ تونس المعاصر" للأستاذ أحمد القصاب، وصدر في عام 1986 عن الشركة التونسية للتوزيع. ثم عرّب كتابين للشيخ الثعالبي بعدما ضاعت أصولهما العربية، وهما: "تونس الشهيدة"، و"روح التحرر في القرآن".
وقد ترجم الأستاذ السّاحلي مؤلفات كتبها بعض المؤرخين الفرنسيين أمثال روبير برنشفيغ (1901-1990): "تاريخ إفريقية في العهد الحفصي"، والهادي روجي إدريس (1912-1978): "تاريخ إفريقية في عهد بني زيري"، ولوسات فلنسي (1936): "المغرب العربي قبل احتلال الجزائر (1790-1830)".
كما عرّب كتبا عديدة ألفها المؤرخون التونسيون أمثال محمد الطالبي (1921-2017): "الدولة الأغلبية"، وفرحات الدشراوي (1928-2007): "الخلافة الفاطمية بالمغرب"، والصادق الزمرلي (1893-1983): "تونس في عهد المنصف باي"، "أعلام تونسيون")، ومختار العياشي (البيئة الزيتونية 1910-1945) الخ.
وقد قام الأستاذ السّاحلي بهذه الترجمات وغيرها بمفرده في غالب الأحيان، وشاركه أحيانا أخرى مترجمون آخرون أمثال: المنجي الصيادي والهاشمي السبعي.
نشاطات ثقافية متعددة:
اشتهر الأستاذ السّاحلي بنشاطه الفكري في رحاب التلفزيون والإذاعة والجمعيات والنوادي الثقافية، مثل جمعية قدماء الصادقية، وجمعية الدراسات الدولية، ونادي أبو القاسم الشابي، ونادي المعرفة، ونادي أحباب المعالم الأثرية، ...الخ.
وتمحورت محاضراته أيضا حول تاريخ تونس المعاصر من جوانبه السياسية والثقافية، وتناولت مسارات متعددة من التيارات المختلفة والتخصصات المتباينة، أمثال: محمد بيرم الخامس، والطاهر الحداد، وحسين المقدم، ومحمد الفاضل بن عاشور، وإبراهيم الرياحي،...الخ.
وزيادة على المحاضرات، قدم الأستاذ السّاحلي برامج ثقافية وتاريخية في الإذاعة التونسية والتلفزيون التونسي لنشر الثقافة التاريخية بين الناس من أجل استلهام العبر من الأحداث، والاقتداء بالرجال العظام، وتحريك العزائم لبناء الحاضر، والعمل الجاد لتشييد المستقبل.
وتقديرا لكل جهوده العلمية في مجالات التأليف والترجمة والتحقيق، منحت له جائزة الدولة التقديرية للآداب في ماي 1996. كما احتفى بذكراه أصدقاؤه وتلامذته الذين خصصوا له كتابا كاملا عنوانه: "تحية إلى حمّادي السّاحلي"، عدّدوا فيه مناقبه السامية، وأكبروا تواضعه الجم، وشهدوا بفضله القدير، واعترفوا بكفاءته العالية، ونوّهوا بإسهاماته العلمية والثقافية الراقية.
ولقد واصل الأستاذ حمّادي السّاحلي عمله العلمي بلا كلل، ودأب على نشاطه الثقافي بكل عزم إلى أن التحق بالرفيق الأعلى في 6 يوليو/جويلية 2002.
لا شك أن الأستاذ حمّادي السّاحلي كان ركنا من أركان النهضة في تونس في العصر الحديث، فلم يدخر جهدا في سبيل كتابة التاريخ وتنوير العقول وشحذ الهمم. وسيبقى خالدا في سجل أعلام التاريخ والفكر لما قدمه من الأعمال من أجل إحياء التراث الإسلامي، والارتقاء بالثقافة العربية، ونشر القيم السامية.