عبد الكريم الفكون ونقد المتصوفين
بقلم: أبو القاسم سعد الله-
ونعتقد أنه لا يمكن أن تتضح معالم هذا الفصل إلا بالحديث عن ناقد سلوك المرابطين في وقته، وهو عبد الكريم الفكون. ولهذا السبب أيضا أخرنا الحديث عنه إلى هذا المكان. ففي دراستنا لإنتاج المتصوفين، وهو كثير، لم نجد منهم من انتقد معاصريه انتقادا لاذعا ودعا إلى ما يمكن أن نسميه (بالتصوف السلفي) إلا الأخضري وعبد الكريم الفكون(1).
ولد عبد الكريم الفكون في قسنطينة سنة 988. وهي السنة التي توفي فيها جده عبد الكريم الفكون فسمي عليه. فهو إذن عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم الفكون. وبعد حياة حافلة بالعلم والعمل توفي في نفس المدينة سنة 1073. وقد كانت أسرة الفكون، كما أشرنا، تتمتع باحترام واسع في قسنطينة لتحالفها منذ البداية مع العثمانيين. ورغم أن جده كان يجمع بين العلم والتصوف فإنه قد تعامل مع السلطات العثمانية فذهب على رأس وفد قسنطينة إلى العاصمة، ولكن حصل ما أوجب فراره مع زميله الشيخ عبد اللطيف المسبح إلى زواوة ثم أعيد إلى العاصمة وسجن، ثم رضيت عليه الدولة وأعادته إلى قسنطينة مكرما (2). وأصبحت أسرة الفكون منذئذ في خدمة الدين والدولة، فيها مشيخة الإسلام وإمارة الحج، وكان لها امتيازات اقتصادية ومعنوية لا حصر لها. فقد كانت من أغنى الأسر في قسطينة تملك العقارات والأراضي وتعيش عيشة راضية هنية. وكانت لها زاوية خاصة تطعم منها الفقراء وتنشر العلم وتستقبل الضيوف من الجزائر وخارجها، وتبث منها آثارها وتأثيرها.
وبعد وفاة عبد الكريم الفكون الجد تولى ابنه محمد (والد المترجم له) جميع وظائف والده من إمامة وخطابة بالجامع الكبير في قسنطينة. وكان محمد الفكون، كما يقول عنه ابنه، فقيها ومتصوفا أيضا، يقوم الليل ويدرس العلم. ولم نعرف أن العثمانيين الذين جددوا له ما كان لوالده من وظائف دينية قد منحوه لقب شيخ الإسلام. فقد توفي محمد الفكون أثناء عودته من الحج في مكان بين الحجاز ومصر سنة 1045. ولكن عائلة الفكون قد بلغت مجدها الديني والدنيوي في عهد عبد الكريم الفكون الحفيد. فقد تولى وظائف والده مباشرة بعد وفاته كما أسندت إليه إمارة ركب الحج. ذلك أن الوثائق تتحدث عن تجديد تسميته أميرا لركب الحج سنة 1048 من قبل علي باشا. ومما جاء في إحدى الوثائق أنه (الشيخ العالم القدوة التقي .. الناسك الأبر النحرير المؤلف .. البليغ سيدي عبد الكريم الفكون) وأنه قد أذن له بضرب الطبل والاتجاه بالمسلمين كما كان ويكون رقاس الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأن أحدا لا يمانعه ولا يعارضه ولا يدافعه لأنه أحق بإمارة ركب الحج، وهو جدير بالقيام بها حق القيام. وقد أرسلت هذه الوثيقة (وهي أمر من الباشا) إلى (القواد والعمال والخاص والعام ببلد قسنطينة) (3).
ولمشيخة الإسلام امتيازات كثيرة وجميعها أعطت لعائلة الفكون، وعلى رأسها عبد الكريم الفكون الحفيد، صلاحيات اقتصادية وروحية تكاد تكون مطلقة. ويمكن تلخيص هذه الأمتيازات فيما يلي: قيادة بعثة الحج مع الحق الكامل في اختيار أعضاء القافلة والاستفادة من هذه المهمة ماديا بقدر الإمكان، وإدارة جميع أوقاف الجامع الكبير الهائلة بدون مراقبة ولا محاسبة، وإعفاء جميع الأوقاف التابعة للعائلة وجميع أملاكها في المدينة وفي الريف من الضرائب ومن كل الغرامات، والإعفاء أيضا من الغرامات والسخرة وحق دخول المدينة والخروج منها وحق توفير الطعام والسكن للجنود والموظفين العثمانيين، كما يستفيد خدم عائلة الفكون أيضا من هذه الإجراءات وكذلك رعاتها ومساعدوها والمتصلون بها، وأيضا تستفيد العائلة من نيل الهدايا والعطايا العقارية وغيرها. ومن حق العشر من الزرابي والخشب الممحول من نواحي الأوراس إلى قسنطينة، ومن حق المكس على أسواق الخضر والفواكه (4).
ومن جهة أخرى فإن جميع من يلتجئ إلى العائلة، سواء في المنزل أو غيره، ولو خارج المدينة، مصون لا يتعرض لأي عقوبة ولو ارتكب أكبر جريمة. وكل من مد شيخ الإسلام يده لحمايته لا يجوز التعرض له. كما أن لشيخ الإسلام الكلمة العليا في تطبيق الشريعة الإسلامية والسهر عليها. وقد كان عبد الكريم الفكون في السادسة والخمسين عندما تولى تلك الوظائف وعندما ألف كتابه (منشور الهداية) أيضا. وإذا كنا لا نستغرب موالاته للنظام العثماني عند ثورة ابن الصخري التي أشرنا إليها (سنة 1047) وغيرها فإننا نستغرب ثورته هو على ولاة هذا النظام الاستبدادي والمتعفن في قسنطينة عند تناوله لتراجم العلماء والمرابطين والمتصلين بالعثمانيين في كتابه. فكيف جمع بين الوظيف والنقد؟.
ومهما كان الأمر فقد تعلم الفكون على والده في زاوية العائلة وتربى على الثروة والجاه. ثم أخذ ينشد العلم حيث وجده ويتدرج في الحياة العامة. ومن شيوخه البارزين في قسنطينة محمد التواتي المغربي الذي أخذ عنه النحو والتصريف. وقد أثر التواتي دون غيره على الفكون فكان عقله عقلا ناقدا، وكان أسلوبه واضحا فثار على الغموض والبدع والانحراف، وأبى إلا أن يكون الدين ناصعا قويما سلفيا. ويدل على ذلك كتاباه (محدد السنان في نحور إخوان الدخان) و (منشور الهداية في كشف حال من ادعى العلم والولاية). ورغم أن الكتابين متصلان موضوعا إلى حد كبير فإن الذي يهمنا هو الثاني. وبالإضافة إلى هذين الكتابين نظم الفكون ديوانا كاملا في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وألف شرحا على أرجوزة المكودي في التصريف، وآخر على مختصر عبد الرحمن الأخضري سماه (الدرر في شرح المختصر)، وله تقييد على مسألة وقف، وسربال الردة في القراءات، وفتح الهادي في النحو، ومجموعة خطب ورسائل وأشعار كثيرة. كما وعد بأنه سيسجل تقييدا على كرامات الشيخ عمر الوزان. وله غير ذلك. وسنعرض نحن إلى هذه التآليف في مكانها من الجزء الثاني.
وللفكون مراسلات كثيرة مع علماء عصره، من ذلك مراسلاته مع سعيد قدورة (وهو يكتبه كدورة). ومراسلاته مع أحمد المقري صاحب (نفح الطيب) التي أشار إليها في (منشور الهداية)، كما جاء في (نفح الطيب) ما يؤكد ذلك (5). وقد روى مرويات الفكون تلميذه عيسى الثعالبي الذي تتلمذ أيضا على الشيخ محمد التواتي (6). كما تراسل الفكون مع العالم التونسي إبراهيم الغرياني القيرواني ومحمد تاج العارفين العثماني. وكانت له علاقة طيبة مع العياشي صاحب الرحلة الذي حج معه سنة 1064 عندما كان الفكون أميرا لركب الحج الجزائري. وقد طلب منه العياشي عندئذ الاتصال بحضرته والانخراط في سلك طريقته، أي الطريقة الزروقية (7)، كما نزل عنده في قسنطينة العالم العثماني المللا علي ونشأت بينهما علاقات ودية، كما أشرنا. ولا نستطيع الآن أن نحصي مراسلاته واتصالاته، فهي كثيرة ومتنوعة، وجميعها تدل على مكانته العلمية في قومه وفي العالم الإسلامي عموما. فآراؤه إذن كانت تقوم على تجربة واسعة وعلوم غزيرة. ذلك أنه بالإضافة إلى التأليف كان له تلاميذ كثيرون يقصدونه من زواوة وعنابة ومتيجة والجزائر وغيرها، وكان مدرسا ناجحا في وقته (8).
نقد الفكون علماء عصره سواء في الجزائر أو غيرها، وعاب على فقهاء المشرق تساهلهم في المسائل الفقهية. وقال إنهم كانوا يشربون الدخان في المساجد ولا يعظمونها حيث يأكلون فيها وينامون ويحلقون رؤوسهم. كما عاب عليهم تساهلهم في منح الإجازات وعدم احترام العلم. أما علماء بلاده فقد آخذهم على نقطتين بارزتين تعتبران مدار فلسفته في الإصلاح عندئذ، الأولى بيع ضمائرهم بقبول الرشوة وخدمتهم المطلقة للولاة وتضحيتهم بالعلم والأخلاق. والثانية انحراف المرابطين بادعائهم التصوف والولاية واتخاذهم الحضرة والوعدة وأكلهم الحشيش والاجتماع على الرقص الصوفي والغناء بهدف الحصول على المال واستغلال العامة والتحالف مع السلطة أيضا للوصول إلى نفس الغرض. وإذا نظرنا إلى النماذج التي ساقها فإننا نحكم بأن صيحته كانت قد جاءت في وقتها. فقد كثر أدعياء الولاية والدجالون والمشعوذون حتى غطى البلاء السهل والوعر. ولا حاجة هنا إلى العودة إلى ذكر النماذج التي جاء بها. وقد كنا سقنا أيضا تعريفه للمتصوف الحقيقي في مقابلة المتصوف الدجال الذي كان ينتقده، وهو تعريف فيه ثورة صارخة ضد البدع والخرافات، وفيه دعوة واضحة إلى التصوف السلفي القائم على العلم والعمل معا. ويجد المرء في عدة أماكن من (منشور الهداية) نداء إلى ضرورة استخدام العقل والعمل بالاجتهاد. ومع ذلك لا يمكن أن يوصف الفكون بأنه كان متساهلا في تصوفه. فقد حكم عليه معاصروه أيضا بأنه كان محافظا وأن له مقاييس ثابتة في التصوف الإسلامي السلفي. وكان يرى أن التصوف قد تدهور تدريجيا. فجيل القرن العاشر (16 م) كان أفضل في تصوفه من جيل القرن الحادي عشر وهكذا. وقد وصفه زميله أحمد المقري بأنه كان (مائل إلى التصوف، ونعم ما فعل!) (9). ووصفه العياشي بأنه كان منزويا شديد الانزواء والانقباض عن الخلق ومجانبا علوم أهل الرسوم. وكان لا ينفك عن التوجه إلى الحرمين الشريفين رغم كبر سنه (10).
...
وهكذا يتضح أن الجزائر خلال العهد العثماني كانت غنية بالمرابطين والطرق الصوفية. ولكن مرابطيها قد ابتعدوا شيئا فشيئا عن العلم والعمل به واقتربوا في أغلبهم من التدجيل والخرافة. ولم تكن لديهم فلسفة في التوحيد ولا عقيدة واضحة في الدين. وكل ما كانوا يفعلونه هو بناء الزوايا وادعاء الكرامات وإعطاء العهود والأوراد وتلقين الأذكار وجمع المال والهدايا من الفقراء واستغلال العامة ماليا. وقليل منهم من سلك طريق الزهد والتصوف لله وعاش لدينه وعلمه. ومعظم الطرق الصوفية كانت نسخة مكررة لبعضها، ولا تكاد تختلف سوى في الزمن والبيئة أو في الاعتدال والمبالغة. ولا نكاد نجد طريقة أصيلة نابعة من ظروف سياسية أو دينية استوجبت ظهورها محليا. فقد كانت جميع الطرق مستوردة الأفكار من أجزاء العالم الاسلامي الأخرى، إما من المغرب (الدرقاوية، الطيبية، الزيانية الخ ..) وإما من المشرق (القادرية، الخلوتية، الخ ..) يضاف إلى ذلك الشابية التي انتشرت من
تونس، ومع ذلك فإن المرابطين وطرقهم قد لعبوا دورا بارزا في الحياة الثقافية والسياسية للبلاد. ذلك أن كثيرا من الأشعار والتآليف في المناقب والتصوف والسير قد ظهرت خلال هذا العهد. وكانت معظم الزوايا، كما عرفنا، مراكز للتعليم ومخازن للكتب، كما كانت الطرق الصوفية مصدر قلق للولاة الظالمين يخشون بأسها وثورتها، وكثيرا ما هددت كيانهم. ولذلك خصصنا هذا الفصل لدراسة دور المرابطين والطرق الصوفية.
الهوامش:
(1) المغيلي من أهل القرن التاسع (توفي سنة 909) فهو خارج العهد العثماني
(2) ترجم له حفيده في (منشور الهداية)، وهو الذي ذكر الحادثة السابقة وأبرز الجوانب الصوفية والعلمية لجده.
(3) النص العربي لهذا الأمر موجود في (روكاي)، 1878، 229، نشره مع ترجمة له السيد ميرسييه.
(4) جاء في أمر صادر عن مراد باشا سنة 1060 أن عبد الكريم الفكون قد حصل على حق السوق (سوق الخضر والفواكه) وجميع مداخله لتكون بيده واستعمالها في ضرورات الجامع، كما جاء فيه أن الفكون قد توجه إلى العاصمة بمكتوب من فرحات باي ورجب باي اللذين وهبا له حق السوق فثبته الباشا على ذلك. انظر نفس المصدر.
(5) أحمد المقري (نفح الطيب) 3/ 238.
(6) العياشي (الرحلة) 2/ 396. قد يكون المقصود به التواتي الذي كان في الخنقة وبسكرة سنة 1065 وليس التواتي شيخ الفكون المتوفى سنة 1031، كما عرفنا.
(7) من ذلك نفهم أن الفكون كان من أتباع الطريقة الشاذلية أيضا. وممن تأثروا أيضا بالطريقة الزروقية عبد الرحمن الأخضري ومحمد بن علي الخروبي كما سبق، وكان أحمد زروق قد عاش فى بجاية وقسنطينة وتلمسان. وقد حاول التوفيق بين السلفية والتصوف.
(8) من تلاميذه البارزين في قسطينة بركات بن باديس الذي ذكر أستاذه في تقييده (نزع الجلباب)، كما ذكر له جوابه عن لغز السيوطي في إحدى مسائل النحو. وقد اطلعنا على ذلك في مخطوط ضمن مكتبة ابن الموهوب.
(9) المقري (نفح الطيب) 3/ 238.
(10) العياشي (الرحلة) 2/ 391. وذكر العياشي أيضا بعض مؤلفات الفكون التي وجدها عند ولده: محمد الفكون، وقد جددت لمحمد الفكون كل صلاحيات والده بأمر صادر عن إسماعيل باشا بن خليل سنة 1074 انظر (روكاي)، 1878، 232. انظر كتابنا (شيخ الإسلام عبد الكريم الفكون)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1986.