عبد الكريم الفكون القسنطيني وكتابه فتح المولى في شرح شواهد الشريف ابن يعلى
بقلم: محمد بسكر-
من المؤلفات النّحوية التي ظلت قابعة في الأدراج أزيد من ثلاثة قرون، كتاب ” فتح المولى في شرح شواهد الشريف ابن يعلى”، تأليف عبد الكريم بن محمد الفكون القسنطيني 1048 هـ/1638م، والذي قام بتحقيقه الأستاذ (أبو الأنوار دحية) اعتمادا على نسخة خطية وحيدة، وأشرفت على نشره الدّار القاسمية للنشر والتوزيع سنة 1428هـ/2007م، والكتاب وإن كان اختصاصه في النّحو، فإنّه يؤرّخ لحقبة زمنية هامّة من التواجد العثماني ببلدنا، صوّرها البعض أنّها فترة ركود ثقافي وتخلّف علمي، والمستوى الذي تُظهره مادة هذا التأليف يدحض هذه الفرية، ويثبت أنّ النشاط العلمي ظل مواكبا للوجود العثماني بالرغم من عثراته، وأنّ جذوة العراك الثقافي لم تهمد في بلدنا إلّا مع بداية الاحتلال الفرنسي.
الشّيخ العلّامة عبد الكريم الفكون القسنطيني من أبرز علماء القرن السابع عشر في المغرب الإسلامي، فقيهٌ أديبٌ نحويٌ، من بيت اشتهر أهله بالعلم والأدب والرّياسة. ترجم له الكثير وأثنى عليه جمٌ غفير، كتلميذه العياشي في رحلته ماء الموائد، والعلامة أحمد المقري في كتابه نفح الطيب، والشيخ عيسى الثعالبي في فهرسته كنز الرواة. له من التصانيف اثني عشر كتابا، منها أربعة خصّها للنحو، وهي: فتح اللطيف في أرجوزة المكودي في التصريف، وفتح الهادي بشرح جمل المجرادي، وفتح المالك على لامية ابن مالك، وفتح المولى في شرح شواهد الشريف أبي يعلى.
كتب الفكون في علوم مختلفة، وترك رسائل متنوعة في الفقه والتوحيد والتراجم، غير أنّ العناية باللغة وعلومها غلبت معظم إنتاجه، وخاصة علم النحو الذي تعلق قلبه به كما ذكر ذلك في كتابه منشور الهداية (ص106)، فثلث ما كتبه في هذا المجال، وقاسمه هذا الاهتمام معاصروه، يظهر ذلك جليا في مجالس العلم المخصصة للغة والنحو وفي نوعية الكتب التي كانت تدرّس فيها، وفي المناظرات العلمية كانت تعقد في تينك المجالس وخاصة في مدينة قسنطينة، ومع اشتهار هذه الفترة بالضعف العلمي مقارنة مع العهود السابقة، إلّا أنّ تجارة النّحو كانت رائجة، فقد ذكر ابن الفكون في كتابه “منشور الهداية” المناظرات العلمية في النحو التي كانت تعقد في مجالس العلم، من بينها ما دار بين شيخيه محمد بن راشد الزواوي والشيخ محمد التواتي، وما وقع بينه وبين الشيخ إبراهيم الفلاري التونسي.
موضوع الكتاب:
دراسة نحوية تحليلية تتبع المؤلف فيها الشّواهد الواردة في كتاب (الدّرة النحوية)، لمؤلفه محمد بن أحمد بن يعلى الشريف الحسني (ت723هـ) الذي شرح فيه متن الأجرومية، والمقصود بشواهده استدلالاته التي أوردها أثناء شرحه للأجرومية، واستمدها من نصوص القرآن والحديث النبوي، وكلام العرب من شعر وأمثال. لم يكن ابن الفكون الوحيد الذي شرح شواهد ابن يعلى، سبقه لشرحها الحسن بن يوسف الزياني من بني عبد الوادي (ت1023هـ)، ويحي بن محمد الشاوي (ت1096ه)، كما شرحها محمد بن أبي القاسم البوجليلي، وهو من علماء القرن 12هـ، وتعرض للتعلقة عليه أيضا الشيخ بركات بن عبد الرحمن بن باديس المتوفى في بداية القرن 12هـ وسمى شرحه بـ «قيد الشوارد في شرح الشواهد ».
منهج ابن الفكون ومصادره:
اقتصر “عبد الكريم الفكون” في شرحه على الشواهد الشعرية، التي بلغت أزيد من مائة شاهد، مدرجة في سبعة وعشرين بابا من أبواب النّحو، ونحا فيه منحى من سبقه من شُرّاح الجمل، كابن القصار في شرح شواهد المقرب، وأحمد التدميري (ت555هـ) في شرحه لأبيات الجمل للزجاجي، ومحمود بدر الدّين العيني (ت855هـ) في كتابه: المقاصد النحوية في شرح شواهد الألفية، ووشى الحلل في شرح شواهد الجمل، للشيخ محمد بن يوسف اللبلي الفهري (ت691هـ)، وشرح شواهد المغني للدماميني (ت837هـ)، والتصريح بمضمون التوضيح للجرجاني (ت905هـ) ..وغيرهم ممن اهتموا بهذا الفنّ، وهي نفس المصادر التي استقى منها ابن الفكون معلوماته.
أمّا الأسلوب الذي اتبعه الفكون في شرحه، فهو ينم على إطلاع الرجل وسعة علمه وتمكنه، ومعرفته لكلام العرب عتيقه وحديثه. يأتي بالشاهد فيعزوه لصاحبه ويترجم له ترجمة مقتضبة، لم يفته من نسبة الأبيات إلى أصحابها إلاّ النزر القليل، تتبع المحقق الضائع منها.
وطرقته في التحليل أنّه يسوق – في الغالب- الأبيات التي قبل الشاهد وبعده مع ذكر مناسبته، ثمّ يتطرق لتحليل الألفاظ، فيظهر أصل اللّفظة، ويضبط رسمها ويبين المنحوت منها، وضوادها وتراكيبها، ويسلت منها ما تحتمله من المعاني، ويعرض أقوال أهل اللّغة في تأويل الألفاظ، مستشهدا في ذلك بنصوص القرآن والسنّة، وما استحضره من جميل كلام العرب. وبعد شرحه للبيت يتطرق إلى إعرابه، فيبين أوجهه ومنازعات النّحاة فيه، والتي تشبه إلى حد بعيد اختلافات الفقهاء ومجادلاتهم في التعليل والتوجيه والتفريع، فيعلّل ويبين مذاهب النّحاة، ويُعرب عمّا ترجّح عنده، ولا يفوته بسط اختلاف الشّراح في بعض المسائل النّحوية، فينازعهم في كثير من الأحيان، مبديًا اعتراضاته، ومبينًا ما هو أقرب للصواب، ولا تخلو مناوشاته من مُتع لغوية، ومُلح أدبية، تدل على أنّه ليس بالنّحيت على هذا الفنّ، أو الدّخيل على أهله. فشرحه لا يخلو من الاستطرادات التي تثبت أنّه لم يكن من أطراف هذا العلم بل هو من الوسط، يناقش ويجادل ويصحّح ويوجه كلام أقرانه وسابقيه من فحول علماء اللّغة والنّحو، وفي خاتمة شرحه يذكر المقصود من البيت، ومحلّ الشّاهد منه، والغرض الذي من أجله ساقه صاحب الأصل، ثمّ يوشح مسك كلامه بلطيفة أو غريبة أو نكتة مستوحاة من نوادر كتب اللغة .