النهضة العلمية وجهود الشيخ عبد المجيد حبة بمدينة المغير خصوصا ووادي ريغ ومنطقة الزاب عموما
محمد لعروسي حامدي

النهضة العلمية وجهود الشيخ عبد المجيد حبة بمدينة المغير خصوصا ووادي ريغ ومنطقة الزاب عموما

بقلم: محمد لعروسي حامدي-

شيخ علماء الزيبان، قطب الزيبان ومفتي الصحراء، خزانة علم تمشي في الشوارع، إنّه العلامة المغمور، دائرة معارف تمشي في الأسواق ، الرجل العصامي... هذه بعض الأوصاف والألقاب التي أطلقها مجموعة من الكتاب والباحثين على شخص العلامة عبد المجيد حبه، الذي لم يكل عن التحصيل والبحث والتنقيب والمطالعة الجادة في شتى فروع العلوم طيلة حياته التي امتدت 81 سنة حتى أضحى مرجعا أساسيا لا يمكن لأي باحث مهما كانت قيمته العلمية أن يتجاوزه خاصة في مجال التاريخ وعلم الأنساب وشجرات العائلات وتراجم الشخصيات...".

هذه مجموعة من الأوصاف وغيرها كثيـــر سنعرف حقيقتها في هذه العجالة وأنها لم تكن من لا شيء "وإن كان الشيخ لا يعتبر نفسه شيئا بل يعتقد جازما أن ليس في ترجمته ما يستحق التسجيل وهذا دليل واضح أن الشيخ كان عالما يحمل أوصاف العلماء ولا أعني صفة التواضع بل صفة لوم الذات والشعور بالحسرة أمام قصر العمر وسعة العلوم ورحابتها ".

فلقد ترجم الشيخ لنفسه ترجمة مختصرة بعد إلحاح تلميذه الأستاذ أحمد بن سايح عليه فبدأ الشيخ الترجمة بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد فإن كان من يسعى لاستنباط شيء من لا شيء فهو هذا الابن الأديب الشاب النجيب : أحمد بن سايح الذي اقترح علي بإلحاح تسجيل كلمة عن حياتي التي أعتقد جازما دون تواضع أن ليس فيها ما يستحق التسجيل و لا فيها ما يذكر ويشكر أو يشكر فيذكر ،وإنما نزولا لاقتراح الأخ لحسن ظنه أقول :

إنّي –ولا أقول –أنا عبد المجيد بن محمد بن علي بن محمد الملقب حبة السلمي المغيري، ولدت بمدينة سيدي عقبة شهر ربيع الأول –مارس عامي 1329ه/1911م من أبوين مسلمين في أسرة تملك من العقار والحيوان ما جعلها تعتني بالفلح وتربية الحيوان ولم يعش لأبوي سواي.

ولما بلغت من العمر على ما قيل ثلاث سنوات حملت إلى الكتاب ...فحفظته (أي القرآن) مبكرا لكنني لم أفارق الكتاب إلا في عام 1926 (15 سنة )(3).

نسبه ينتمي إلى قبيلة بني سليم العربية(4) وقد أثبت هذا رحمه الله في الأرجوزة التي أعدها بنفسه في اثنان وأربعين بيتا التي منها:

وإنني إجابة للأمر ورغبة التعريف لا للفخر

ضمنت هذا الرجز انتسابي للعرب الكريمة الأحساب

فمن سليم نسبي ممتد وقيس عيلان لهذا جدي...

فشيخنا ينتمي إلى أسرة آل حبه من بني سليم التي تمركزت ببادية أم الطيور والمغير، وخلال النصف الثاني من القرن 19 ميلادي نزح بعضهم إلى منطقة سيدي عقبة واشتروا بها أموالا مع بقائها على علاقتها بأهل المغير التي توجد بها بعض أملاكها.

وبهذا الموطن الجديد (سيدي عقبة) مسقط رأسه تعلم العلوم الشرعية على علماء بلدته حيث توفرت له أسباب طلب العلم في يسر حيث كانت أسرته مكتفية من نعم الله وهذا ما يذكرنا بقول الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله :"لو كلفت بصلة ما تعلمت مسألة " وهذا خاصة في زمن كثرت فيه الفتن وكثرت فيه مشاغل الحياة وصعب فيه الجمع بين التجارة والعبادة إلا بتوفيق من الله تعالى.
"فقد كان أبوه وإخوانه من أبناء الأسرة يعتنون بالفلاحة في حقول الزرع وبساتين النخيل وفي هذا الجو الأسري ولد الصبي عبد المجيد ففرحت به الأسرة أيم فرح ووفرت له الأسباب التي جعلته وحده يحظى بكامل عناية أبيه و أدخله الكتاب وهو ابن أربع سنين" مع أبناء عمه وفي اليوم الأول ظهرت علامات نبوغه وسط أقرانه فقد حفظ الفاتحة في يومه الأول ولم يحفظ أبناء عمومته سوى آية أو آيتين فسر به جده كثيرا وقال له سيصبح لك شأن كبير فزادت هذه الكلمات من همة هذا الولد الصغير فحفظ القرآن وعمره لم يتجاوز 11 سنة وقيل 9سنوات. "فاختلف في حلقات العلم بمسجد عقبة بن نافع بلدته وكان ذلك مما أثلج صدر الوالد وهو يرى نجله الوحيد يثب من درجة إلى أخرى عل نهج العلم ليرتقي عبر دروبه إلى مرتبة الجلوس ين يدي كبار علماء القرية ينتفع بأخلاقهم و علمهم ،وإذا كان الوالد م تسعفه ظروفه الخاصة أن يأخذ حظه من نعمة اعلم فإن الولد كان على العكس من ذلك فقد وفرت له معظم الشروط اللازمة لينهل من معين المعرفة ما شاء وطاب ...".
"ولم يلبث التلميذ الصبي أن كبر وكبرت معه اهتماماته بهذا المسعى النبيل الذي فتح عينيه على أفق الحياة فوجد نفسه على دروبه وطفق يتذوق بعض ثمارها ويتشوف بعضها الآخر وهو يرتسم في صفحات الأفق من بعيد... فدفعه ذك إلى مضاعفة الجهد في طلب المزيد من مناهل العلم لإشباع نهمه من رياضه الخصبة اليانعة فعكف على ملازمة مجالس شيوخ قريته التي كانت مركز علم يتوافد على مجالس العلم بأروقة مسجدها العامر من جهات عديدة من البلاد..."(7)" و كان ينهض بمطالب هذه النفس الكبيرة :جسم شديد النحافة ذو قامة قصيرة غير أن الله قد عوض صاحبه عن ذلك قوة روحية كبيرة ولعل هذه المفارقة الواضحة بين طرفي هذه المعادلة في مقومات شخصيته ".
وكانت له قصة عجيبة عند بداية طلبه للعلم حيث إنه أراد أن يسافر لطلب العلم مع بعض إخوانه لطلب العلم الشرعي خارج البلد فبكت أمه لذلك لأنه كان ابنها الوحيد ولما رأى الشيخ عبد المجيد دموع أمه وضع حقيبته وقال لها سأبقى هنا معك وسأطلب العلم هنا وبقي الشيخ في بلدته رغم محاولات أمه لإقناعه بالذهاب. ولما يئست من ذهابه قالت له برك بي وإحسانك لي سيجعلك إماما إن شاء الله وسيفتح الله عليك وسيأتيك العلم إلى قدميك...وكان له ذلك رحمه الله تعالى.

فكان لدعوة والدته وحسن تربيتها له الفضل الكبير بعد الله عز وجل.

كما كانت الصفات التي يتمتع بها الشيخ سببا في نبوغه هذا بعد توفيق الله جل وعلا فقد كان يتصف رحمه الله بسرعة الحفظ والفهم والنباهة وقبل هذا حبه للعلم وأهله وبذل الغالي والنفيس من أجل تحصيله وكان في كل هذا يتعلم بالطريقة التقليدية المعروفة في المغرب العربي وفي الجنوب الجزائري خاصة وهذه الطريقة تعتمد على الكتابة على اللوحة الخشبية بالصمغ بواسطة القلم المصنوع من القصب والصمغ وهذه الطريقة لا تزال إلى الآن في المنطقة فكل الأولاد يحفظون كتاب الله بها وهي أرسخ في الحفظ ومن جرب عرف هذا.

شيوخه الذين أخذ عنهم :

أخذ الشيخ العلم عن علماء بلدته وكان من أبرزهم وأعمقهم أثرا فيه:

الشيخ العلامة الصادق بلهادي (1869-1939): فقد تلقى عنه أغلب علومه في زاوية خنقة سيدي ناجي. فدرس عنه الآجرومية في المرحلة الابتدائية ثم أخذ عنه باقي العلوم مثل شمائل الترمذي في الحديث رسالة ابن أبي زيد في الفقه، الأزهرية في النحو، الرحبية في الفرائض،المقدمة الجزرية في التجويد وأخذ بحظ وافر في الشعر و الأدب كما كان رحمه الله يحفظ موطأ إمام دار الهجرة مالك ابن أنس إلى غير هذا من الكتب التي كان رحمه الله يحفظها، كما كان له نصيب وافر من علم الجبر والهندسة والفلك وغيرها من العلوم الدنيوية .

بقي الشيخ عبد المجيد في هذه الزاوية مع شيخه بلهادي إلى حين وفاته رحمه الله سنة 1939 وهذا يدل على وفائه لشيخه رحمه الله.

وقد قال عنه شيخنا في ترجمته ما نصه:"وقد توالت مطالعاتي معه خاصة في كتب كثيرة ،واشهد الله أنه كان لصغري يعدني كأحد أبنائه عطفا وشفقة وفي الاحترام والتبجيل كأحد فلذاته....
كما أخذ كذلك عن الشيخ محمد ابن الصالح بن منصور العقبي الملقب ب "ابن دايخة " (1889-1952) أخذ عنه تفسير الخازم وكذلك القطر و أوائل مختصر خليل وقد لازمه أيضا إل حين انتقاله إلى مدينة برج أم نائل سنة 1931

والشيخ اللغوي الهاشمي بن مبارك (1882-1967) وقد سبق ترجمته في العدد الرابع عشرمن المجلة .وأخذ أيضا عن الشيخ العلامة الفاتح الطيب العقبي :درس عنده بمدينة الفاتح عقبة ثم أخذ عنه تفسير الخازم بجامع بكار عندما انتقل معه إلى بسكرة في شتاء1929 رفقة الشيخ الأزهري بحضور علماء كثيرين منهم مختار أرطباز اليعلاوي والأستاذ محمد العيد آل خليفة وكانت هذه الرحلة بداية المرحلة الثانية في طلب العلم

كما درس على يد الشيخ العلامة المصلح البشير الابراهيمي: أخذ عنه ربع المختصر،شرح القطر،رسالة البيان ،الجوهرة للعاني ،الألفية( أو اللامية) وكان شيخنا يقول:"إنه شيخ مشايخ الصحراء الأوراس و الحضنة"

وكذلك أخذ عن الشيخ لخضر بن ساكر

ومن العلماء الذين أخذ عنهم: الشيخ الطاهر العبيدي وهو صديقه المقرب، وكان على صلة وثيقة بأمير شعراء الجزائر محمد العيد آل خليفة وقد نظم هذا الأخير أبياتا في الثناء على سنذكرها تحت عنوان: مكانته بين علماء الوطن شيخنا، ولكن رغم كل هؤلاء العلماء فيمكن اعتبار شيخنا رجلا عصاميا فهو وإن استفاد منهم وخاصة الشيخ الصادق بن هادي والعلامة الفاتح الطيب العقبي والبشير الإبراهيمي لكنه لم يستمر معهم إلى مستويات متقدمة في هذه العلوم لأن العلوم في الزوايا آنذاك كانت تقسم إلى ثلاث مستويات(ومنهم من يقسمها إلى أربع مستويات):
1-المستوى الابتدائي 2-المستوى الثانوي 3-التعليم العالي أو بالأحرى بداية التعليم العالي، ويظهر أن شيخنا لم يكمل المرحلة الأخيرة خاصة أنه تصدر للتدريس مبكرا كما سيظهر لنا ، وتظهر عصامية الشيخ جليا في العلم الذي اشتهر به وبرز فيه وهو علم الأنساب هذا العلم الذي نستطيع أن نقول أنه ذهب من المنطقة كلها بذهاب شيخنا رحمه الله، فقد كان الشيخ إلى جانب العلم المشيخي يضيف علما كتبيا حيث وبقي إلى أخريات حياته مدمنا على المطالعة شغوفا بالكتاب والقراءة والتحدث في مسائل العلم والمعرفة.

تصدره للتدريس بين علماء المنطقة الذين هم مشايخه :

بعد أن تضلع الشيخ في العلوم الشرعية وغيرها تصدر للتدريس والتعليم في حياة شيخه الصادق بلهادي وبحضوره فبل بلوغه سن الخامسة والعشرين والتف حول درس الشيخ طلبة العلم من البلدة وخارجها المقبلون من الأوراس والزاب ومنطقة المغير فدرس لهم ما تعلمه من شيوخه وزيادة وذكر في ترجمته أنه زاد على ما تعلمه عن شيوخه تدريس تفسير القرآن كله وكذا الموطأ بشرح السيوطي وشمائل الترمذي بشرح الياجوري وسبل السلام للصنعاني ورياض الصالحين و موعظة المؤمنين للقاسمي والأنوار المحمدية للنبهاني و الروضة الندية للقاواقجي ...

كما درس لخاصة الطلبة لامية الأفعال و معلقة امرئ القيس .

قال الشيخ رحمه الله في ترجمته:"وقد عزم علي(شيخه بلهادي)أن أعلم لأتمرن على الدرس، فشرعت في التعليم وبحضوره أحيانا قبل بلوغ الخامسة والعشرين من عمري ،وكم يتهلل وجهه إذا أعجبه تعبيري ،بل كان إذا سئل وأنا معه يحيل الجواب علي ،وأغرب من هذا أنني كلما استعرت منه كتابا ثم رددته له ولم ير قلمي فيه يقول :لعلك لم تقرأه أو قرأته ولم تفهمه ،وأنا أحب أن تصلح ما فيه من خطأ مطبعي أو ترد على المؤلف ما أخطأ فيه ،حتى نعرف مدى إدراكك ومنتهى عقلك وكم مرة يلزمني أن أخلفه في خطبته في بعض الجمع فأأبى احتراما له فجزاه الله عني الجزاء الأوفى."
كما درس بمسجد الفاتح عقبة بن نافع وهناك ختم تفسير القرآن الكريم تدريسا للعامة ما بين 1940 و 1952، و كان يدرس في غيره من المساجد كلما أتيحت له الفرصة لذلك.

انتقاله إلى مدينة المغير:

في هذه السنة (1952)انتقل الشيخ إلى مدينة المغير، هو وعائلته وكان له من الولد محمود ولده الأكبر وقد توفي رحمه الله في مطلع عام 1995 بعد صراع طويل مع المرض وقد كان يشغل منصب مدير مستشفى المغير وولده الآخر الابن البار عقبة وهو يشغل الآن منصب الأمين العام لرئاسة الجمهورية.
نزل الشيخ في بيت الحاج احمد طلحة ثم إلى دار الحاج مقدم براشد ثم في الدار هي التي يسكنها الآن الطالب حميدة أمد الله في عمره إلى أن أتم الشيخ أشغال الترميم في بيته المعروف الآن.، وكان من رجال الإصلاح في هذه المدينة قبل مجيء الشيخ :

الشيخ العلامة علي بن خليل: وهو الذي تسمى عليه المدرسة الابتدائية القديمة وهذا الرجل هو الذي نستطيع أن نقول إنه فاتح المغير فقد قضى على أغلب العادات والتقاليد الفاسدة التي كانت في المدينة.

لما مات هذا الشيخ الجليل أرسلت جمعية العلماء المسلمين الشيخين: محمد بن عبد الرحمن المسعدي ولعروسي لحويتي وقد كان هاذين الشيخين أساتذة في مدرسة النجاح التابعة لجمعية العلماء المسمين.

وكان من رجال الإصلاح في حياة:

الشيخ لخضر ثا بت أبو البنات رحمه الله: وهو أول من دعا وتصدر لتدريس البنات في مدينة المغير فكان يدرس في بيته حوالي مائة بنت يسهر على تعليمهن و تنشئتهن النشأة الإسلامية الصالحة فله الفضل بعد الله جل وعلا في حفظ كثير من نساء المغير كتاب الله جل وعلا والكثير من العلوم الشرعية ، ولا تزال بعض تلميذاته اللاتي حفظن عنده القرآن على قيد الحياة إلى الآن أمد الله في عمرهن بخير آمين.

وغير هؤلاء من العلماء والطلبة الذين درسوا سواء خارج المغير في سيدي عقبة أو قسنطينة أو الذين درسوا في المغير عند الشيخ وهؤلاء وإن لم يكونوا على قدر كبير من العلم إلا أنهم كانوا يحاولون الإصلاح بما يستطيعون.

مساهماته إبان حرب التحرير :

"كان الفقيد منذ شبابه وهو يسهم بمختلف نشاطاته في النهوض بالواقع الوطني :قياما برسالة التدريس وإسهاما في الإصلاح الاجتماعي ومناصرة للقضية الوطنية لكن من دون أن يتعصب لجهة أو تلك ...وأنت إن حاولت أن تضع يدك على بعض ميوله السياسية فستنتهي بك المحاولة إلى أن الفقيد لم يكن منضويا تحت لواء حزب من الأحزاب ،كما لم يكن منضما الانضمام الرسمي إلى الحركة الإصلاحية ....
وظل وفيا لهذا المنهج فواصل نشاطه على دربه إلى أن نجح الشعب في جمع أشتات شمله وتوحيد كلمته وتفجير ثورته ليلة الفاتح من نوفمبر 1954 فكان الفقيد من أوائل المستجيبين لنداءات هذه الثورة ،ومن الواقفين إلى جانبها بالدعم المادي والمعنوي ؛يحض المواطنين على احتضانها ، ويجمع الأموال لفائدتها ، ويأوي في داره المجاهدين والمسبلين"(15) وهو أول من ترأس لجنة جبهة التحرير الوطني في المنطقة وكان ذلك لمدة ستة أشهر.

ولما زار العقيد سي الحواس المنطقة سنة 1956 نزل في بيت الشيخ فقد كان مكلفا بتنظيم العمل الثوري وجمع السلاح حتى أصبح مشبوها عند الاستعمار كما جاء في ترجمته لنفسه والذي بحث عنه فخرج إلى البادية آخر عام 1957، بعثت السلطات الفرنسية في طلبه سنة 1957 هو وبعض الرجال فهربوا إلى البادية وتحديدا إلى القايد بن فلاح الحاج سي بلقاسم في أولاد جلال وغير لهم أسماءهم وكان الاسم الذي أطلقه على الشيخ هو "رزق الله محمد"وبهذا الاسم دخل العاصمة والمستشفى هناك في آخر جوان 1958 واستقر بالجزائر العاصمة وتحديدا في فندق قصر الشتاء المعروف باسم نزل بن الحفاف) الرابط بين يدي مسجد (كتشاوة) ساحة الشهداء ...وكان من نصيبه به غرفة صغيرة جدا بالطابق الثالث ،وبالرغم من صغر مساحتها فقد اتخذ منها إلى جانب وظيفتها الأساسية وهي إيواؤه ـ حجرة للتدريس ومكتبة للمطالعة وقاعة للاجتماعات ...و بها واصل بالرغم من قسوة الأوضاع وعسر الأهوال نشاطه الوطني والاجتماعي والتعليمي...وإن كثيرا من نزلاء الفندق كانوا ملاحقين من طرف الاحتلال وكانت قصصهم شبيهة بقصة الشيخ ..فاتخذوا لذلك من هذا النزل في تلك الأيام العصيبة العسيرة ملجأ استطاعوا أن يدفنوا بين جدرانه رؤوسهم بعض الوقت،ولا يعني هذا أن عين العدو كانت نائمة ..."فمثلا "فيما يخص الشيخ حامت حوله الشكوك أكثر من مرة ،وحدث أن أوقفه جند الاحتلال وحده في إحدى حملاتهم المتكررة على النزل ذات ليلة من سنة 1960 واقتادوه إلى السجن ،وأمتعوه هذه المرة من دون غيره (بنزهة خاصة)من نزهات الجلادين ...ولكن الله ختم على قلوبهم وجعل على أبصارهم غشاوة،وأسدل عليه أستاره و أنجاه من مكرهم فخلوا سبيله دون أن يتمكنوا من الوقوف على حقيقة أمره،فعاد إلى غرفته بالفندق ،وباشر نشاطه كالمعهود.
وظل على هذه السيرة ..ومضت السنون تشق طريقها في أخاديد الدهر من حوله كئيبة ثقيلة بما تضطر ه من أهوال حرب ومعاناة شعب وما تجود ه على النفس المرهفة من تاريخ الغربة والنوى،غربة عن الولد والأهل والأحباب.. فالفكر منشغل والقلب معتمل بحاضر الوطن ومستقبله.. وبمصير أطفال صغار تركهم هناك في القرية.. يأخذ هم الشوق والحنين مأخذهما إلى لقاء أب حنون كريم،أخرجته يد الطش ذات ليلة من داره فذهب ولم يعد.وأم بنين موزعة قواها النفسية والجسدية بين التفكير في توقعات الغيب المجهولة وين الحرص على النهوض بتبعات تربية الأولاد ورعاية شؤون البيت وبين معاناة فراق زوج طال وطال انتظاره...،كل هذه الخواطر تعمل عملها -ولاشك- في النفس الإنسانية ولكن النفس المؤمنة تختلج بأعماقها تلك المشاعر دون أن تقوى على النيل من عزيمتها،فتظل قوية الإيمان شديدة التفاؤل بدنو ساعة الخلاص ... ".

وفي منتصف أفريل 1962 "حانت ساعة العودة إلى الديار،فرجع الشيخ إلى مسقط رأسه(سيدي عقبة) واستقبله الأهل والخلان وجميع السكان ببالغ التأثر وكامل الحفاوة ...وحط الشيخ عصا ترحاله ببلدته وركن إلى زاوية في بيته يلملم أشتات فكره ويستعيد شريط الذكريات ويحاول أن يجمع قواه لاستئناف نشاطه غير أن سكان القرية (المغير) الذين افتقدوه زمنا طويلا ،واشتاقوا إلى السماع منه والإفادة من دروسه والانتفاع بمواعظه لم يمهلوه حتى يسترجع كامل قواه ،وإنما سارعوا إلى دعوته للقيام بالخطابة والإفتاء بالمسجد فلم يجد مندوحة من الاستجابة لهذا المطلب في هذا الظرف الاستثنائي".

فمساهمة الشيخ إبّان حرب التحرير كانت كبيرة فلقد قدم نفسه وجاد بها في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمة الله سبحانه ليبقى الإسلام دائما في هذا الوطن العزيز وعرض نفسه وأهله وأولاده للأخطار من أجل تحقيق هذا الهدف النبيل فكل شيء يهون في سبيل الله .

تصدره للتدريس والتعليم بمدينة المغير:

ذكرنا أن الشيخ تصدر للتدريس والتعليم بمسجد عقبة بن نافع حيث ختم فيه تفسير كتاب الله تعالى تدريسا للعامة بين 1940 و1952، وفي هذه السنة انتقل إلى مدينة المغير وبدأ فلي إلقاء الدروس وخطب الجمعة في مسجد العتيق ومسجد السوق وهو الذي يسمى مسجد بلال بن رباح الآن، وكان أسلوبه من السهل الممتنع فبالرغم من غزارة لغته إلا أنه يفهمه العامة حتى أنه كان يستعين بالعامية لإفهام الناس

وبفضل الله لقد تم لشيخنا ما كان يؤمله من تفسير كتاب الله فختم التفسير كاملا مرتين في هذه البلدة الطيبة، وهذا لحبه لكتاب الله جل وعلا واعتباره المدرسة التي يتكون فيها الرجال العظام من السلف والخلف ، وقد حاول الشيخ تدريس بعض المتون للعوام لكن اختلاف ادراكات الناس حالت دون ذلك ، وقد أخبرني بعض مقربي الشيخ أن الشيخ كان ينقل الآي بالرقم والأحاديث من مواضعها والغريب في الأمر أنه كان يحفظ كلام أهل العلم حرفيا بل يحفظ موضعه من الكتاب أيضا ،فكان يحفظ مثلا فقه السنة للسيد سابق عن ظهر قلب وغيره من الكتب مثل الموطأ للإمام مالك والرسالة لابن أبي زيد القيرواني ...، وقصة عجيبة تدل على حفظ شيخنا رحمه الله أنه جاءه مرة سائل يسأله عن مسألة ما وكان الشيخ مريضا مرضا شديدا لم يستطع القيام فدخل علية السائل في مكتبته العامرة وسأله فقال له الشيخ انظر إلى العمود كذا الكتاب رقم كذا الصفحة كذا ستجد مسألتك إن شاء الله!!!؟.
وكان الشيخ يجيب على أسئلة الناس أينما حل فهو المرجع عندهم في الفتوى عند الاختلاف وهو مصدر علومهم والبحر الذي يسقون منه عقولهم وخاصة في المواريث والأنساب فالشيخ عالم الأنساب في وقته في هذه المنطقة بل في كل القطر الجزائري رحمه الله رحمة واسعة فهذا العلم قل من ينشغل به أو يتصدى له وقد كان الشيخ من هؤلاء القلة.

ومن أهمّ أعمال الشيخ إشرافه على تدريس وتكوين الأئمة في بيته وكان هذا قبل أن تنشأ الوزارة معاهد التكوين وهذه من السنن الحسنة التي سنها الشيخ، نسأل الله أن يكتب له أجرها وأجر من عمل بها.

وكان في فتاويه يراعي حال المستفتي فيذكر أنه مرة جاءه رجل يسأله عن مسألة في الطلاق فلم يجبه الشيخ وقال له ستقيم الليلة معي وأراد الشيخ بهذا أن يرى وضوءه وصلاته وعبادته فلما رأى أنه جاهل أفتاه بما يراه...

لقد نذر الشيخ حياته خدمة للعلم وطلبة العلم، فرابط في ميدان التدريس أكثر من نصف قرن، يتجول بمنطقة بسكرة و وادي ريغ ينشر ما وهبه الله من فضله، داعية إلى الإصلاح ـ رحمة الله عليه خاصة بعد استرجاع الجزائر لسيادتها فاشتغل بالعلم كتابة وتأليفا ومجالسة وتكوينا للطلاب والأئمة وإصلاحا بين الناس وساعده في هذا تبحره في علم الأنساب ومعرفته بعادات وتقاليد جميع قبائل وعروش المنطقة فكان بحكمته ومكانته العلمية والثقة التي يحضى بها بين القبائل يفضي وينهي أعقد المسائل المتنازع عليها لينتهي إلى صلح وسلم وإخاء.

كما كان رئيس محكمة المغير آنذاك يرجع إليه في مسائل الإرث والقسمة

وكان في حلقاته الخاصة في مكتبته العامرة ـ وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله ـ لديه طريقة مفيدة ماتعة كان يختار كتابا من أمهات الكتب ويطلب من أحد الطلبة أن يقرأ حتى إذا وصلوا إلى إشكال تبدأ المناقشة بين الطلبة كل يدلي بدلوه في المسألة ثم في الأخير يرجح الشيخ ـ رحمه الله ، وكان في دروسه يحب الطرائف فكان يقول لطلابه من أراد أن يسرق كتابا فليفعل فإن سرقة الكتب الشرعية جائزة.
زهده في الدنيا :

لقد نذر الشيخ حياته للعلم تعلما وتعليما فلقد كان متواضعا زاهدا في حطام الدنيا الفاني رغم ما من الله به عليه من أموال ورثها من أبيه إلا إنه استعملها في طاعة ربه فلم يكن يتكبر على أحد بل كان متواضعا يساعد كل من يأتيه بما يستطيع.

لقد آمن الشيخ وأيقن(ككل المصلحين) أن بالعلم وحده يمكن لهذه الأمة أن تفيق من سباتها وتنهض من غفلتها فقصر للعلم وقته فلا شغل له سواه فصرف له من عمره العمر كله وصرف للتعليم أكثر من نصف قرن قضاها في تعليم الناس ما ينفعهم قائما بتبليغهم ما نزل إليهم من ربهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولسان حاله يقول كما قال العلامة ابن باديس عليه رحمة الله :"إني أعلن أنني لست لنفسي وإنما أنا للأمة،أعلم أبناءها وأجاهد في سبيل دينها ولغتها ،وإن كل ما يقطع علي هذا الطريق أو يعوقني عن أداء واجبي في هذا السبيل فإنني لا أرضى به". وكان لا يسمع بكتاب طبع حديثا إلا اشتراه مهما كان ثمنه وأينما كان مكانه وله قصة عجيبة مع كتاب الكبائر للذهبي والناظر في مكتبته العامرة تيقن من صحة ما ذكرنا فهي مليئة بأمهات الكتب ؛في الحديث بجميع فنونه والفقه واللغة وفي الأنساب والتراجم وفي التاريخ وغيرها من فنون العلم الشرعي وجدير بالذكر أنني لما دخلت مكتبته لفت انتباهي بعض الكتب التي طبعت حديثا أي قبل موته بقليل فسألت الشيخ عثمان بوزقاق فقال لي أن المكتبة كما هي لم يضف إليها شيء فهذه الكتب مما اشتراه الشيخ قبل موته فهذه يدل أن الشيخ كان يتتبع كل جديد في عالم المكتبات ومن أدلة زهده رحمه الله بعده عن السياسة بل وهربه منها إلا مادعت إليه الحاجة مثل ترأسه للجنة جبهة التحرير الوطني أيام الثورة كما ذكرنا وكان الشيخ مع كل هذا يعرف بكثرة عبادته حتى كان يوصف بالعالم العابد الزاهد

رحلاتـــه:

كانت لشيخنا رحلات كثيرة لا نستطيع ذكرها كلها في هذه العجالة لكن ربما أكثر الرحلات شأنا رحلته إلى أرض الحجاز وكان هذا مرتين وكان يقيم عند الشيخ أبو بكر جابر الجزائري ومن بين القصص الطريفة التي حدثت له في أرض الحرمين أنه دخل مرة إلى إحدى المكتبات وكانا يسألون كل داخل أسئلة في العقيدة ومن يحسن الإجابة يهدونه كتابا فلما سألوا الشيخ عبد المجيد أتى بكل الآيات والأحاديث في المسألة ثم نظم لهم مجموعة من الأبيات ارتجالا فقال له صاحب المكتبة خذ الكتاب وإن أردت فخذ كل المكتبة و مما يدل على أن الشيخ كان شخصية فذة قل أن يوجد مثلها أنه كان يسمى بالرحالة ابن خلدون و بالرحالة و ابن بطوطة لأنه كان كثير الترحال خاصة منذ تنقله إلى مدينة المغير فكان يلقب ب "شاقور الصحراء" فكأنه شق الصحراء بعلمه و ترحاله لنشر العلم فقد كان يتنقل بين منطقة سيدي عقبة وزريبة الوادي وأولاد جلال وطولقة ومنطقة وادي ريغ "أم الطيور و اسطيل والمغير وسيدي خليل والمرارة وجامعة و تمرنة و الشوشة وحتى الطيبات وتقرت" بل تعداها إلى مناطق بعيدة مثل تمنراست والمدية و الأغواط والجلفة و باتنة و خنشلة وغيرها من المناطق ينشر العلم ويفتي الناس في أمور دينهم ودنياهم ويفك بعض النزاعات التي قد تحدث بينهم فقد كان الرجل الذي يرضى به الجميع في المنطقة فلا يرد له قول رحمه الله،"فالشيخ أضاف إلى نشاطه العلمي نشاطا اجتماعيا فقد كان الأهالي يهرعون إليه من كل النواحي وأحيانا كان هو الذي ينتقل إليهم. وكان يساعده في هذا ما أنعم الله به عليه من الحكمة والحلم والرفق، إضافة إلى قدرته على إيجاد الحلول الملائمة للمشكلات المعضلة وما يمتاز به من معرفة ما يصل بين القبائل والأعراش من أنساب وأرحام وما يتحكم في علاقاتها من عوائد وأعراف وكذلك ما له من كرم فياض يحمله على البذل من ماله أحيانا إذا احتدم الخلاف بين الأطراف المتنازعة".

مكانته بين علمـاء الوطـن:

إن للشيخ مكانة كبيرة بين علماء هذا البلد الطيب نذكر بعض الذين أثنوا عليه ومدحوه فمثلا: الشيخ عبد الرحمان الجيلالي عليه رحمة الله عندما أتى إلى مدينة المغير لتدشين وافتتاح المسجد العتيق وسأله بعض الحاضرين بعض الأسئلة قال : لا يفتى وعبد المجيد في المغير ... وقد أثنى عليه الشيخ عبد القادر الياجوري رحمه الله عضو جمعية العلماء المسلمين عندما زار المغير بدعوة من الشيخ عثمان بوزقاق وعبد الرزاق قسوم لأنهما كانا يدرسان عنده في قسنطينة فأثنى على الشيخ ونزل عنده في بيته و من أعضاء الجمعية الذين زاروا المغير والتقوا بالشيخ و أثنوا عليه :

الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ النعيمي(1909-1973) والشيخ الطيب العقبي والشيخ محمد خير الدين رحمة الله عليهم أجمعين

وقد أثنوا عليه كلهم ووصفوه بالشيخ العلامة

وقد أثنى عليه صاحبه أمير الشعراء في الجزائر محمد العيد آل خليفة رحمه الله ورثاه بعد موته بأبيات قال فيها:

قل للفتى عبد المجيـــد أقرنا عيــنا أداؤك واجبا مهــــجورا

لله درك بـــاحثا متــــــحريا في بحثه ومؤرخا مــــــبرورا

ألفت أطراف البحوث كأنما في السلك تنضم لؤلؤا منثورا

وجمعت من أبناء عقبة باقة نضراء عابقة ترف زهـــورا

قدمتـــها للشعب منك هديــة حسنى فكاد بها يطير سـرورا

فعليك منه تحيـــة مرفـــوقة بالشكر ما تلت الدهورا دهورا

مذهبه الـفقهي:

إنّ الأصول التي بنى عليها شيخنا علمه هي أصول مذهب إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى ولكن كان شيخنا متضلعا في باقي المذاهب فكان ينقل من أي مذهب شاء متى شاء، فكان لا يفتي دائما بمذهب الإمام مالك بل قد يخالفه في كثير من الأحيان إذا رأى أن الراجح خلاف ما ذهب إليه الإمام فحاله في هذا حال كل العلماء المنصفين المتجردين عن التعصب الذميم والعصبية المقيتة التي ذمها الإمام مالك نفسه بل ذمها كل الأئمة المقتدى بهم فهذا الإمام مالك يقول :"كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

فهو رحمه الله يدور مع الحق حيث دار لا كحال بعض الذين جاؤوا من بعده من أهل الأهواء من الذين اتخذوا شيخنا ذريعة لعصبياتهم ولبدعهم كي يمررونها على العامة بحجة أن الشيخ قال كذا وكذا أو بأن الشيخ لم يتكلم على هذا الشيء فيقولونه ما لم يقل ويخفون ما قال كذبا وزورا وبهتانا، بل بالعكس تماما فقد كان الشيخ يذم المتعصبة ويمقتهم ويحذر منهم وقد أخبرني بهذا بعض تلاميذه حفظهم الله الذين هم أعرف الناس بمنهج شيخنا رحمه الله.

عقيــدته:

كان الشيخ على عقيدة جمعية العلماء المسلمين(19) أي على عقيدة العلامة بن باديس والإبراهيمي والطيب العقبي وغيرهم.. فهو وإن لم ينضم إليهم فقد كان معهم بقلبه فكان كثير الدعاء لهم وكان من مؤيديهم وأنصارهم فيما يقومون به من نشر للإسلام وإعلاء كلمة الله جل وعلا، فعقيدة شيخنا عقيدة سلفية صافية ولله الحمد والمنة

وقد زاره الشيخ جمال عزون في بيته في مكتبته العامرة وكان فضيلة الشيخ لزهر سنيقرة كلما زار المنطقة التي هي بلده الأول يزور الشيخ ويجلس معه

كما كان الشيخ في دروسه يقرر التوحيد ويفهمه للعامة ويحذرهم من الشرك والبدع من الطروقية وغيرها من الجماعات البدعية المنحرفة بل كان من أعرف الناس بمساوئها، كان يحذر الناس من تعظيم القبور ودعاء أصحابها والذبح والنذر لها وصرف أي نوع من العبادة لها بل دعا إلى هدم هذه القبور التي تعبد من دون الله التي كانت تنتشر في هذه المنطقة لكن سنة الله في عباده المصلحين بل في من هم أفضل منهم أنبياؤه أنهم يعادون ويضيق عليهم بل و يؤذون أيضا فشيخنا رحمه الله صحيح أنه كان عند جل أهل المغير المرجع في الفتوى إلا أنه لم يؤخذ برأيه في كل ما دعا إليه ولعل هذا هو السبب في أن شيخنا لم تظهر آثار دعوته جليا فلم يترك طلبة ينشرون علمه من بعده ويحملون عنه مشعل الإصلاح في المنطقة.

والزائر لمكتبته رحمه الله يجدها تعج بكتب العقيدة السلفية الصافية ككتب شيخ الإسلام بن تيمية وتلميذه بن القيم عليهما رحمة الله إلى غير ذلك من كتب علماء السلف المتقدمين، والذي يجب أن يخص بالذكر احتواء المكتبة على كتب الأئمة النجدية مثل كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبناؤه ككتاب ثلاثة الأصول وكتاب التوحيد وكشف الشبهات والقواعد الأربع وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد وكتاب "عقيدة الموحدين والرد على الضلال والمبتدعين "جمع الشيخ عبد الله الغامدي وتقديم العلامة بن باز وهو كتاب جمع فيه صاحبه مجموعة من رسائل أئمة الدعوة النجدية. وغيرها من كتبهم رحمهم الله.

بل إن المكتبة تحوي على بعض كتب العلماء السلفيين المتأخرين ككتب ابن باز وابن عثيمين والألباني وأحمد شاكر وغيرهم ككتاب: التوسل أنواعه وأحكامه للعلامة للألباني رحمه الله .

وكتاب رسائل الجزائري ومنهاج المسلم لأي بكر جابر الجزائري

وكتاب منزلة السنة في التشريع الإسلامي للعلامة محمد أمان الجامي

وكتاب منهج السلف في العقيدة للشيخ صالح بن سعد السحيمي

ووجدته في أحد الكتب يهمش وينقل كلام العلامة الألباني في التوسل والشفاعة ويقرر ما قاله رحمه الله

وكل هذا يدل على سلامة عقيدة شيخنا رحمه الله

مكتبته العامرة ومؤلفاته القيمة:

" كان الشيخ قد استغرق معظم بل جميع مراحل عمره في الاعتكاف على الحث والقراءة، وكان الكتاب أنيسه أينما حل وأينما ارتحل ...وما كنت تلقاه حيث تلقاه إلا والكتاب بيمينه فقد كان من أبرز المترددين على دور الكتب والملازمين لها فأنت إن سألت في إقامته وجدته في غرفة مكتبته، وإن بحثت عنه في خارج منزله فإنك واجده بإحدى مكتبات المدينة وقد كان له في كل بلدة استقر بها أو حام حولها صلة بواحدة أو اثنتين من مكتباتها"(20)

فرغم أن الاستعمار الفرنسي الغاشم قد أحرق مكتبته التي كانت تعج بالكتب والمخطوطات وهذا سنة 1957 م إلا أن الشيخ ترك مكتبة ضخمة جمعها طيلة سنوات طلبه للعلم ضمت مجموعة ضخمة من المخطوطات النادرة والكتب القيمة التي يحتاجها طالب العلم والعامي في مختلف أنواع العلوم
هذه المكتبة الضخمة تركها الشيخ وقفا لله جل وعلا و أوصى أن يسمح لكل من يريد دخولها والاستفادة منها. لكن بعد أن فقدت بعض المخطوطات والكتب اضطر أحفاده أن ينظموا أوقات الزيارة مع بعض المراقبة لكل من يدخلها وقد بوبها ونظمها حفيده البار عبد الوهاب ليسهل الانتفاع بها جزاه الله خيرا

إضافة لكل هذا فإن الشيخ قد ترك العديد من المؤلفات القيمة النادرة في موضوعها نذكر منها(21) :
1-" قيد الأوابد بحياة خالد" يقع في 38 صفحة من القطع المتوسط وهو أول ما كتب الشيخ
2-"تذكرة أولي الألباب بملخص تاريخ بسكرة والزاب" وهو مخطوط يقع في 29 صفة من القطع الكبير
3-"تجريد تخريج الأحياء عن الإحياء"وهو تخريج لأحاديث علوم الدين للحافظ العراقي ،وعدد أحاديثه بإحصاء الشيخ بلغت 4593 حديثا

4-"إسعاف السائل برؤوس المسائل" وهو كتاب في الحديث

5- "الهمة في ما ورد في العمة" (أي العمامة)

6- أعلام منطقة الزيبان" ضم 26 ترجمة لبعض علماء بسكرة طبع في إطار جمعية أضواء بسكرة وتم توزيع أكثر من 1000 نسخة منها في 24 صفحة

7-"القصاصة في جمع أشتات أصحاب الخلاصة "وهو كتاب خاص بتراجم بعض الصحابة رضي الله عنهم-

8-"الإعلام بما اتفق عليه الستة الأعلام من الأحاديث والأحكام"وهو كتاب في الفقه

9-"تجريد المجلى من المحلى"وهما كتابان للعلامة ابن حزم الظاهري رحمه الله

10- مسند أبي هريرة " جمع فيه مرويات أبي هريرة رضي الله عنه لكنه لم يكمله

11-"كلمات وجيزة عن بعض ما جاء في الأرجوزة"وتحوي 07 صفحات من القطع الكبير وهي شرح لأرجوزته المسماة"حصول الرغبة في رفع النسبة"وتشمل42 بيتا

ومن أهم المحاضرات التي ألقاها رحمه الله وهي كثيرة:

-"هذا عقبة وهذه مدينته

-عقبة بن نافع القائد المظفر" وهي عبارة عن محاضرة ألقاها في مدينة الفاتح عقبة بن نافع
--"مناظرة بينه وبين مصطفى شريط الزريبي"

-" قصة الاشتراكية" وهي محاضرة انتقد فيها الماركسية وقد أشار إليها ابنه عقبة حبه في مداخلته أثناء فعاليات الندوة الفكرية الثامنة التي نظمت بالوادي وتم خلالها تكريم والده رحمه الله
-محاضرة حول بلدة المغير التي استقر بها إلى حين وفاته

-محاضرة عن صديقه الشاعر محمد العيد آل خليفة في أربع صفحات من القطع الكبير
وغيرها كثير من مقالات علمية ومحاضرات ...

ومما يؤاخذ على شيخنا رحمه أنه لم يسعى في طبع هذه لمخطوطات رغم أن فترة السبعينات والثمانينات شهدت نهضة كبيرة في ميدان الطبع فلا تزال هذه الكتب القيمة الفريدة في موضوعها مخطوطات أغلبها لم يطبع وبعضها الآن عند ولده البار عقبة وكثير منها فقد وقد عرضت يوم وفاته فبلغت 400 مخطوط

وتبقى مهمة الباحثين والمؤرخين بل مهمتنا جميعا البحث والتنقيب عن هذه المخطوطات وتحقيقها وإخراجها كي لا تبقى حبيسة الأدراج وعرضة للتلف والضياع، وعلى كل من لديه بعض هذه المخطوطات أن يرجعها لأبنائه وأحفاده ليستفيد منها الباحثين الجادين

فالله أسال أن يعين على طبعها لترى النور إلى المكتبات ليستفيد منها طلبة العلم، وخاصة منهم أبناء المنطقة المتعطشين لكتب شيخنا رحمه الله فبالرغم من أن بعض الأساتذة والدكاترة جزاهم الله خيرا يحاول المساهمة في نشر علم الشيخ بإقامة بعض المحاضرات إلا أن هذا وحده لا يكفي بل لابد من خطوات فعلية تتمثل في طباعة مؤلفاته وإقامة ملتقيات عنوانها الرئيسي الشيخ عبد المجيد حبه رحمه الله تعالى

الشيخ عبد المجيد شاعرا:

كما كان الشيخ شاعرا مقتدرا ملهما شديد البيان فصيح اللسان رقيق دقيق الوصف. فله ديوان حوا اثنين وثلاثين قصيدة في شتى أغراض الشعر جلها يغلب عليها طابع المناسبات ولكن للأسف فقد ضاع منه الكثير وقد تمكن فوزي مصمودي والأستاذ عبد الحليم صيد من جمع شتاته وإعداده والإشراف على طبعه في إطار جمعية أضواء بسكرة سنة 1997 وقد قاما بتوزيعها بين الرثاء والوطنيات والإسلاميات الإخوانيات ... مثل قصيدة الخريف التي ألقاها عام 1948 م قال فيها22)

سوق حكت ما مضى في سالف الحقب فبينها وعكــــاظ اقــــرب النسـب

كل مباع بها يمسي مبيعا فما ترى كسادا لغير العــــلم والأدب

وذاك أن عكاظا قد حوى عربا بدون عجم وذى عجما بلا عــرب

فعربها استعجموا وما ببربرها من همه أن يقيم المنطق العربــي

لكنما الأمتان قد تواردتا على خلال بهم أفضت إلى الشهب

أليس قحطان من مازيغ كان أخا نمـــاهمــا حضـن أم برة و أب

وإنما المجد شيء حاز معظمه عرب وبـربـر قـدما دون ما كــذب

حدث عن الأمتين نجدة ووفا وحســـن عهد وإحســانا لمغترب

خلال فضل لهم لأجلها امتزجوا في الدين في العرف في الأوطان في الكتب

سل عن صنائعهم أعلاج أندلس وسائل الـــــروم عن أيامهم تجب

فقل لأقزام هود لا لعا لكم وجــاد أرضــكم جـــود من الكرب

ويل أمكم تطمعون أن تلين لكم أسد الشرى إن هذا منتهى العجب

متى رأى الناس صقرا صاده نغر فترتجوا أن تفيئوا اليوم بالغلــب

تالله إن بلاد القدس قدسها من اليهود وبـاؤوا منه بالغضـب

فجمهم سيرى لا شك منكسرا ما بين مستسلم منهم وذي عطب

أما فلسطين لا كان اليهود فلن تنـفـك محمية بنــــــا مـن الـنوب

وفـاته رحمه الله :

بعد عمر طويل مبارك ناهز 81 عاما توفي رحمه الله يوم السبت 21 ربيع الأول 1413هـ الموافق ل 19 سبتمبر 1992 م ودفن مدينة المغير بعد مرض لم يدم طويلا، وكانت جنازته جنازة عظيمة حضرها جم غفير من الناس عامتهم وخاصتهم فقد حضرها والي ولاية الوادي و أعضاء المجلس الولائي وحضرها أيضا طلاب الشيخ من كل مكان من الأوراس حتى ورقلة، ويشهد أهل مدينة المغير أنهم لم يرو جنازة مثلها إلى الآن.

وفي الأخير ما عسانا إلا أن نرفع الأيادي متضرعين لله جل وعلا سائلينه أن يرحم شيخنا وأن يجزيه خير ما يجازي به عباده العالمين العاملين المخلصين إنه سميع مجيب وأن يرسل لهذه المدينة الطيبة وكل هذا الوطن المفدى من يقوم بنشر دينه وإعلاء كلمة التوحيد لآ إله إلا الله لأنه كما قال رائد النهضة الجزائرية العلامة ابن باديس :"من المعلوم عند أهل العلم أن مما حفظ الله به دينه و أبقى به حجته ،أنه لا تنقطع الدعوة إلى الله في هذه الأمة والقيام على الحق والإعلان بالسنن والرد على المنحرفين والمتغالين و الزائغين والمبتدعين، وأن أهل هذه الطائفة معروفة مواقفهم في كل جيل محفوظة آثارهم عند العلماء غير أن غلبة الجهل وكثرة أهل الضلال قد تحول دون بلوغ صوتهم إلى جميع الناس ."

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.