صورة من الذاكرة
بقلم: محمد الصالح الصديق-
في سنة 1948 وفي شهر نوفمبر –على ما أذكر- زار تونس العلامة الشهيد العربي التبسي، وكنت إذ ذاك طالبا بجامع الزيتونة، فاستقبل في محطة القطار من طرف العلامة الشيخ الفاضل ابن عاشور مع نخبة من علماء الزيتونة وأدبائها!
وفي اليوم التالي زار العلامة التبسي شيخ الجامعة الزيتونية الإمام المفسر الشيخ الطاهر ابن عاشور، فاستقبل من قبله بالحفاوة والإكبار، وتحدثا طويلا عن النهضة الفكرية والعلمية بالجزائر!
وقضى التبسي في ربوع تونس أياما وليالي زاهرة، كان واسطة العقد أينما حل، وزار المعاهد العلمية التابعة للجامعة الزيتونية، وألقى فيها كلما مشرقة يزهو بها تاريخ القطرين! ودعي التبسي لإلقاء محاضرة في المعهد الخلدوني، الذي يرأسه العلامة الفاضل ابن عاشور، وقد كنت ممن سعدوا بحضور هذه المحاضرة التي كان موضوعها (الحياة الدينية بالجزائر) وما إن دقت الساعة السادسة مساء حتى كانت القاعة غاصة بالعلماء والأدباء والصحفيين والطلبة، وما إن ظهر علامة الجزائر حتى دويت القاعة بالتصفيق!
ثم قدمه العلامة الفاضل ابن عاشور بكلمة بليغة مثيرة، صور فيها أبلغ تصوير عبقرية الشيخ العربي، والنهضة العلمية الإصلاحية التي تقودها جمعية العلماء المسلمين بالجزائر، ملاحظا أن منبر الخلدونية قد سبق وأن استقبل فطاحل العلم، ومشاهير الأمة الإسلامية أمثال الشيخ محمد عبده والشيخ الحجوي، وختم كلمته بقوله:”فعلى كاهل الإجلال ترحب الخلدونية بضيف تونس الممتاز”!
وإثر ذلك انطلق الأستاذ المحاضر الشيخ العربي التبسي يلقي محاضرته في أسلوب قوي رصين، وفصاحة عربية متميزة، وإحساس ملتهب، وفيض أفكار ومعاني تبهر العقول، وتحلق بها في فضاءات فسيحة مشرقة.
وتحدث بإسهاب عن الحركة الإصلاحية بالجزائر، وعن الثقافة العربية الإسلامية بالمغرب العربي، ودغدغ المشاعر والأحاسيس بإيحاءات عن مستقبل الجزائر، والمغرب العربي بصفة عامة، وكنت لقلة ذات اليد لا أشرب القهوة إلا مرة واحدة في اليوم.
ولكني إثر هذه المحاضرة وما أحدثته فيَّ من نخوة وانتشاء، شربت فنجانا من القهوة ما تزال نكهتها في نفسي إلى هذه الساعة!