نملة بن باديس
بقلم: أ.د. ليلى محمد بلخير-
الحياة ومضات تمضي بك سراعا تخطفك صورها في لحظات غنية ومشعة، وتحملك لعوالم من الفكر والفن مؤثرة تظل تسيطر على ذاكرتك، لا تبرحها مخزونة في داخلك تقتات منها على مر السنين، لا ينضب رصيدها، بل يكبر مع حسن فهمك وتعاطيك معه في تحويل المعنى إلى حقيقة تعيشها، وتتأثر بها من جهة، وتجهد على نقلها للناس من جهة أخرى.
إنها اللغة تلعب لعبتها وتجعلك شئت أم أبيت لعبتها الأثيرة، تشدك إليها، وتأسرك بومضات بديعة وتوليفات مذهلة لم تخطر على بال بشر..إنه قدر من التمازج الوجداني الرهيف بين اللغة والفكر، وتظهر لنا قصة نملة بن باديس رحمه الله كومضة مضيئة لواقعنا اليوم من عمق تفسيره الحركي (مجالس التذكير من كلام البشير النذير) إذ يقول في تفسير آية ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [النمل: 18] “هذه النملة وفت لقومها وأدت نحوهم واجبها فكيف بالانسان العاقل فيما يجب عليه نحو قومه هذه عظة بالغة لمن لا يهتم بأمور قومه ولا يؤدي الواجب، ولمن يرى الخطر داهما لقومه، فيسكت ويتعامى، ولمن يقود الخطر إليهم ويصبه بيده عليهم.. آه ما أحوجنا -معشر المسلمين – إلى أمثال هذه النملة” التفسير ص430
والنملة رغم حجمها الصغير، لها حضور كبير وشاخص متسق مع منشطها ووظيفتها في الواقع، جاءت الصورة مقنعة وغاية في الإمتاع، خاصة عندما يأمل بن باديس حضور وعي هذه النملة في قلب كل حي. إنها نملة ناصحة لا تتهرب من الدور الرسالي الذي خلقت من أجله. نملة دؤوب ارتقت بفاعليتها في الحياة، نتيجة ثقتها في قدرتها على النهوض به، وتغييره للأفضل، لم تحتقر ذاتها ولم تتأثر بصغر حجمها، ولم تستعذب الاستضعاف وتعذب نفسها بعقد نفسية وأوهام تشل طاقتها وتكبل إرادتها. وفي الجملة القرآنية ﴿ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ بعدا إنجازيا كبيرا هي جملة مشحونة بالوعي الحركي الناضج الحصيف، وسرعة تغيير المسار تكيفا مع المتغيرات الجديدة.
إننا بالتأكيد نحتاج لمثل هذا الحس المرهف لبناء الوعي برسالتنا في الحياة، لتعزيز ثقتنا في قدراتنا، ولا نتأثر بالمعطلات والأوهام، نزرعها ونغذيها، لتنبت لنا الحسرة والعذاب يوما فيوم، وساعة فساعة، مادام الدور لا يقاس بالحجم ولا بالشكل والنمط والمضمون الرسالي، الذي طبقته النملة بجدارة لا علاقة له بضخامة اللقب وفخامة الاسم. ومنك يا نملة بادسية التفسير تتجسد الحقيقة القرآنية في القلوب، لتحيا بها وتسير بوميضها في الناس، تحكمهم بها فيحتكمون إليها، كمثل انقياد مجتمع النمل الصغير، لدعوة النملة الرسالية بكل ثقة وحب، مقتنعين أنها حماية لهم وليس طلبا للزعامة.
وهكذا يوضح لنا بن باديس رحمه الله خط القرآن العظيم؛ الخط الحركي الممتد في الحياة العريضة. القرآن والحياة هو صلب حديثنا من خلال قصص وومضات خاطفة. من هنا وهناك في شكل درس عملي تطبيقي، يجعلك تصدقه تقتنع به، وتحبه، مدركا الوجه الأمثل للاستفادة منه ولعمل به، من أجل إعلاء قيمة الكلمة وتحرير طاقتها في بناء الإنسان وصناعة الحضارة.