من صفات وأخلاق الإمام ابن باديس.. (التجديد والتطوير)
بقلم: د. علي الصلابي-
اتصف ابن باديس في سيرته العطرة بصفات الدعاة الربانيين، من الصدق والإخلاص والدعوة إلى الله على بصيرة، والصبر، والرحمة، والعفو، والعزيمة والتواضع، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والنظام والدقة، والزهد، والورع والاستقامة.. الخ ونحاول هنا أن نركز على بعض الصفات التي تميزت بها شخصيته الإصلاحية العظيمة:
التطوير والتجديد:
كان ابن باديس يتصف بنزعة تجديدية ويهتم بتطوير أساليبه الدعوية، حيث حرص على إصلاح التعليم ومناهجه، وكان يرى: أن جامع الزيتونة كلية دينية فلا يكون إصلاح التعليم فيه إلا على مراعاة هذا الوصف الذي هو أساسه وغايته، والرجال الذين يتخرجون من هذا الجامع يقومون بخطط كلها دينية وهم أصناف ثلاثة: رجال القضاء والفتوى، ورجال الإمامة والخطابة، ورجال التعليم، ولكل خطة من هذه الخطط وسائل خاصة لتحصيل الكفاءة فيها والاضطلاع بها، وإن من المعلوم أن ما يحتاج إليه القاضي والمفتي من سعة الاطلاع على الأحكام وتمام الخبرة بتطبيقها على النوازل؛ غير ما يحتاج إليه الإمام الخطيب من المقدرة على إنشاء الخطب وحسن المعالجة بها لأمراض وقتها وقوة التأثير بها على سامعيها المعالَجين بها؛ وغير ما يحتاج إليه المعلم من معرفة أساليب التفهيم وفهم نفسية المتعلمين وحسن التنزل لهم والأخذ بأفهامهم إلى حيث يريد بهم، حسب درجتهم واستعدادهم، فلهذا نرى أن أول عمل في الإصلاح هو تقسيم التعليم في الجامع إلى قسمين: قسم المشاركة وقسم التخصص.
ـ فأما في قسم المشاركة فيتساوى فيه المتعلمون في المعلومات على طبقاتهم، ويحصل الفائزون في الامتحان بعد تمام مدة التعليم التي لا تقل عن ثماني سنوات على شهادة عالم مشارك، بدلاً من لفظة «متطوع»، فإنه لفظ مات معناه وذهبت قيمته بذهاب الوقت الذي وضع فيه والمناسبة التي اقتضته.
وأما قسم التخصص فيفرع إلى ثلاثة فروع:
فرع للتخصص في القضاء والإفتاء.
وفرع للتخصص في الخطابة.
وفرع للتخصص في التعليم.
وبعد تمام المدة التي لا تقل عن أربع سنوات في فرع القضاء والإفتاء، وعن سنتين في فرعي الخطابة والتعليم ينال الفائزون في الامتحان شهادة التخصص بالعالمية فيما فازوا فيه.
ثم إن المعلمين في قسم الاشتراك يكونون من الحائزين على شهادة التخصص في التعليم، وكذلك المعلمون في فرع التخصص للتعليم، وأما المعلمون في فرع القضاء والفتوى فلابد أن يكونوا ممن تخصصوا فيهما وتخصصوا في التعليم وكذلك المعلمون في فرع الخطابة.
ثم قال ابن باديس: هذا رأينا في مسألة التقسيم.
وأما مسألة الفنون وكيفية تعليمها، فنرى أن يشتمل منهاج التعليم المشترك:
ـ على اللغة والنحو والصرف والبيان بتطبيق قواعد هذه الفنون على الكلام الفصيح ـ لتحصيل الملكةـ وأما قراءتها بلا تطبيق ـ كما الجاري به العمل اليوم ـ فهو تضييع وتعطيل وقلة تحصيل.
ـ وعلى تاريخ الأدب العربي وعلى تعلم الإنشاء وعلى تعلم حسن الأداء في القراءة وإلقاء الكلام.
ـ وعلى العقائد، ويجب أن تؤخذ هي وأدلتها من آيات القرآن فإنها وافية بذلك كله، وأما إهمال آيات القرآن المشتملة على العقائد وأدلتها والذهاب مع تلك الأدلة الجافة؛ فإنه من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ـ وعلى الفقه، ويجب أن يُقتصر فيه على تقرير المسائل دون تشعباتها، ثم يترقى بهم إلى ذكر بعض أدلتها.
ـ وعلى أصول الفقه، مسائل مجردة ثم يترقى إلى تطبيقها على المسائل الفقهية، لتحصل لهم من هذا ومن ذكر أدلة المسائل الفقهية كما تقدم ملكة النظر والاستدلال.
ـ وعلى التفسير، يكون بسرد الجلالين على المتعلم وهو يبين ما يحتاج للبيان. والمقصود من هذا أن يطلع المتعلم على التفسير بفهم المفردات وأصول المعاني بطريق الإجمال.
ـ وعلى الحديث، بقراءة الأربعين وغيرها سرداً على الطريقة المتقدمة في التفسير.
ـ وعلى دروس التربية الأخلاقية، يعتمد فيها على آيات وأحاديث وآثار السلف الصالح.
ـ وعلى التاريخ الإسلامي على وجه الاختصار.
ـ وعلى الحساب والجغرافيا بأقسامها.
ـ وعلى مبادئ الطبيعة والفلك والهندسة.
وإذا لم يكن في الشيوخ المعنيين من يقوم ببعض هذه العلوم فلنأت بأمثال إخواننا المطربسين من تونس أو من مصر إن اقتضى الحال.
وأما فرع القضاء والفتوى من قسم التخصص، فيتوسع لهم في فقه المذهب، ثم في الفقه العام، وتكون «بداية المجتهد» من الكتب التي يدرسونها ويدرسون آيات وأحاديث الأحكام ويدرسون علم التوثيق ويتوسعون في علم الفرائض والحساب ويطلعون على مدارك المذاهب حتى يكونوا فقهاء إسلاميين ينظرون إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة لا من عين المذهب الضيقة.
وأما فرع الخطابة، فيتوسع لهم في صناعة الإنشاء والاطلاع على أنواع الخطب ويدرسون آيات المواعظ والآداب وأحاديثهما، ويتوسعون في السيرة النبوية، ونشرة الدعوة الإسلامية، ويمرّنون على القاء الخطب الارتجالية.
وأما فرع التعليم، فيتوسعون في العلوم التي يريدون التصدي لتعليمها مع تمرينهم على التعليم بالفعل، ومدارستهم للكتب الموضوعة لفن التعليم.
هذه أصول ما نراه من كيفية الإصلاح بجامع الزيتونة المعمور، وهي وإن لم تكن وافية بالتفصيل، فإنها كافية في مقام الأعمال، ولعل اللجنة الموقرة تعيرها التفاتاً فتزنها بميزان العدل والإنصاف فعساها واجدة فيها بعض ما يفيد.
لقد استطاع ابن باديس أن يقوم بحركة تجديدية سارت على منهج منظم استوحاه من السنة النبوية والتوجيه القرآني وروح العصر، وهو في هذا المجال يسلك المنهج العلمي فيشخص المرض أولاً ثم يتبعه بالعلاج، يعترف للشيخ محمد عبده بأنه: أول من نادى بالإصلاح الديني نداء سمعه العالم الإسلامي كله في عصرنا. ومن عدل الله وحكمته أن كان مبعث هذه الدعوة الإصلاحية هو مصر التي هي مبعث أكثر البدع والضلالات الاعتقادية والعملية، تؤيدها الحكومات فصارت رسمية في نظر المسلمين، وجاء الأزهر على دين الدولة وهوى العامة يقر علماؤه الضلالات بسكوتهم بمشاركتهم العملية وتأييدهم الفعلي والقولي.
أما الجامعان الآخران في شمال إفريقيا وهما الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب فهما شرّ الثلاثة كما قال الشاعر. وكيف يكون حال العالم الإسلامي ومراكزه العملية الدينية في ذلك الضلال المبين؟ ومضى ثلث قرن والدعوة تنتشر وتتقدم ولكن لم تقم في الأمة الإسلامية هيئة علمية منظمة تعلن الدعوة إعلاناً عاماً وتصمد للمقاومة غير الأمة الجزائرية، فكان من علمائها الأحرار المستقلين الذين لا يعيشون على الوظائف، من جاهدوا وصابروا وأسسوا أعظم مؤسسة دينية حتى أصبحت الدعوة ثابتة الأركان وارفة الظلال لا على الجزائر وحدها بل على الشمال الأفريقي كله.
المراجع:
1- علي محمد الصلابي، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج (2)، دار ابن كثير، دمشق –بيروت، ط(1)، 2016م، ص. ص (165-168).
2- مازن صلاح مطبقاني، عبد الحميد بن باديس العالم الرباني والزعيم السياسي، ص.ص (36-37)، (41).
3- محمد الدراجي، عبد الحميد بن باديس بعيون العلماء والأدباء، ص79.