بين مصلحين: عبد الحميد بن باديس والطيب العقبي
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
من الأخطاء التاريخية المتداولة عند بعض الكُتاب والباحثين قولهم أن الشيخ الطيب العقبي قاطع صديقه الشيخ عبد الحميد بن باديس في عام 1938 بعد انسحابه من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومات وهو غضبان عليه. وهذا الرأي لا أساس له من الصحة، ومن الأدلة على ذلك مقال كتبه الشيخ العقبي غداة وفاة ابن باديس في 16 أبريل 1940، والذي نتطرق إليه لاحقا.
جريدة “الإصلاح” في سطور:
نشر الشيخ الطيب العقبي ذلك المقال في جريدة “الإصلاح” في عددها 23، الصادر في 8 ماي 1940، في الصفحة الأولى. وقد أصدر الشيخ العقبي هذه الجريدة الإصلاحية في 8 سبتمبر 1927 بمدينة بسكرة.
وتوقفت الجريدة عدة مرات لأسباب مطبعية ومالية وإدارية، وظهرت للمرة الرابعة بمدينة الجزائر في 10 أبريل 1947، ثم توقفت نهائيا في 3 مارس 1948 بعدما صدر منها 73 عددا.
وقد ساهم في تحريرها عبر مراحلها المختلفة العديد من الكُتاب الجزائريين، أذكر منهم: مبارك الميلي، أبو يعلى الزواوي، محمد السعيد الزاهري، محمد العيد، أحمد توفيق المدني، الأمين العمودي، محمد الهادي السنوسي، وأبو بكر جابر، وغيرهم. كما فتحت الجريدة صفحاتها لكُتاب من المغرب وتونس.
أما موضوعاتها فهي متنوعة بين القضايا الدينية والكتابات الأدبية والدراسات الاجتماعية والمسائل السياسية. وكانت تنقل أيضا من حين إلى آخر مقالات مقتبسة من الجرائد والمجلات العربية المرموقة التي يصعب على القراء الجزائريين الوصول إليها.
أغتنم هنا ذكرى وفاة ابن باديس لنشر هذا النص كما هو رغم بعض الكلمات التي يمكن أن يتحفظ عليها بعض رجال الإصلاح أو يعارضها بعض الباحثين، وغايتي هي الإسهام في وضع العلاقة بين الرجلين في مكانها المناسب دون إهمال ذكر اختلاف وجهات نظرهما تجاه بعض القضايا التي لم تفسد الود بين المصلحين. كما عبّر النص عن روح ذلك العصر الذي خاضت خلاله الفكرة الإصلاحية معارك على جبهات مختلفة بوسائل وإمكانات محدودة وأثرت على بعض المصلحين تأثيرا كبيرا مثل الشيخ العقبي والشيخ محمد السعيد الزاهري.
العقبي يكتب حول ابن باديس
«وردت علينا ولا زالت ترد التعازي الكثيرة (شفاهية وبرقية وكتابية) من الإخوان المصلحين في داخل القطر وخارجه؛ وتقدم لنا بالتعزية أيضا إخوان آخرون حتى من غير المسلمين!
وما كان ذلك منهم إلا لما يعلمونه من الصلة المتينة والرابطة القوية التي بيننا وبين الفقيد العزيز- رغم كل ما قيل وما عسى أن يقال- وقد أدرك الجميع أن أعرف الناس بمقام الأستاذ وفضله غنما هم إخوانه في الفكرة الإصلاحية؛ ومبادئ جمعية العلماء التي هي مبادئ الإسلام الصحيح؛ وعقيدة الحق الخالدة؛ وفي مقدمتهم ومن أوفاهم لإخوان وأرعاهم للعهد-ولا فخر- صاحب هذه الجريدة فلا غرو أن يتوجّه إليه الكثير من المصلحين الذين عرفوه بهذه الصفة-صفة الوفاء ورعاية العهد- بتعزيتهم له في هذا المصاب الجلل والخطب الذي آلمه وأثر عليه بأكثر مما أثر في نفسه وآلمه أي مصاب من قبله.
ومن من الناس يستطيع التفرقة بين قلوب أولياء الله وأنصار الحق؛ تلك القلوب التي اجتمعت عليه واتفقت على محبة دينه والإيمان به؟ وما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان كما كان يقول الفقيد نفسه. ومن هو الذي يقدر أن ينسينا عهد صداقة ومحبة لسبع عشرة سنة كانت لله وفي الله؟!
لا ! لا أحد يقدر على ذلك سيما بين العلماء المصلحين وهم هم إخوان الصفاء؛ أخدان الصدق والوفاء؛ كلما حصحص الحق؛ وتجلى للعيان موقف الامتحان والصدق؛ ذلك لأنهم على حب الله ورسوله اجتمعوا؛ وفي توحيد الله اتحدت قلوبهم؛ وما اجتمعوا ولا تفرقوا؛ ولا اتفقوا في الرأي ولا اختلفوا؛ إلا وهم كل امرئ منهم وغرضه الوحيد إنما هو حب الخير والحرص عليه والعمل على نفع العموم والتعاون على البر والتقوى؛ والتفكر في إصلاح ما أفسد الناس في هذا المجتمع الجزائري الحزين البئيس…
فحق لمن عرفنا بمبادئ الحق والصدق هذه وعرف الأستاذ ابن باديس رئيسا لجمعية العلماء التي لقينا في سبيلها وسبيل التضامن مع رئيسها وكل مرؤوسيها ما لم يلقه غيرنا أن يعتبرنا من أولى الناس به وأولهم في تلقي التعزية بمصابه العظيم؛ ورزئه الأليم؛ وأن يقدر قدر حزننا العميق المحرق على موت الأستاذ وفقده.
وحق لنا أن نألم أكثر مما ألمنا؛ ونأسى ونأسف أكثر مما أسفنا وحزنا؛ فقد جل الخطب وعظم مصاب المصلحين بفقده. ولكن ما الحيلة فيما لا حيلة فيه؟ ومن ذا الذي يرد قضاء الله المحتم إن دهمه؛ ومصيبة الموت إذا هي فاجأته؟! والله يقول لسيد الخلق وأشرف العباد: لا إله إلا الله الحليم الكريم؛ لا إله إلا الله رب العرش العظيم. سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.
إن موت الأستاذ عبد الحميد بن باديس ليس بحادث جزائري فقط بل هو في نظرنا ونظر كل من يقدر للشخصيات قدرها، ويعرف قيمة الرجال حادث إسلامي عالمي، ولا نرى مبالغة في المقارنة بين فقيدنا وفقيد الشرق الشيخ رشيد رضا رحمهما الله لولا أن مصر غنية بالرجال وبلادنا فقيرة جدا، وجد فقيرة من الرجال!
بموته نكب العلم؛ نكب الإسلام؛ نكبت الجزائر التي كانت علقت على علمه الصحيح وعمله النافع أجمل الآمال ورزئت فيه وقت طمعها في قرب تحقق تلك الآمال… لقد كان لوقع نبأ وفاته في نفوس كافة المصلحين بهذه الديار ما يعلم مقداره وأثره كل من يمت إلى الإصلاح والمصلحين بسبب.
وإذا كان حضور الجنازة شرعا إنما هو فرض كفاية فقد رآه أو كاد يراه المصلحون بالجزائر فرض عين عليهم، ولقد أسفنا كثيرا لتعذر أداء ذلك الواجب وإلى الله المشتكى. فاكتفينا اكتفاء العاجز المستسلم للقدر بإرسال برقية عزاء إلى الإخوان والتلاميذ بقسنطينة وإن كنا نحسب أنفسنا أولى أو من أولى الناس بتلقي مراسم التعزية والمشاركة بالقسط الأوفر في هذا المصاب، ثم كتبنا في العدد الأخير من الجريدة النزر الذي تيسر لنا تحريره ونشره في موضوع جدير بأن تكتب فيه لا المقالات الضافية فقط بل الأسفار والمجلدات؛ وأشرنا إلى استعدادنا- ولا فضل ولا منة لنا على أحد- لإدراج كل ما يرد علينا في ترجمة الفقيد العزيز ووصف موكب جنازته وغير ذلك.
كتبنا ما كتبنا وانتظرنا. انتظرنا ما يقرب من الأسبوعين ولم نتصل من الإخوان الكثيرين القاطنين بتلك النواحي بشيء ذي بال في الموضوع…فأخذ منا العجب مأخذه سيما من الإخوان الأفاضل أقطاب الحركة الإصلاحية وأساطين جمعية العلماء التي ضربت في الصميم بموت رئيسها الموقر. كيف لم يكتبوا ولم يجد أحد منهم بنفثة قلم؟! ولا ندري هل هذا قصور منهم أم تقصير؟ فإن كان الأول فلا يمكننا أن نعلله إلا بالضعف والفتور اللذين اعتريا الإخوان على أثر الحادث الجلل. ونتمنى ونأمل أن يزولا عنهما في أقرب مدة وأن يستردوا قواهم البدنية والفكرية ويكتبوا ما نعدهم وعدا صادقا جديدا بنشره قياما بواجب اعتبرناه أمس ونعتبره اليوم واجبا رغم قصور الجماعة “المؤقت”. وإن كان الثاني (التقصير) فإننا نكل للمستقبل أمر توضيح أسبابه وكشف الغطاء عن علته الحقيقية والمستقبل كشاف.
مات ابن باديس ودفن مبكيا مأسوفا عليه؛ فلتمت ولتدفن لا مبكية ولا مأسوفا عليها حفائظ وحزازات وأحقاد كونتها أغراض شخصية ومقاصد سيئة لمن يلذ لهم دائما الاصطياد في الماء العكر؛ وليتقوا الله في أنفسهم وفي إخوانهم المسلمين الذين هم في هذا الوقت أحوج ما يكونون إلى الإتحاد والاتفاق وجمع الكلمة، وليعلموا أن بلادنا الفقيرة من الرجال العاملين كلما فقد منها رجل من رجالها القليلين تفقد معه ناحية من الكمال لا يقدر غيره على تعويضها؛ وسد الفراغ الذي يترك من وراء فقدها.
وبعد هذا كله فلينته المرجفون في المدن والقرى عن أراجيفهم وباطلهم وليعلموا أنا وهم ميتون؛ وإنا إلى الله جميعا راجعون!!» انتهى.
كلمات على هامش المتن:
لم يقتصر الشيخ الطيب العقبي على نشر هذا المقال حول صاحبه في دروب الدعوة والإرشاد الإمام ابن باديس، فقد خصص صفحات من جريدته “الإصلاح” لنشر مقالات حول ” أثر فاجعة الأستاذ عبد الحميد في نفوس المصلحين” على حسب تعبيره.
كما دعا الشيخ العقبي أصدقاء الإمام ابن باديس وتلامذته إلى «أن يخلدوا الراحل الكريم بسفر تذكر فيه كل نواحي حياته وتحلل فيه نفسيته وتسجل فيه كلماته المأثورة وجمله ووصاياه المنقولة؛ وما ترك وخلف من تراث علمي وأثر أدبي». وقد جاءت هذه الدعوة للاستكتاب في الفترة التي توقفت فيه كل الجرائد العربية آنذاك بسبب أحداث العرب العالمية الثانية.
لا شك أن الشيخ العقبي كان يسعى من وراء كل ذلك إلى التأكيد على صفة الوفاء للصديق ورعاية العهد للأخ، والرد الصريح على كل الذين عاتبوه على عدم حضور جنازته وتأويلها تأويلات خاطئة.
وفي هذا السياق نشر رسالة أرسلها إليه الشيخ حمزة بوكوشة، وعلّق عليها مباشرة لرفع اللبس، وبرّر غيابه بعدم سماح سلطة الاحتلال بمغادرته الجزائر العاصمة، ومنعه من التنقل إلى مدينة قسنطينة لحضور جنازة الشيخ ابن باديس.
لم يكن ذلك المقال المنشور في 8 ماي 1940 وليد لحظة عاطفية تأثر خلالها الشيخ العقبي بفراق صديقه ثم نسيه بعد ذلك، بل واصل فيما بعد نشر مقالات لها صلة بابن باديس حررها كُتاب جزائريون. كما نشر أيضا في عام 1947 بعض رسائل التعزية التي وصلته من المشرق العربي في عام 1940، لكن إدارة الاحتلال منعته من نشرها حينئذ في جريدة “الإصلاح”، فاحتفظ بها 7 سنوات، ولما تحصل على رخصة إعادة إصدار جريدته بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بادر بنشرها أداء للأمانة وتخليدا لذكرى الشيخ ابن باديس الذي أشادت أيضا بعظمته شخصيات عربية مرموقة.