يوميات تلميذ في معهد ابن باديس أيام لابد أن تروى 3
بقلم: نورة بوحناش-
كم أنت جديرة بالتضحية يا جزائر، كم أنت جميلة وجليلة يا سكني ويا موطني
1 – الأيام الأولى في مدينة قسنطينة: بالسفر إلى قسنطينة، يكون الفتية الثلاثة قد ابتعدوا عن مرابعهم، حيث حياة البساطة والألفة بالقريب، وحيث جمعوا بين الحب والتآخي وشظف العيش، فلم يكن بين ساكني تلك القرى من يتعالى على غيره، كما لم يكن بينهم من بات شبعانا وجاره جائعا.بعد حلولهم في قسنطينة جمع الفتية أمرهم على العيش في هذه المدينة على المآخاة والتعاون، والرفقة الطيبة، كانت تلك هي حياة الناس الأخلاقية الأصلية في القرى والأرياف الجزائرية، قبل أن تفسدها الاعتبارات المادية، التي حلت بدل العلاقات الإنسانية الفطرية، وقد كانت تجمع بين الناس قديما، قيم جميلة توارت مع تواري بساطة الحياة، ونضوب معين الإيمان الصادق والإخلاص.
عندما ابتعدوا غدت ذكرى المكان بعيدة ممتدة مسافة طويلة ومديدة، وكأن دهرا قد فصل هؤلاء الفتية عن ذويهم وعن رؤى مناظر جبال ووديان تمثل بالنسبة لهم ألفة بالمكان ومعنى للزمان. تذكر سي عمرو مشاعر لحظات الانفصال عن المكان وعن الإنسان، قائلا:" كم كان صعبا ذلك الفطام الذي شعرنا به، ونحن صغار ننتقل من أجل الدراسة في معهد ابن باديس، بعيدا عن الأهل والديار، ولكن طلب العلم كان حدثا جللا بالنسبة إلينا، على الرغم من أننا لم نكن ننتظر من عناء السفر والبعد عن الديار وكلفة العلم جزاء ولا شكورا".
كان يختزن في ذاكرة التاريخ المنسي لهؤلاء المورسكيون الجزائريون، أن الله قد شهد بوحدانيته وبملائكته وبأولي العلم مقاما مبجلا في الدنيا، وجليلا في الآخرة، " فقد خصهم الله تبارك وتعالى بعلمه، وقرن شهادتهم في الكتاب العزيز بشهادته وشهادة ملائكته"(ابن رشد:الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة،ص 113 ).
لذا فمنازلهم فوق كل المنازل، وطالب العلم أرقى الطلاب، فعلاقة العلم بالدين مكينة وعميقة، ولأجلها يسعى الساعون.
حل التلاميذ في المدينة، وساروا في شوارعها، وسكنوا في أحد بيوتها العربية، فما عليهم الآن سوى التفكير وبحرص في كيف يكون العيش المناسب في هذه المدينة، التي يجهلونها تماما وقد حلوا فيها لأول مرة، إذ لم يسبق لأحدهم أن زارها. فعزموا التدرب على المسؤولية والاعتياد على الحياة الجديدة، والتي لن تكون سهلة وميسورة. هم اليوم تلاميذ في معهد ابن باديس، يترددون للدرس فيه، ويتخذون تدابير الحياة اليومية بمفردهم.كما كان عليهم الحفاظ على تلك الأخلاق القروية التي رسخت في أفعالهم، وهم يعلمون جيدا أن زمان الريف غير زمان المدينة، وأن أخلاق القرية تختلف عن أخلاق المدينة، فحرصوا على الاستقامة وأخلاق الطيبة.
بين حنايا المشاعر خبأ هؤلاء القرويون الصغار في القلب، تلك الألفة المعتادة وذلك الحنو المنتشر، كمنطلق للروابط الإنسانية بين ساكنة القرية التي ولدوا وتربوا فيها. لذلك كانت علاقات الأخوة والإيثار هي الرباط المكين فيما بينهم، فهم فتية صغار يحترم بعضهم بعضا، لذلك كانوا يترافقون في كل المهام التي يؤدونها ويذهبون ويجيئون إلى الدرس معا، فغمرهم شعور الأخوة وروح العائلة الواحدة، هي القيم التي كفلت وحفظت وجودهم في غربة المكان، وحافظت عليه. وهكذا عوضت الرفقة الطيبة مشاعر الوحشة التي كانت تنتابهم بين الفينة والفينة عند ذكر مرابعهم، ذكرى ترق معها قلبوهم وتدمع عيونهم شوقا للأمهات والآباء وكل قريب زرع نظارة الحب في مشاعرهم.
كان الفتية غرباء في المدينة، أليس بين القرية والمدينة تطوى مسافات شاسعة، ويتغير الشعور وتتبدل الشخصية؟ كان المكان غير مألوف لهم والحياة مختلفة إلى حد بعيد. ففي قريتهم كان الرومي بعيدا لا يزورهم إلا في حالات نادرة وخاصة، أما في شوارع قسنطينة فكان سيدا يسكن في أفخم العمارات ويقطن في المساكن الفارهة، وأولاده يدرسون في مداس نظامية لا يدخلها من الساكنة الأصليين إلا من كان له الولاء لفرنسا. وكانت ثانوية الحرية مكانا أثيرا للعلم يرتاده أولادهم ويتعلمون فيه علوما لم تكن ممكنة في معهد ابن باديس.
يذكر سي عمرو هؤلاء التلاميذ الفرنسيون، قائلا:"كان مظهرهم أنيقا ولباسهم جميلا مختلفا تماما عما كان البقية من الأصليين الانديجان يرتادونه، كان التبيان واضحا بين من احتلوا الأرض وساكنة الأرض، إذ الميسر لهؤلاء لباس قديم يباع في "الدلالة" والجميع يلبس منه فلا مال لهم من أجل كسوة جديدة" بين هؤلاء وأولئك سيحتد الصراع في يوم ما، وتتفجر ثورة نوفمبر 1954، ويردف سي عمرو وقد طبعت ذكريات التاريخ الجزائري مخيلته قائلا:"كان معظم تلاميذ المعهد قد التحقوا بالثورة، إذ المعهد كان خزان لثورة نوفمبر، كما أن معظمهم قد استشهدوا، ولا يزال يذكر أسماءهم واحدا واحدا فقد درسوا معه ورافقوه في المعهد وفي جبال الجهاد من أجل الجزائر " وهي شهادة عيان لا يزال صاحبها على قيد الحياة. لقد كان نضال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين نضالا نوعيا، فقد فسح مجال التعرف على الذات واسعا، لذلك تم عقد العزم على إحياء الجزائر مادام شعبها مسلم وإلى العروبة ينتسب.
هكذا كان شهر أكتوبر 1951، مجال الذكرى الراسخة في خبايا الحياة البعيدة لذلك التلميذ القروي الذي انتقل من مشاتي وادي النجا إلى هذه المدينة العتيقة والعتيدة طلبا للعلم.كانت تلك هي الأيام الأولى التي رأى فيها مدينة بشوارعها المبلطة وجسورها المعلقة، كم أنت جميلة يا قسنطينة يترامى تاريخك طويلا مبهما، تتمازج فيه الرموز الإنسانية، ولكن أغتصبك أيتها العروس المخضبة غزاة جبابرة، فانتهكوا حقوق كل المارين وجعلوك مدينة فرنسية غصبا، فبكت مآذنك وارتدت شوارعك وشاح السواد.
في تلك الأمسية الأولى من حياة سي عمرو التلميذ في معهد ابن باديس، أنتاب الجميع خوف وغربة وتوجس، فألفة المكان مفقودة، يبدو كل شيء وكل معنى غريبا، المكان، الزمان والإنسان. أوى الفتية إلى الغرفة المخصصة لمعيشهم القادم، كانت غرفة متوسطة لا تضيق مساحتها ولا تتسع، محلها الغرفة بيت عربي في رحبة الصوف، بيت على الطراز العربي التركي القديم كبقية البيوت، التي يسكنها العرب في قسنطينة، طابقه الأرضي عبارة عن مقهى يتسلل عبره ساكنة الطابق الأول، الذي هو مجموعة من الغرف المتراصة جنبا إلى جنب، يقطنها أناس قادمون من أماكن مختلفة، يشتركون جميعهم في حمام واحد، أما عن الطابق الأرضي المقهى العربي فقد كان جالسوه من الأهالي، ألحان موسيقاه ألحان جزائرية، يتذكر سي عمرو رائحة المكان ورواده، فيعثر على أغاني عيسى لجرموني من بين لحظات الذكرى، وعلى طقطقات لعبة الدومينو تعبئ المكان بصوت الفراغ والضجر.كانت التعاسة والفقر علامات الأخاديد البارزة في هذه الوجوه الماكثة في المكان، تبحث عن إجابة عن سؤال الذات والتاريخ.
بهذا استدعت الحياة الجديدة تكاليف الدراسة وتكاليف أخرى وهي تدابير المأكل والمشرب، والفتية فقراء، لن يكن بمقدورهم شراء أكل جاهز أو ريادة المطاعم، فلا مال لهم ينفقونه، كانوا فقراء لذلك كان عليهم الاعتماد على النفس والاكتفاء بما جلبوه معهم من طعام، إنه كيس كسكس وقارورة من زيت الزيتون.أشعل أحد الفتية البابور ووضع قدرا مملوءا بالماء وعندما بدأ بالغليان سكب كمية من الكسكس والملح وعندما نضج سكب عليه زيت الزيتون، فتحلق الجميع على هذه الوجبة وقد أضناهم الجوع أكلوا وناموا بعد ذلك على الحصيرة، يتوسدون بعض ثيابهم ويتغطون بالحنبل الذي تم جلبه من قريتهم، انتهى اليوم الأول والجميع يتجهز غدا لبداية الدروس في السنة الأولى بمعهد ابن باديس.
ستتكرر هذه الحياة عبر تتالي الأيام، سيأكلون كل يوم الوجبة نفسها غداء وعشاء، وفي بعض الأيام يذهبون إلى الحافلة القادمة من مدينة ميلة ليجلبوا قفة فيها كسرة وتلك قصة أخرى تروى في قادم الأيام، لكن ما كان يميزهم هو الجلد والصبر وتحمل الصعاب، وسيدخر سي عمرو بعض النفقات ليشتري كتبا، لكنها أحرقت فيما بعد من قبل الجنود الفرنسيين إبان الثورة عندما كان مطاردا.
2 –الدخول الأول في معهد ابن باديس: في الصباح الأول من الدخول إلى الدرس في المعهد وبالضبط السنة الدراسية 1951/1952 استيقظ الجميع باكرا، سارعوا إلى الحمام الوحيد الواحد تلو الآخر، أكلوا قطعة كسرة يبست من تتالي الأيام ثم انطلقوا في شوارع قسنطينة وجهتهم المعهد، فالدرس ينطلق على الساعة الثامنة تماما، وينتهي على الساعة الحادية عشر، والنظام الدراسي صارم، فلا يجب على التلاميذ التخلف عن الوقت المحدد، وعليهم احترام النظام.
هاهو المعهد يتراءى لهم اقتربوا ودخلوا مع جموع التلاميذ.المعهد عبارة عن بيت كبير، فيه غرف كثيرة مخصصة للدروس، وفي وسطه فناء يسع حركة التلاميذ، وقد تراوحت أعمارهم بين الخامسة عشر فما فوق، لكن دون سن العشرين. لكن يسمح للذين يفوقون هذا السن للالتحاق بالمعهد ولكن بطريقة غير نظامية، أي لا يجتازون الاختبار، ولا يمنحون الشهادات، وهي طريقة ذكية سارت فيها الجمعية لنشر الوعي ومحو أمية الفكر، وزرع الثقة في الشخصية.
دخل الجَمْعُ الذي انسل من كل حدب وصوب، والظاهر أن التلاميذ يتوزعون على كل ربوع الجزائر، فاللهجات تتباين وهو ما سيعرفه سي عمرو بعدما سيحتك بالرفقة، اصطف الجميع أمام أقسام الدرس، يتراوح كل الفوج بين ثلاثين إلى خمسة وثلاثين في القسم الواحد ودخل كل فوج إلى المستوى المخصص له، من السنة الأولى إلى السنة الرابعة.
انتاب القرويون خجل وخوف، فهم يجهلون الجميع، جلسوا في القسم المؤثث بالحصير، في صدره مكتب وكرسي مخصص للأستاذ، ها هو الأستاذ قادم، فوقف الجميع تحية له، فرد التحية ثم أمرهم بالجلوس فجلس الجمع إيذانا ببداية الدروس، أثناء ذلك كان سؤال السريرة المشترك بين الجميع، هو هذه طبيعة هذه الدروس. فهل هي يا ترى تشبه دروس الكتاب والمدرسة في قريتهم؟ أم أن البرنامج سيكون برنامجا جديدا؟ هنا ورد خاطر لعمرو التلميذ يا ترى ما هو الفرق بين دروسنا وتلك الدروس التي تقدم للطلاب الفرنسيين في ثانوية الحرية؟ ما هو الفرق بين علومهم وعلومنا؟ كان التلاميذ في معهد ابن باديس يدرسون رموز الحق الضائع، وبما أنهم كالمورسكيين، فقد سمح لهم المستعمر أن يستعيدوا الذاكرة في حدود المسموح بها، لذلك فهم لن يدرسوا كل العلوم التي تؤهل الإنسان للسيطرة على الطبيعة، أو قل علوم التحكم والقوة التي سمحت لأوروبا بالتقدم والتسلط على الطبيعة والإنسان، لذلك لن تكون الرياضيات، الفيزياء، العلوم، وغيرها من علوم الآلة متضمنة في برامج المعهد، حظ هؤلاء المورسكيين يفوق أقرانهم الأندلسيين، فقد سُمح لهم بتردد الآذان والقيام بالصلوات المفروضة.كما تجاوزوا نحو المحافظة على الشخصية لغة ودينا لكن بمنأى عن الرومي. العجيب أن 130 سنة من الاستعمار الاستيطاني لم تثني المورسكيين الجزائريين عن المحافظة على خصوصيتهم والدفاع عنها.ومشروع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين شاهدا، وتضحية أعضائه دليلا على رجولة الرجال. والحق أن التجنس بالثقافة الغربية الفرنسية خاصة لم يبلغ مبلغه في زمان الاستعمار كما بلغه في زمان مغادرته الأرض، ومعانقته الأذهان.
تخلت فرنسا اللائكية عن محاكم التفتيش، وتحولت إلى دولة علمانية، لكن في خبايا الروح الاستعمارية الفرنسية لا يزال مشروع فرسان المعبد يردد نفسه بوصفه كنه الحملة الاستعمارية على الجزائر، وهو ما نتحقق به في قول الأب (دوفكو) في رسالة لصديقه (فيتس جيمس) سنة 1912 (منشورة في جريدة لوموند بتاريخ 17/05/1956) " إنني اعتقد بأنه إذا لم نستطع تحويل المسلمين بالتدريج عن دينهم وحملهم على اعتناق المسيحية، فإن النتيجة هي تَكَوُّنُ روح قومية جديدة، تؤدي إلى طردنا من الإمبراطورية الاستعمارية في شمال إفريقيا. إن الروح الوطنية، العربية والبربرية سوف تنمو في صفوف الطبقة المثقفة التي ستستعمل الإسلام كسلاح فعال لإثارة الجماهير الجاهلة في إمبراطوريتنا...!! إن السبيل الوحيد لضمان عدم طردنا من هذه الإمبراطورية، هو أن نجعل سكان البلاد فرنسيين، والسبيل الوحيد لذلك هو جعلهم مسحيين"(منقول عن مالك: العفن). لقد استوعبت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الإطار الواسع للمكيدة، وبدأت بعملية استعادة الشخصية، لذلك كان البرنامج العلمي هو فهم من نحن؟ ما هي هويتنا؟ كيف نستردها من أحفاد فرسان المعبد؟
كان الأستاذ الداخل إلى القسم هو الشيخ أحمد حماني في تلك المرحلة لا يزال شابا يافعا، جميل الوجه نقي الثياب متأهبا لتدريس التلاميذ أصول دينهم، هنا انطلق درس الفقه، حسب المذهب المالكي من كتاب ابن عاشر، كان درسا مختلفا تماما عن الدرس الذي قدمت لهم في مدرسة الجمعية في قريتهم، انتبه الجميع للشيخ أحمد حماني واستوعبوا الدرس، فأملى عليهم مختصرات كتبوها في كراريسهم، ولكن الكراس كان فوق الركبتين، فالطاولات غير موجودة، لربما لم تكن ميزانية المعهد كافية لشراء الطاولات والكراسي لكل الأقسام، فبعضها كان مجهزا بها أما الأخرى فمكان الجلوس كانت الحصيرة، التي تذكر بدروس العلماء في تاريخ الحضارة الإسلامية، وتجعل التلميذ حرا في الحركة غير مقيد بالمكان.
كانت ذكرى الأستاذ أحمد حماني مثيرة، فقد انسلت الذكرى إلى لحظة لا تزال تتردد في مخيلة سي عمرو، فقال:"كان الشيخ وطنيا إلى حد لا يوصف، وقد رافقنا عبر السنوات الأربع في المعهد، مدرسا إيانا الفقه، العربية والجغرافيا، وفي سنة 1955، قال لنا من يلتحق منكم بالجبال مجاهدا في الثورة التحريرية، سأهب له خمسة آلاف فرنك، وقد كانت في ذلك الوقت لها قيمة مالية. الحق أن لهفته على نجاح هذه الثورة، هو ما دعاه إلى مثل هذا الموقف "لذلك فأثر الحركة الوطنية في قسنطينة امتزت بعمل الجمعية، وعم الوعي التلاميذ في السنوات القادمة، فخرج معظمهم للالتحاق بالثورة.