ملاحظات أبي يعلى الزواوي على “كتاب الجزائر” تأليف الأستاذ أحمد توفيق المدني
بقلم: محمد بسكر-
" الوطن هو تاريخ الوطن"، كما يقول الأستاذ عبد الرحمن صدقي، و"لا حياة لأمة إلّا بإحياء ماضيها" كما يقول الدكتور هيكل، هاتان العبارتان استشهد بهما الإمام الأستاذ عبد الحميد بن باديس عندما كتب في مجلة الشهاب مُقرظًا كتاب "محمد عثمان باشا داي الجزائر" لمؤلفه أحمد توفيق المدني، وأثنى على مؤلفه، بقوله:« فالأخ الأستاذ المدني...لم يكن كاتبا بليغا ومؤلّفا مبدعا، ومؤرّخا حكيما فحسب، بل كان فوق ذلك من خير من بعثوا أوطانا وأحيّوا أُمما »، وما جانب ابن باديس عين الحقيقة والصواب، فبعثُ الأمم وإحياؤها إنّما يتم بحفظ تاريخها، فتدوين أحداث الماضي بكل ما تحمله أيامه إيجابا وسلبا، هو الخطوة الأولى لفهم وصياغة الحاضر، وتاريخ الجزائر احتكره المؤرخون الفرنسيون فغيّروا حقائقه بما يتماشى وأهدافهم الاستعمارية، فكان من الضروري أن ينبري كتّاب جزائريون لتدوينه وتنحية ما لحقه من شوائب.
• المؤرّخان المدني والميلي:
يرجع الفضل في تدوين تاريخ الجزائر القديم والحديث مطلع القرن العشرين إلى المؤرّخين الشيخ مبارك الميلي والأستاذ أحمد توفيق المدني، جمعتهما زمالة قديمة بدأت بأول لقاء بينهما بتونس سنة 1925م، فوجد الأستاذ المدني في الشيخ الميلي الرجل المتميز، « والحرّ الأبي، الذي وضع حياته في خدمة دينه وشعبه، مدرسا ومحاضرا ومفكرا »، وكان له فضل السبق في تقييد تاريخ الجزائر، فنشر الجزء الأول من تأليفه "تاريخ الجزائر في القديم والحديث"، سنة 1928م، جمعه من المصادر العربية المتحدثة عن الدولة الأغلبية والموحدية والحفصية وغيرها من الأنظمة التي تعاقبت على حكم المغرب العربي، نقب فيها ليستخرج ما له علاقة بالقطر الجزائري ومدنه، وقد تمنى الأستاذ عبد الحميد بن باديس لو سماه « (حياة الجزائر)، لكان بذلك خليقا، فهو أول كتاب صور الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سوية ».
استعان الميلي أثناء تأليفه بالأستاذ أحمد توفيق المدني، وخاصة في مجال ترجمة النصوص، وبينهما مراسلات في ذلك، فكان يبعث له من محل إقامته بالأغواط، ففي رسالته المؤرخة بـ (12/12/1929) أعرب له فيها عن حاجته للمصادر الفرنسية « من حيث المادة والنظام، ومن حيث الاطلاع على مقاصدهم »، أمدّه الأستاذ أحمد توفيق المدني بالمادة العلمية وعرّب له الكثير من النصوص التاريخية من مصادرها الغربية، واجتمع به في الجزائر العاصمة، وقضى معه نحو عشرين يوما في عمل دائم مستمر لمراجعة أصول الكتاب ومقابلة النصوص، قال المدني:« نُحكّمُ مختلف الكتب فيما يتراءى لنا من تناقض أو اختلاف بين مؤرخي الشرق ومؤرخي الغرب ». وما يُؤاخذ عليه الشيخ الميلي في تأليفه "تاريخ الجزائر القديم والحديث " أنّه لم يتطرق لتاريخ العهد العثماني، ولم يُقدِم على معالجة تاريخ عصره؛ أي عهد الاحتلال الفرنسي، « وهو ما جعل الأستاذ المدني يتولى ذلك في كتابه (كتاب الجزائر)، ويركز على العهد الفرنسي أكثر من العهود السابقة له، ويجعله نوعا من كتاب الجيب لتاريخ الجزائر في العهد الفرنسي إلى 1930م ».
• كتاب الجزائر:
وصف الأستاذ "مولود قاسم نايت بلقاسم" الأستاذ الموفَق "أحمد توفيق المدني"، « بالأب الروحي لأجيال بفضل ما قدّمه من آثار لشباب هذه البلاد »، فهو المؤرخ المشهور، الأغزر إنتاجا في الكتابة التاريخية، وصاحب القلم والإنشاء في مجال الصحافة، تنوعت مؤلفاته لتشمل تاريخ الجزائر القديم والمعاصر، « وشارك بمقالاته الصحفية في الشهاب وغيرها عن أحداث المغرب العربي والسياسة العالمية والعربية»، وكان من أهم أعماله " كتاب الجزائر"، وقدّمه إلى الشباب الجزائري، مركز الحركة والشعور – كما قال - ، من يعتمد عليهم الوطن في بناء صرح مجده عاليا، ولن يتحقق ذلك وهم يجهلون تاريخه وعناصر سكانه وحالته الأدبية. احتوى الكتاب مادة متنوعة عن تاريخ الوطن الجزائري القديم والحديث، وجغرافيته وتكوينه البشري، مع أوصاف لمدنه ونظامه الاجتماعي. شخّص المؤلف فيه حالة الجزائر، ووضعها بين يدي القارئ خالية من شائبة التزوير، غير مشوهة، وبعيدة عن الدعاية المغرضة، وأدناس المستعمر ووساخته.
مثّلَ صدوره سنة 1932م صفعة مؤلمة في وجه الاحتلال، والمندسين تحت لوائه، والمتشدقين بحضارته، تحدث عنه الأدباء والسياسيون وراجعه المؤرخون، وتهاطلت على مؤلفه رسائل التهاني والثناء من خارج الوطن وداخله حتى وصل مجموعها إلى 533 رسالة، كتب عنه محمد العاصمي في مجلة الشهاب مقالة بعنوان (كتاب الجزائر، كذلك وبمثل ذلك يؤدى الواجب)، وهنّأه بصدوره الشاعر محمد آل خليفة بقصيدة مطلعها "تحية مفتون بحبك شاعر.."، وكذا الشاعر مفدي زكرياء بقصيدة " اقرأ كتابك للأجيال يا مدني"، وكتب عنه الأمير شكيب أرسلان فصولا في مجلة الفتح، وتحدث عنه محمد علي كرد في مجلة القبس، والدكتورة عائشة بنت الشاطئ في جريدة الأهرام، وتناوله بالدراسة المؤرخ حسين مؤنس في مجلة البحوث الإسبانية، ولم يقتصر الاهتمام على أدباء المشرق ومفكريه، وإنما وجد صداه عند الباحثين الغربيين، نقدا واقتباسا، أمثال الكاتب "ماسنيوس"، والمؤرخ "شارل اندري جوليان"، والأستاذ "جاك بيرك"، وحرّر المستشرق "جوزيف ديبارمي" مراجعة له في كتابه "إفريقية الفرنسية" سنة 1933م، وحكم بأنّ صاحبه ألّفه لهدف سياسي وطني، وعلّق الدكتور أبو القاسم سعد الله على كلامه بقوله:« إنّه لا يمكن أن يكون غير ذلك»، أما المؤرخ "شار روبير آجرون" في كتابه (تاريخ الجزائر الحديث) فرأى أنّ الكتاب يمثل توجه "جمعية العماء المسلمين الجزائريين" بما غرسته في المجتمع من معاني ومصطلحات جديدة، ككلمة الوطن، والأمة الجزائرية، وكلمة الشعب، وخاصة أن نشره تزامن مع تأسيسها، فهو يحمل فوق غلافه شعارها (الإسلام ديننا، والجزائر وطننا، والعربية لغتنا).
• ملاحظات الزواوي على كتاب الجزائر:
نشير قبل الحديث عن ملاحظات الشيخ أبي يعلى الزواوي إلى أنّ الفنان والكاتب عمر راسم كتب أيضا ملاحظات حول الكتاب وأرسلها إلى أحمد توفيق المدني، وأثنى عليه واعتبره «عملا جليلا لا ينكر قدره إلّا من لا إحساس له، ولا مروءة »، ووصف مؤلّفه بالكاتب النبيه الذي يعرف ما يقول، وتأليفه يدل على نقاء سريرته، وأن جهده موجه للصالح العام، غير أنه عاب عليه انخراطه في بعض الجمعيات ومخالطته للجمعات – كما قال- مما يؤثر في ثقة الناس به، وهو يومئ بذلك لجمعية العلماء، ونبهه إلى أنّ كتب التراجم والتاريخ مليئة بالأخطاء والمغالطات، قديما وحديثا، وضرب له مثلا بما كتبه أحمد أمين، وذكَرَ بأنّه انتهى من تصفح الكتاب لا عن مطالعة دقيقة، وانتقده لعدم سوقه لتراجم بعض علماء الجزائر، أمثال: سيدي بن علي شيخ سيد أحمد بن عمار، وابن الشاهد الكبير صاحب الموشحات والمولوديات البليغة، وعبد القادر المجاوي، والشيخ علي بن سماية، (والد الشيخ عبد الحليم)..وغيرهم.
ولعل أطول عرض للكتاب ومحتواه، هو ما كتبه أبو يعلى الزواوي، والذي ساقه في عشر صفحات لم تنشر، كتبها تحت عنوان "كتاب الجزائر لصديقنا الكاتب المجيد السيد أحمد توفيق المدني، الجزائري الأصل التونسي المنشأ والمربى"، تحدث فيها عن واضعه، وقال بأنه معروف في عالم المطبوعات الحاضرة، وأحد العاملين فيها وعليها، وكان يصدر تقويما سنويا حافلا، وصاحب معرفة بالقطرين الجزائر والتونسي،« ومن المجاهدين في الوطنية حق جهاده، وبذل في ذلك غاية استعداده، حتى أوذي في ذلك وكاد يذهب ضحية مراده»، أما عنوان الكتاب، فلاحظ أنّ المؤلف لو اكتفى بالجزائر كعنوان بدل "كتاب الجزائر" لكفى، لكنه زيادة بيان، وقال بأن الكتاب يستحق التقريظ غير أنه لم يعرضه عليه ولا على غيره وإن كان غير لازم.
أما محتوى الكتاب فذكر أنه متوسط الحجم، وملحق بخريطة القطر الجزائري من صنع المؤلف، وتتخلله مجموعة من الجداول الإحصائية المفيدة، وهو مستوعب لتاريخ الجزائر عموما، وتناول بالتحليل الفصل الذي خصّه أحمد توفيق المدني لنسب البربر وأحوالهم قبل الإسلام، وقال بأنّه جرى في ذلك على ما أورده هو في كتابه "تاريخ زواوة"، من كونهم من القبائل الحميرية اليمانية وخاصة قبيلتي صنهاجة وكتامة، واستطرد "الزاووي" في الحديث عنهم في أزيد من صفحتين، ناقلا من مصادر مختلفة كالقاموس المحيط، والمؤنس في أخبار تونس، وأنّ عدد قبائل صنهاجة يبلغ سبعين قبيلة، وما يؤيد ذلك هو تشابه الخطّ البربري مع الخط المسند الحميري الشهير وكذا الحبشي، واعتمد في ذلك على بعض المعلومات الواردة في كتاب "دلائل لبنان" من اجتياز القبائل الحميرية البحر الأحمر، وتأسيسهم لمملكة بالقسم الأعلى للنوبة بمصر، سموها "آكسوم"، ثم قال بأنّ مؤلفه -أي مؤلف كتاب دلائل لبنان- لم ينتبه لمعنى كلمة آكسوم التي ما زالت مستعملة عند الأمازيغ إلى الآن بمعنى "اللحم"، «وهو ممّا يؤيد أنّ لغة البربر حميرية كخطّهم، وإنّما تغيرت كثيرا لاستيلاء الرومان عليهم، ولحق العرب المسلمون بعد ذلك، ومجيء الحكومات بأيدي الإسلاميين الذين لغتهم مضرية قرشية»، وأتى بنقول كثيرة تثبت ذلك، وقال بأنّ الأستاذ أحمد توفيق المدني أثبت حقائق كثيرة في كتابه، والموضوع لا محالة كبير، وقد اختصر كثيرا، «وذلك أنّ التأليف في موضوع كبير ككتاب الجزائر يحتاج إلى رجال وأموال، وإن وجد الرجال ووجدت الأموال، فأين التعاون وأين الذوق والرغبة في غير لسان الحكومة -يقصد الفرنسية- ومطبوعاتها العجمية التي خنقت العربية في ديارها وطردتها منها »، وما لفت انتباهه فيه أمران:
• لم يعب أحمد توفيق المدني في كتابه ولم ينتقد أحدًا، بل أثنى على الكل، وعاتبه على ذلك، وقال «ما نراه إلا أنّه يريد السلامة...فلو سلك الوسط سبيل السنة، أي سنة المؤرخين والمتكلمين لأفاد أكثر »...وأنّه رأى الأشياء كلها ملاحًا... ولو كان مكانه: « لا صليت أقواما نارا حامية ليحق الله الحق ويبطل الباطل ».
• والأمر الثاني تناوله لتاريخ الإباضية- بني ميزاب-، حيث ذكرهم المؤلف بثناء عاطر، وتسامح باهر، وإن كان الشيخ الزواوي ساق في صفحتين كاملتين ملاحظات أنكرها عليهم في مسائل فرعية، أشار إليها الأستاذ أحمد توفيق المدني في مذكراته، وقال بأنّه أفرد الإخوة الإباضيين ببحث مطول ومبتكر، وغايته من ذلك نسف الرجس الاستعماري الذي أراد أن يجعل منهم في نظر السنيين أشر من اليهود، على طريقة فرق تسد، وأشار أنّ كل الاختلافات المذهبية الموجود بين الفريقين هي خلافات جزئية تكاد تكون تافهة، وأنّ هذا القسم من الكتاب «حدٌ فاصل بين ماض بغيض في العلاقات بين الفريقين، وبين حاضر ومستقبل يتسمان بأخوة الإسلام، وتضامن الوطن، ومتانة المصلحة ».
للموضوع مصادره