تضامن المثقفين
بقلم: د. محيي الدين عميمور-
بكائيات البعض عن الوضعية التي تعرفها الثقافة العربية نتيجة لتقاعس معظم المنتسبين لها تعيد إلى ذاكرتي أمورا رأيت من واجبي أن أذكر بها وأنا أسترجع كلمات رائعة تقول: كيفما تكونوا يُولّ عليكم.
في منتصف السبعينيات نظم شاعر الثورة الجزائرية المرحوم مفدي زكريا قصيدة في مدح الملك الحسن الثاني، وكان ذلك في مرحلة استفز فيها العاهل المغربي الجزائر بمواقف تناقضت مع ما اتفق عليه مع كل من الرئيس هواري بومدين والرئيس الموريطاني مختار ولد داده.
وغضب الرئيس الجزائري، فلم يكن يتصور أن يمدح شاعر وطني قائد دولة تتناقض مع بلاده، لكن ذلك لم يمنع دعوة الشاعر للحفل الذي أقيم على شرف الأدباء العرب، وكانت الدردشة الشهيرة بين الرئيس والشاعر، حيث أن غضب الرئيس لم يمنعه من "التنكيت" مع مفدي في حضورنا جميعا (وكنت تناولت الأمر في حديث سابق)
لكن الأوساط الثقافية والأدبية تناقلت نبأ غضب الرئيس، وأحسّ الشاعر، وحساسيته معروفة، بأن كثيرين منهم أصبحوا يتفادونه، وإذا صحّ ما رُوِيَ لي فإن ذلك كان السبب الرئيسي في قرار الشاعر الاستقرار في تونس ليرعي تجارة له هناك، واتهم بو مدين ظلما من قبل خصومه بأنه أصدر قرارا بنفي مفدي زكريا عقابا له، وهو ما لم يكن صحيحا بدليل دعوته للحفل.
تذكرت ذلك هذا اليوم بالذات، عندما عادت بي الذاكرة إلى يوم 18 أكتوبر 1983، وكنت يومها مستشارا للرئيس الراحل الشاذلي بن جديد.
يومها اتصل بي الصديق إسلام مدني، ابن الأستاذ أحمد توفيق المدني، ليبلغني بوفاة والده، وليقول لي كلمتين لا ثالث لهما: الأمر عندك.
كان الراحل قد تعرض لحملة شديدة من توجهات معروفة إثر القرار الذي اتخذه الرئيس أحمد بن بله بمنع المشروبات الكحولية، وابتكِرت يومها نكتة توحي بأن رجل جمعية العلماء المسلمين هو من مدمني "الراح" وتقول أنه استعمل يوما، بشكل آليّ، عبارة (Bien fraiche) وهو التعبير الذي يقوله عُشّاق "البيرة".
وأشهد هنا، وقد كنت أزور الشيخ في منزله كثيرا وبدون موعد سابق، أنني لم أجده يوما في وضعية تثبت الاتهامات الحمقاء، التي كان من بين من يرددها من أثار سخطهم تعيينه وزيرا للأوقاف بدلا من آخرين.
وأضيف لكل هؤلاء من أزعجهم دفاع الأستاذ المدني عن الوجود التركي، والذي تجسد في كتابه "حرب الثلاثمائة سنة"، وهم آباء وأجداد من يساوون اليوم بين الاستعمار الفرنسي والوجود العثماني، بدون أن ننكر أن نهاية الأخير كانت كنهاية كل الإمبراطوريات، بدءا بالإمبراطورية الرومانية ومرورا بالأمويين والعباسيين والفاطميين.
وكان واضحا لدي، وأنا أستقبل مكالمة ابن توفيق المدني، أن الأمر أهم من مجرد الإبلاغ، حيث أن إسلام كان يعرف علاقتي الوطيدة مع والده.
وذهبت إلى منزل الفقيد في الأبيار لأقدم العزاء للأسرة، وفوجئت بأنني لم أجد هناك أحدا من رجال الثقافة أو التاريخ أو الديبلوماسية، فالراحل توفيَ متقاعدا بعيدا عن أي مسؤولية رسمية، ولم يكن هناك بالتالي الاهتمام المطلوب من القطاعات التي كان ينتمي لها وينشط في إطارها.
وبمجرد عودتي إلى مكتبي، اتصلت بوزير الأوقاف لأبلغه بالأمر، وفوجئت ثانية بارتباكه، وأدركت أنني أحرجته.
وعندما أبلغت الرئيس الشاذلي بوفاة الشيخ لم أحاول إخفاء خيبة أملي من ردود الفعل الفاترة، لكن الرئيس قال لي، ببساطته وعفويته الرائعة: افعل ما تراه ضروريا، وقل لي ماذا يمكن أن أفعل.
وعلى الفور أعددت رسالة تعزية دافئة للأسرة وعدت لمكتب الرئيس ليوقعها بنفسه، واستأذنته لأذيع خبر الرسالة التي بعثت بها على الفور إلى إسلام مدني، وأذعت خبر الوفاة ورسالة الرئيس بعد دقائق معدودة عبر الإذاعة الوطنية.
وبمجرد أن أذيع الخبر تبدل كل شيئ، وعندما عدت في المساء لأشارك في العزاء لم يكن هناك موضع لقدم في منزل الأسرة، وتم تشييع الجنازة في اليوم التالي بحضور حشد كبير ضم كثيرين من كبار القوم، ولم يكن سرّا أن تعزية الرئيس كان لها أثرها الهائل فيما عرفه الرحيل من اهتمام، وللشاذلي بن جديد يعود الفضل في أن الجزائر ودعت قمة وقامة في مستوى أحمد توفيق المدني بما يشرف الدولة والأمة والثقافة.
ورحم الله أحمد توفيق المدني في ذكرى وفاته ورحم الله كل أدبائنا الذين ماتوا مرتين.