الشيخ أحمد توفيق المدني

بقلم: بسام العسلي-

ما من كتاب صدر عن الجزائر، أو تعرض للجزائر، خلال الفترة الممتدة من سنة 1925 - 1980 إلا وكان للشيخ أحمد توفيق المدني ذكره مقترنا بأفضل ما يطمح إليه الإنسان من الذكر الحسن والإشادة بأجمل الفضائل. وإذا دل ذلك على شيء فإنما يدل على الأثر العميق الذي تركه في حياة الجزائر الدينية والاجتماعية والسياسية خلال مراحل الجهاد الأفضل والصراع الأمثل.

وقف الشيخ أحمد توفيق المدني، وإلى جانبه القائد فرحات عباس، في نيسان - إبريل - 1956 ليعلن من القاهرة، تأييد جمعية العلماء للثورة، وانضمام مجاهديهم إليها وكان ذلك تحولا حاسما في حياة الثورة. لكن قصة الشيخ المدني لم تبدأ في هذه المرحلة، إن قصته مع الثورة قصة طويلة تعود إلى نعومة أظفاره، وأيامه الأولى مع الحياة، لقد خلق ليكون ثائرا.

ويتحدث الشيخ أحمد توفيق المدني عن حياته، فيقول: (في إحدى الديار العربية التي يرجع عهد بنائها إلى العصر الحفصي الأخير بتونس، ولدت يوم 1 تشرين الثاني - نوفمبر - 1899 - الموافق 24 جمادى الثانية سنة 1317 هجرية. سليل عائلتين من كرام المهاجرين المجاهدين الجزائريين. أما الأب فهو محمد بن أحمد بن محمد المدني مولدا، القبي الغرناطي، من السادة الأشراف. ولد بالحضرة الجزائرية، وتلقى علومه العربية بالجامع الكبير، وكانت به بقية من كبار علماء الجزائر. أما جده فقد كان أمين

الأمناء، أي شيخ بلدية العاصمة الجزائرية. ثم اعتزم الهجرة مع والده إلى تونس عندما اشتد الاضطهاد الإفرنسي بمدينة الجزائر. واستقر حينا ببلاد الجرجرة الأبية. وكان ذلك سنة 1870. ووقعت الثورة الكبرى التي تولى كبرها المجاهدان المقراني وابن الحداد، فشاركا فيها إلى أن انهارت. وتعارفا يومئذ مع جدي للأم - الصالح الشيخ عمر بويراز، الذي كان بدوره قاصدا مدينة تونس، مهاجرا مع أخيه عبد الرحمن، واشترك هو وأخوه في أعمال الثورة، ثم انتقل الجميع بعد ذلك إلى تونس في قافلة واحدة).

ويتحدث الشيخ المدني عن طفولته: (هل كنت حقا صبيا؟ إنني لفي شك من ذلك مريب؟ لقد كانت الحياة في منزل فخم، جمع الأب والأم والابن، حياة ناعمة سعيدة، لا يؤرقني فيها إلا ما كنت أصغي إليه من حديث الأب والجد والخال عندما يزوروننا، ليتبادلوا أحاديث السمر، وليجتروا ذكر فظائع الاحتلال الإفرنسي، وذكر استحواذ الإفرنسيين على سلطة ونفوذ في البلاد التونسية - اعتبارا من سنة 1881 - ... وكنا قبل العشاء نحيط بجدي - عمر بويراز - ونتحلق حوله رجالا ونساء وصبيانا، فيلقى علينا كل ليل درسا في الدين والأخلاق، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يعرج - كل يوم - على ذكر الاحتلال الإفرنسي بالجزائر ومآسيه وفظائعه ومذابحه وقذارته، إلى أن يستقر شعورنا، وإلى أن تسيل دموعنا، ويقول لنا كلمة لم نكن نفهمها يومئذ وفهمناها فيما بعد: (إن هذه الدموع هي خميرة المستقبل). ثم نصلي العشاء جماعة، وهو يؤمنا. ونتركه بعد ذلك لتهجده وأذكاره. ونسير جمعا إلى غرفة خالي - محمد بويراز. فيأخذ في الحديث الثائر المهيج

الهادف، ويحتد في حديثه وهو يتعرض لحالة الإسلام والمسلمين. وعن اعتداء أعداء الإسلام على بلاد الإسلام، وأن ما سيأتي به المستقبل هو أدهى وأمر، نظرا لفراغ البلاد الإسلامية من الدعاة المرشدين. واشتغال كل مسلم بما يعنيه خاصة).

بدأت حياة أحمد توفيق المدني بكتاب من كتاتيب العاصمة تونس، ولم يكن قد تجاوز الخامسة من عمره. لينتقل في سنة 1909 إلى المدرسة الأهلية القرآنية، ومنها إلى الجامع الأعظم (جامع الزيتونة) في سنة 1913. (والمدرسة الخلدونية - التي تعد تكميلية للدراسة الزيتونية). وأظهر خلال ذلك قدرة خطابية مثيرة، وكفاءة عالية في الكتابة دفعته إلى تحرير عدد من المقالات الوطنية والاجتماعية والسياسية، نشرها في صحيفة (الفاروق) التونسية - التي كانت تصدر أسبوعيا. (وكان ذلك في سنة 1914). وعندما انفجرت الحرب العالمية الأولى، كون خلية من رفاقه للتحريض على الثورة ضد فرنسا. فكان أن اعتقلته السلطات الإفرنسية في تونس يوم 14 شباط - فبراير - 1915 وألقت به في السجن حتى شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1918.وقد أفاد من فترة السجن لمتابعة تعليمه الديني ودراسة اللغة الإفرنسية حتى أتقنها. وعندما خرج من سجنه، كان إنسانا جديدا قد صلب عوده، وتكونت شخصيته، واتسع أفقه، رغم حداثة سنه.

أدى هذا النضج المبكر، بالمجاهد الشاب أحمد توفيق المدني، إلى الالتقاء مع جيل رواد الجهاد، حيث تم له التعارف في تونس مع الشيخين عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير

أحمد توفيق المدني، في افتتاح معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة سنة 1947، وإلى جانبه الشيخ خير الدين.

الإبراهيمي واللذين سيكون لهما أثر كبير في حياته. كما ساعده ذلك على التحرك السياسي مع الزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي - مؤسس حزب الدستور التونسي - وذلك في سنة 1919. وفي 29 أيار - مايو عقد الحزب مؤتمرا له - في منزل الشيخ حمودة المنستيري بالمرسى، وبرئاسة الشيخ عبد العزيز الثعالبي. وتقرر انتخاب أحمد الصافي أمينا عاما للحزب وأحمد توفيق المدنى - أمينا عاما مساعدا للقلم العربي. وأعيد تنظيم الحزب، فكان أعضاء اللجنة التنفيذية يضمون 27 رجلا. غير أن حزب الدستور لم يلبث أن انهار تحت ضربات الاستعمار الإفرنسي ومؤامراته. وتم إبعاد (أحمد توفيق المدني) إلى الجزائر يوم 5 حزيران -

يونيو - 1925. حيث انفتحت له آفاق جديدة للجهد والجهاد.

كان أول لقاء له مع شعب الجزائر في حفل الشبيبة الإسلامية بالجزائر في ليلة 27 رمضان من سنة 1925. ووصف هذه الليلة بأنها (من أسعد ومن أغرب ومن أثرى ليالي حياته) اندفع فيها بحماسته المعهودة وهو يلقي خطابه على حضور زاد عددهم على (500) جزائري. وختم خطابه بقوله: (ليكن شعاركم في حياتكم أيها الأحرار الأبرار: الإسلام ديننا، العروبة لغتنا، الجزائر وطننا، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). وقد أشعره تجاوب الجمهور معه بضرورة العمل بحماسة أكبر.

عمل بعد ذلك على تأسيس (نادي الترقي) ليكون قاعدة للعمل الديني والسياسي والاجتماعي وذلك في سنة 1927. وفي هذا النادي ذاته تشكلت (جمعية العلماء المسلمين الجزائرين) سنة

1931. وكان لأحمد توفيق المدني دور هام في تشكيل هذه الجمعية وتنظيمها. كما كان في جملة نشاط نادي الترقي:

1 - تأسيس جمعية الفلاح.

2 - جمع شمل وحدة النواب الجزائريين المسلمين.

3 - تنظيم اجتماع مؤتمر طلاب شمال أفريقيا.

4 - تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية الكبرى.

5 - مقاومة سياسة التجنس والاندماج.

6 - مساعدة الكفاح الفلسطيني.

7 - محاولة تكوين البنك الإسلامي الجزائري.

8 - مقاومة التبشير المسيحي.

9 - تكوين جمعية الزكاة.

وقد تعثرت هذه المشاريع في حين حقق بعضها نجاحا رائعا في تحقيق بعض أهدافها؛ غير أن مجرد استعراض (نوعية هذه المشاريع) هو أمر كاف لإبراز فضائل القدرة المحركة الكامنة وراءها.

عرف عن الشيخ أحمد توفيق المدني أنه منظم رائع أكثر منه خطيبا في المحافل، وأنه خطيب مفوه أكثر منه شاعرا، وأنه شاعر أكثر منه كاتبا صحفيا، وكاتب صحفي أكثر منه باحثا ومؤلفا. وقد كانت هذه المواهب أو الكفاءات المتنوعة التي تحقق التكامل أكثر مما تسبب التنافر، هي أفضل سلاح للشيخ المدني في جهده الصادق وجهاده الميمون. فمضى يحارب على كل الجبهات، ويخوض الصراع في كل الميادين. وكانت الصحافة هي مجاله الأول وميدانه الأفضل نظرا لمعرفته بما كان للكلمة من أثر بالغ في استثارة الجماهير. وها هو نموذج عن مقالة له تحت عنوان (بين الموت والحياة)، وموقعة بلقبه (المنصور) (1)؛ جاء فيها هجوم حاد

على سياسة الدمج و (التفرنس) وتضمنت ما يلي: (طريقان قد فتحا اليوم في وجه - الجزائر الفتاة - وعلى رأس كل من الفريقين

جماعة ترغب الناس سلوك ذلك الطريق وتعدهم الوعود، وتمد لهم في الأماني. أما الطريق الأول: فهو طريق التجنس والتنازل عن القومية واللغة، ونبذ التاريخ والتقاليد، والدخول في جنسية جديدة هي جنسية العنصر الغالب، والاندماج فيها. وقبول ما يتبع ذلك التجنس والاندماج من أخلاق جديدة، ولغة جديدة وعقلية جديدة. ودعاة هذا الطريق يبثون دعوتهم بجد ونشاط، يكتبون ويخطبون ويحادثون وينشرون الصحف والمجلات باللغة الإفرنسية طبعا، ويريدون أن يؤثروا على الطبقات المتعلمة في المدارس الإفرنسية والمتشبعة بالأفكار الإفرنسية. وأما الطريق الثاني: فهو طريق المحافظة على الذاتية الجزائرية، أي المحافظة على دين البلاد وعلى لغتها، وعلى تقاليدها، وعلى مدنيتها الخاصة، وعلى توثيق الرابطة بين حاضرها وبين تاريخها المجيد. والأخذ من ثمرات المدنية الغربية بكل نافع مفيد، لا يمس العقيدة الدينية والوطنية، ولا يعتدي على كرامة البلاد، ولهذا الطريق أنصاره ودعاته حتى من بين طبقة الشبيبة المتعلمة في المدارس الإفرنسية، فأي الطريقين يجب أن تسلك الجزائر، وهي في فجر نهضتها الحديثة؟ ...

لقد أخفقت سياسة التجنس والاندماج تماما، وأفلست كل الإفلاس. وهكذا يخيب ويفلس كل أمر مخالف لسنن الطبيعة وقوانين الاجتماع. فلم يتجنس المتجنس إذا، ويقدم على التضحية بدينه وقوميته؟ اللهم إلا إذا كان يرى دينه منحطا فيريد أن

يتبرأ منه، ويرى لغته ساقطة فيريد أن يستبدل بها غيرها، ويرى أن أمته سافلة فيريد أن يعتز بأمة أخرى، ويرى تاريخه بشعا فيريد أن يقطع الصلة بينه وبينه. فهو يصبغ نفسه صباغا خشنا، ويحشر نفسه في زمرة قوم ليس منهم وليسوا منه. ويغدوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ومثل هذا الرجل قليل في الجزائر والحمد لله. المسألة الموضوعة أمامنا الآن، هي مسألة المحافظة على الإسلام وعلى العربية. وهذه المحافظة هي البرنامج الوحيد الذي يجب أن يكون برنامج الجزائر بأسرها في حاضرها ومستقبلها. وكأن الجزائر اليوم غير شاعرة بتلك الحقيقة الرهيبة القاسية التي نراها رأي العين أمامنا. كأنها ليست شاعرة بأن الإسلام في الجزائر سائر في طريق الموت. وكأنها ليست شاعرة بأن العربية في الجزائر سائرة نحو الاضمحلال. وكأنها ليست شاعرة بأنها إذا فقدت إسلامها وعروبتها فقدت كل شيء ولم تنل شيئا. وكيف نريد أن يحيا الإسلام وأن تحيا العروبة في الجزائر. إذا كان الشعب الجزائري لا يعمل العمل الجدي الصالح في سبيل تلك الحياة؟.

تظنون أن الإسلام يستطيع أن يعيش إسلاما تقليديا على مر الدهور كما هو الآن عائش في أوساطنا؟ وإذا كنا لا ندرسه ولا نبث دروسه في كل الأوساط وفي مختلف الجهات، فماذا يبقى لنا منه بعد جيل آخر؟ والعربية، كيف تستطيع أن تعيش وأن تقاوم في سبيل الحياة، إذا نحن أهملنا دراستها إهمالا، ونبذنا أمرها ظهريا؟ وعلى من تريدون أن تعتمدوا لحفظ دينكم ولغتكم؟ أتعتمدون على الحكومة؟ ... إن كانت الأمة تريد لنفسها الحياة في ذاتيتها، فليس عليها إلا أن تقوم وحدها بكل الجهود، وتنتشل بأيديها

أبناءها من هذه الحالة البائسة، وهذا هو وحده واجب الأمة اليوم. وهذا هو موقفها بين (الموت والحياة) ....

فيا شعب الجزائر: عربيتك ودينك في حالة تلاش واضمحلال، وناشئتك في جهل وإهمال. وإن مستقبلك كأمة إسلامية هو بين يديك. فإن شئت عملا صالحا فهذا أوان العمل الصالح. ولا يكون العمل منتجا مثمرا إلا إذا كان رائده التضحية والاتحاد، ونبذ كل شقاق وخلاف، وعدم النظر إلا للواجب المفروض ... لسنا الآن في وقت يسمح لنا أن نتشاجر فيه وأن نختلف، بل نحن في وقت يوجب علينا أن نوحد الجهود. وأن نكون صفا واحدا يعمل بعزيمة لا تلين في سبيل الله والأمة والوطن).

ويقرن (المدني) القول بالعمل، وهو ما تبرزه الحادثة الطريفة التي يعرضها - المدني ذاته - بقوله: (كنا في قاعدة - نادي الترقي - وعلينا كآبة وفي نفوسنا هم - بسبب الاستعدادت الإفرنسية للاحتفال بمناسبة مرور مائة سنة على احتلالها للجزائر - وإذا بالسيد محمد بلحاج مدير المدرسة الثعالبية الكبرى وأحد كبار الملحدين والمتفرنسين، يخبرنا بأنه قد ولد للسيد (ساطور) زعيم المتجنسين ولد بالأمس، فأطلق عليه اسم (كريستيان) أي (المسيحي) ونظر إلي نظرة شماتة، لأنه علم أن الأمر يؤلمني ويمعن في تعذيبي. قلت للناس من حولي؛ انظروا: هذه هي نتيجة التجنس بالجنسية الإفرنسية! وشاء ربك أنني رزقت بولد في نفس الليلة، هو مولودي الأول، فأطلقت عليه إسم (إسلام).

وذهبت من الغد إلى النادي. واجتمع الناس، وكان بلحاج حاضرا، فوقفت وقلت: يا جماعة! بالأمس ولد لزعيم المتجنسين ولد دعاه (كريستيان) واليوم أبشركم بأنني رزقت ليلا بولد دعوته (إسلام). ففي هذين الاسمين منهاج سياستين: سياسة التجنيس تجعل أولادكم (كريستان) وسياسة الإسلام والعروبة والوطنية تجعل أولادكم (إسلام) فاختاروا، وأنتم الآن على بينة من الأمر. وصفق القوم طويلا. أما محمد بلحاج فقد اصفر لونه، وتلعثم لسانه، وقال بعد لأي: لقد جنيت على ولدك جناية لن يغتفرها لك إذ أطلقت عليه هذا الاسم. ونظرنا إليه جميعا نظرة احتقار وازدراء. وأقسم بالله إنني لم أعد منذ ذلك اليوم أسمع في النادي كلمة تجنس، ولا تجنيس. ماتت الفكرة إلى الأبد. ولم نر وجه محمد بلحاج بعدها إطلاقا) (2).

ويمضي الشيخ مدني على درب الجهاد، بالكلمة والعمل، مركزا جهده باستمرار على قضية (الأصالة الذاتية للجزائر) وهي الأصالة المرتبطة أبدا بالإسلام والعروبة. ويحدث في سنة 1934 أن دفعت الإدارة الإفرنسية بعض أذنابها للتقدم بطلبات أبرزها:

(1 - إلغاء مساجد المسلمين.

2 - إغلاق المدارس التي تعنى بتعليم القرآن الكريم.

3 - تقييد حرية الصحافة في الجزائر، وتثور الجزائر من أقصاها إلى أقصاها. وينتصب الشيخ المدني عملاقا وهو يمتدح أصالة شعبه ويهاجم بعنف وجرأة الاستعمار وأذنابه. فيقول:

(احتقروها واستصغروها، وتهاونوا بأمرها، وغرهم منها طول السكوت وطول الاستسلام، وخالوها ميتة فاستنسروا، وحسبوها جثة هامدة فتنمروا. وراموا الإجهاز على ما بقي فيها من بقية الحياة، بحسب ظنونهم، فتآمروا وقرروا ما قرروا، والله من ورائهم محيط. تحدوها امتهانا وصغارا، فإذا بها ترفع ذلك التحدي بأنفة وكبرياء. وقرروا فيما بينهم موتها، فإذا هي تقرر على رؤوس الملأ حياتها الخالدة. كذبت أمانيهم، وسفهت أحلامهم، وأرتهم رأي العين كيف تكون الأمم الناهضة وكيف تكون الشعوب المستيقظة، وكيف تتقدم في ميدان العمل السلمي المشروع أمة تتوثب للسعادة فأرادوا لها الشقاء، وتتطلع للحرية فصاغوا لها قيود الاستعباد. وتريد أن تتقدم مع المتقدمين، فأرادوا لها التقهقر مع الغابرين).

وكم كانت أمة الجزائر الحية الحساسة بديعة في مظاهرها القوية الناطقة. وكم كانت جليلة رائعة. يوم نطقت فيها مئات آلاف من الألسنة والقلوب. في تلمسان، وفي قسنطينة، وفي بونه، وفي جيجل؛ وفي بسكره؛ وفي قالمة، وفي سوق أهراس، وفي عشرات من المدن والقرى، فكان نطقها رهيبا، وكان صوتها مدويا مسموعا، وكانت كلماتها الصادرة عن يقين وإيمان تسمع حتى الصم، وتنفذ حتى إلى القلوب الغلف التي هي كالحجارة أو أشد قسوة. كانت موجة الاستياء عظيمة لم تر البلاد مثلها فيما سلف. وبلغت القلوب الحناجر لما لحق بها من ألم وكمد. وكاد اليأس يستولي على الأنفس فيقودها حيث يقود اليأس

عادة الأنفس المستاءة. لولا حكمة أصلية كبحت جماح النفس وألزمتها السكينة والهدوء ...

وبلهجة ساخرة، مريرة، يقول الشيخ المدني: تمخضت أمة الجزائر مائة وأربعة من الأعوام فولدت ... حسن الدواجي قاضي تلمسان، وابن عبد الله نائبها المالي، وابن علي الشريف نائب مالي بلاد القبائل، وغرسي نائب مالي مليانة، وسي جلول خليفة الأرباع. وهم أبطال هذا العصر ومعجزة هذا المصر، أتوا بما لم يأت به الأوائل ولا الأواخر، واقترحوا على الإدارة الإفرنسية من المقترحات ما به تزول الكروب، وتنجلي الخطوب، وتنتهي الأزمة وينقذ الفلاح، وينتهي خطر المرابين، ويتعلم التسعة والسبعون بالمائة من أبناء الأمة الأميين، ويتبدل شقاء الجزائر سعادة، وفقرها غنى ومسرة، وروعها أمنا واطمئنانا، اقترحوا - ويا للعار والشنار - هذه المقترحات التي سولت لهم أنفسهم اقتراحها:

أولا: تأييد غلق مساجد المسلمين التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، في وجه علماء المسلمين غير الرسميين، الذين يريدون أن يقوموا بما أوجبه عليهم ربهم من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعظ والإرشاد. لم يكتف هؤلاء السادة بقرار عامل عمالة (ولاية) الجزائر، فهم يريدون تأييد ذلك القرار بقانون رسمي.

ثانيا: القضاء النهائي على البقية التي سلمت إلى هذه الساعة من التعطيل، من المدارس القرآنية الحرة التي تلقن أبناء المسلمين كلام الله وآيات الذكر الحكيم، حيث لا يوجد ذلك في مدرسة أخرى. بدعوى أن تلك المدارس لا تخضع لقواعد الصحة، ولا تخضع للحكومة. وما كنا نعلم قبل هذا الاكتشاف الخطير أن في الجزائر مدارس لا تخضع للحكومة ولا لقوانينها.

ثالثا: تقييد حرية الصحافة بالجزائر، لا الصحف العربية التي لا توجد في الدنيا بأسرها صحافة أضيق منها حرية، ضرورة أن يكون للوالي العام حق إغلاقها متى شاء، وكما أراد، بواسطة قرار يصدره بصقته نائبا عن وزير الداخلية - بل الصحف الإسلامية التي تصدر باللسان الإفرنسي والتي يديرها رجال يحملون الجنسية الإفرنسية. تلك الصحف التي تخضع للقانون العام، قانون الصحافة الشهير، الذي نسمع به نحن مجرد السماع فقط، قانون 1882، تلك الصحافة، هي التي يريدون أن يقيدوها ويكمموها، حتى لا يبقى للمسلم الجزائري صوت يسمع وكلمة تقال. بدعوى أن هذه الصحف تعمل ضد نفوذ فرنسا بالبلاد. وهل نفوذ فرنسا بهذه البلاد مزعزع إلى الدرجة التي تخافون معها أن تقضي عليه الصحافة التي ليست هي بشيوعية ولا بثورية، إنما قصاراها أنها تقول كلمة حق.

...

وتتعاظم قوة المقاومة في المغرب العربي - الإسلامي الخاضع لحكم فرنسا. وتفشل كل الوسائل القمعية والأساليب القهرية في إعادة العملاق الجزائري إلى قمقمه. وتشعر فرنسا بقوة الضرام الكامن خلف الرماد، وتتزايد مخاوفها مع اقتراب نذر الحرب العالمية الثانية. ويكتب الشيخ المدني في تشرين الأول - أكتوبر -

1937. ما يلي: (نعم! في الشمال الأفريقي هيجان، وفي الشمال الأفريقي اضطراب، وفي الشمال الأفريقي حركة تذمر واحتجاج عنيفة وبعيدة الغور. ولسنا نحن الذين ننكر ذلك أو نحاول التخفيف من حدته في نظر الحكومة. إنما نحن نسأل حكومة فرنسا وحكومة الجزائر، ونسأل كل عاقل مدرك في هذه الدنيا: هل يمكن أن يركن إلى جانب التهيج، وأن يستاء وينزعج، وأن يصل إلى درجة اليأس، شعب قانع بما لديه من سعادة، راتع في بحبوحة العيش الهنيء متمتع بإدارة حازمة تضع دواءها على موضع دائه ساعة أن يحس بوجوده، وحكومة عطوفة تسهر على صالحه، وتجيب في التو والحين رغباته، وتغدق عليه من ضروب الخير والنعم أصنافا وألوانا، وتمكنه من وسائل العلم النافع والعمل الصالح؟).

ويعود الشيخ المدني في شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1937، لمعالجة (مشكلة الجزائر) فيقول: (إن العصر عصر قوة لا عصر حق. فما دمنا نقدم الحق وندافع عنه بصفته حقا لا يعتمد إلا على النظريات والأقوال، فسوف لا نلاقي في نضالنا إلا الخيبة والفشل. علينا أن نكون أنفسنا تكوينا جديدا قويا. تكون قوتنا فيه مادية فعالة، قوة كفاح سلمي مشروع يعتمد على المال الوفير والرجال الأقوياء المتعاضدين. عندئذ، وعندئذ فقط، إن تكلمنا استمع الناس لمطالبنا، وإن اتجهنا نحو الحكومة عاملتنا كما تعامل الأقوياء، لا كما تعاملنا اليوم).

لم يكن الشيخ المدني محصورا في دفاعه عن المسلمين

بالحدود الجغرافية للجزائر المجاهدة، شأنه في ذلك شأن كل الشيوح في رابطة العلماء الجزائريين، وشأن معظم الذين تصدوا لقيادة الصراع ضد الاستعمار الإفرنسي. لقد أدرك الجميع أن معركة الجزائر هي جزء من الحملة الصليبية الشاملة ضد العالم الإسلامي - العربي - وعلى هذا لم يكن من الغريب أن يتصدى الشيخ المدني لمعالجة قضايا العالم الإسلامي، وأن ينقلها إلى صفحة الجزائر، بمثل ما ينقل صراع الجزائر إلى أفق العالم الإسلامي. وفي حديثه عن فلسطين، في تموز - يوليو - 1937 جاء ما يلي: (كان آخر اختراع أنتجته المخيلة الاستعمارية الانكليزية هو تجزئة فلسطين إلى ثلاثة أقسام: قسم شرقي جبلي يقع ضمه إلى مملكة شرقي الأردن التي يتولى أمرها الأمير عبد الله، وقسم غربي يشمل سواحل فلسطين الشمالية وأخصب بلادها ويكون دولة يهودية مستقلة تمام الاستقلال لها حكومتها وإدارتها ودستورها. وأخيرا قسم ثالث يشتمل بيت المقدس ومراحل حيفا، ويبقى تحت الانتداب الإنكليزي بدعوى حماية الأرض المقدسة ومجرى نفط الموصل. ففلسطين التي اقتعطت أول مرة من بلاد الشام، ثم نكبت بالاستعمار الصهيوني، يريدون أن ينكبوها أخيرا بتقسيم جديد يمزق أوصالها، ويجعل فيها لليهود دولة رسمية ذات استقلال تام. ثم تبقى المدينة المقدمة تحت نير الوصاية إلى أن يقع تمهيدها للصهيونية فتزدردها. وقد أجمعت كلمة العرب في فلسطين على رفض هذا المشروع الخاسر، وأجمعت كلمة العرب في العالم أجمع على تأييد هذا الرفض الأبي لأنه لا يوجد من يجري في عروقه دم العروبة الحار، ويرضى

مثل هذه المذلة والمهانة - ويخلص إلى القول - إن قدر الله وضاعت فلسطين، فإنها والله لن تذهب ضحية الصهيونيين، بل هي تذهب ضحية المسلمين الجامدين، وضحسة سلوك المسلمين المتغافلين. فيا عامة المسلمين ويا خاصتهم، ويا ملوكهم وأمراءهم وقادتهم، هذه فلسطين الشهيدة ضائعة متلاشية فماذا أنتم فاعلون؟،.

...

ويمضي الشيخ المدني في ممارسة دوره، ملتزما بما حدده لنفسه من منهج في الحياة - حرا خلقت وحرا أعيش وحرا أموت. ومن موقع الحرية هذا ينطلق للتبشير بثورة التحرير (1954)؛ حتى إذا ما تفجرت، انطلق وإخوانه لدعمها بصورة سرية، حتى إذا ما اعتقل الشيخ التبسي في سنة 1956 وضاقت آفاق العمل السياسي، انتقل برفقة عباس فرحات إلى القاهرة لمتابعة الصراع السياسي. وتنتصر الثورة، وتعود الجزائر لتحتضن أبناءها الذين ما عرفوا في يوم من الأيام إلا الحب لها والعمل في سبيلها. وينتقل الشيخ المدني من مجال العمل السياسي إلى مجال البنء. وتبقى الكلمة رائدة. فينطلق إلى عالم التأليف. وتصدر له مجموعة من الكتب (عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع) أهمها (حياة كفاح) في جزئين. والمأمول أن توافق الحكومة الجزائرية في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد - الرجل الثائر - على الإفراج عن الجزء الثالث من هذه المذكرات (3). هذا بالإضافة إلى ما سبق له نشره،

بداية من تقويم المنصور ورواية وحرب الثلاثمائة سنة بين إسبانيا والجزائر وتاريخ الجزائر وإسهامه بتاريخ الجزائر الحديث (الذي وضعه الشيخ مبارك بن محمد الميلي). واليوم، وقد بلغ الشيخ المدني الثمانين من العمر - لا زال يتدفق نشاطا وحيوية وهو يدير (المركز الوطني للدراسات التاريخية - الجزائر) ولا زال يسهم بالبحوث الغزيرة في (مجلة التاريخ) الصادرة عن المركز الوطني للدراسات التاريخية، والتي يرأس تحريرها أيضا. ويضيق المجال عن ذكر ما قدمه هذا الشيخ المجاهد بحق لأمته الإسلامية وشعبه العربي ووطنه الجزائري: إنه سيف من سيوف الإسلام والعروبة والجزائر.


الهوامش:

(1) مجلة الشهاب - العدد 3 - المجلد السادس - 27 شباط - فبراير - 1930.

(2) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) 2/ 167 - 168.

(3) قدم الشيخ أحمد توفيق المدني مشكورا للمؤلف مجموعة كتبه وذلك أثناء زيارة = المؤلف للجزائر في صيف سنة 1979. وقد أسهمت هذه الكتب والمؤلفات في إغناء البحوث التي يتم تقديمها للقارىء في إطار هذه المجموعة من الكتيبات عن الجزائر المجاهدة. فللأستاذ المدني شكر المؤلف وتقديره. (انظر قراءات 2).

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.