يوميات تلميذ في معهد ابن باديس أيام لابد أن تروى 5
أ.د. نورة بوحناش
كذلك تبعث الجزائر من بين أنقاض اليأس
1 -وحيدا في قسنطينة: انقضت العطلة الصيفية، وبدأت تباشير الخريف ترتسم في أديم السماء، كان على الفتية أن يفكروا في عامهم الدراسي المقبل بجد وهمة، فهل بإمكانهم مواصلة الدراسة، وهم الفقراء أبناء الفقراء، لا يملكون سد نفقات الحياة في قسنطينة؟ فالدولة التي يحيون تحت شعاراتها الإنسانية من حرية وأخوة ومساواة، لا تعتبرهم كائنات بشرية من الممكن رعايتها، بل هي ترجو زوالهم لترث الأرض والسماء، حينئذ ستكون الجزائر فرنسية بالمطلق، وينتهي التاريخ الجزائري ليحل في تاريخ فرنسا. فهؤلاء المورسكيون الجزائريون، ينغصون عليها مشاريعها ومن الفائدة زوالهم والقضاء عليهم.
أما ما يحكم هذه الإمبراطورية المتحضرة بسكان هذه الأرض، فهو الاستبداد والتسلط، أي عكس لائحة حقوق الإنسان التي تتصدى للدفاع عنها وقد أمضت معاهدتها في سنة 1948، وتتبجح ببنودها التي تحترم الإنسان، لكن أي إنسان! لذلك لم يكن منها رجاء وأمل، والكل يعتمد على نفسه في العمل والكد كسبا للقمة عيش، تسد الرمق، ولن تتجاوز غايتهم مجرد العيش في أبسط صوره،إنهم منسيون في تاريخ رُدِمَ تحت شعارات فرنسا العظيمة والمتحضرة، الأمة العظيمة التي زرعت الحضارة في أرجاء الأرض.
لكن للأسف فقد تغذى العقل الطبقي الجزائري، بعد مغادرة فرنسا الأرض بهذه الشعارات، ولا تزال فرنسا، تمارس تسلطها إلى اليوم، عبر اللغة والثقافة، والخيار المخزي للانتماء إليها. فهل يجب إحياء الكرامة والنخوة الجزائرية للانفصال الكلي عنها، وبناء جزائر تنتمي إلى ثقافتها التاريخية.
تحمل ذاكرة سي عمرو لوحة قاتمة عن هذه الدولة وموظفيها، ففي سنة 1945، حدثت مجاعة كبيرة في المنطقة، ومات الناس جوعا. فمن جهة الحرب العالمية الثانية زمان العنجهية الغربية، ثم جفاف لم تعرفه المنطقة منذ زمن بعيد. يتذكر سي عمرو، تلك الأحداث وهو لا يزال طفلا قائلا:”لقد مات الناس جوعا، كانوا يقتاتون من خشاش الأرض وحشائش البرية، لكن السيدة فرنسا، قامت بعمل يبدو لها إنسانيا لم يسبق لها، أن قامت به، فقد أحضرت كميات من الدقيق الفاسد (فرينة) وقامت بتوزيعه على الأهالي الجياع”،يتذكر سي عمرو المشهد وكأنه بالأمس ويواصل وصفه لمشهد تحقير المورسكيين الجياع” فقد وقف أحد موظفي فرنسا المتحضرة، متكبرا بحذائه الطويل، يضرب ويركل هؤلاء المصطفين، ويجلد بسوطه الجياع الواقفون في الطابور الطويل بثيابهم الرثة والممزقة، واصفا إياهم بأشنع الأوصاف، منها أسماء هي أوصاف حيوانات قذرة وكذا أوصاف التحقير التي تلسن بها وصفا لهؤلاء الذين فقدوا الحق في الحياة على أرضهم “طبعا” إن المستعمر حين يريد أن يحسن الوصف وأن يجد الكلمة المناسبة يرجع دائما إلى الألفاظ المستعملة في وصف الحيوان “فرانز فانون:معذبو الأرض”
وإذن لم يكن سهلا على هؤلاء التلاميذ الفقراء،أن يكملوا حياتهم العلمية في قسنطينة. فقد بدى بعد نهاية السنة الأولى من الدراسة، أن قدرة العائلات على مصاريف أبنائها في المعهد مضنية. ولن يكون في مقدورها التكفل بدرسهم وعيشهم في قسنطينة، لذلك لم يكن في وسع هذه العائلات الفقيرة إرسال التلميذين المرافقين لسي عمرو إلى قسنطينة في السنة الدراسية 1952/1953، فبقي الأصدقاء في القرية وغادر هو، نحو حياة التلمذة ليبقى في قسنطينة وحيدا، وكان هذا الانفصال عن رفقته وأبناء عمومته، بالنسبة لسي عمرو التلميذ، مرحلة عصيبة جدا، خبرها في يوم من الأيام، ولا يزال يشعر بمرارتها، فالوحدة في مدينة ليس له فيها قريب صعبة جدا ومرهقة للعقل والشعور. فخاف من العزلة والوحدة، لكنه أصر على استكمال مشواره العلمي، لعل أفقا قادما يمكن من تغيير الحياة. كما أن عائلته أصرت كذلك على سفره، ودأبت كدا على توفير مصاريفه،لكي يكمل مشواره الدراسي.
في أحد أصبوحات أكتوبر وبالضبط قبل 15 أكتوبر 1952،سافر سي عمرو وحيدا إلى ميلة سيرا على الأقدام قاطعا مسافة عشرين كيلو مترا كما قطعها دائما، موفرا بذلك أجرة المسافة، لعلها تكون ذات فائدة في ظروف أخرى عند حلوله في قسنطينة. فقد قام أخوه الأكبر ببيع “برنوس” في سوق فرجيوة نسجته والدته المحبة الحنون، بغرض إكمال دراسته. كان يمشي مسرع الخطى، وقلبه يرق لهذه التضحية التي قامت بها العائلة من أجله. وإذن فما عليه إلا التقشف والتوفير حتى لا يرهق الأهل بمصاريف جديدة.
كم ضحت عائلته في سبيل الجزائر، فالكل حارب فرنسا من قبل حتى تندلع الثورة، وسيكون هذا الأخ الأكبر مجاهدا فيها، أما الوالد فسيموت شهيدا، قتله جنود فرنسا في هجمة على القرية، وقد كان في طريقه إلى المسجد أحد الجمعات، مات الحاج محمد بزيه الأبيض ساجدا وقطعة كسرة في يده، أما الوالدة الحنون المحبة فقد عذبها عسكر الفرنسيس مرارا وتكرارا، لتموت بعد مغادرة فرنسا الأرض، بأمراض شتى من جراء هذا العذاب. أما عن هذا التلميذ، فقد انخرط في الثورة مباشرة، بعد إنهائه الدراسة في المعهد، وأدى فيها دورا محوريا في المنطقة التي ينتمي إليها، وسيعمل بعد ذلك بإخلاص شديد في سبيل تعليم أبناء الجزائر إبان فترة الاستقلال مخلصا صادقا، وانزوى عن كل عمل سياسي وبقي نقي السريرة واليد إلى اليوم، فكان مجاهدا مخلصا للجزائر وأورث أبناءه هذه الروح المخلصة والنقية.
نعود إليه في سنة 1953، عندما لا يزال يكد في سبيل العلم، هاهو قد أنهكه التعب وهو يسير ويسير بين جبال الجير، التي تفصل قريته عن مدينة ميلة، يتسرب الطريق أمامه كالأفعى بين الجبال بمحاذاة ذلك الوادي الصغير، وفي بعض الأحيان كان التلميذ يقطع الطريق بين غابات الصنوبر الصغيرة، المتناثرة هنا وهناك على حواف هذه الجبال الجيرية، ويتذكر أن الطريق المعبد الذي يوصل قرى ومشاتي وادي النجا، بمدن الكولون لم يكن إنجازه خدمة للانديجان المعذبين في الأرض، إنما أنجزته فرنسا في سبيل إحكام السيطرة على المنطقة، بعدما أمر نابليون الثالث، ببناء الجسر الكبير على الوادي، حتى يتم لفرنسا ضم المنطقة إلى الأراضي المنهوبة، التي تمتد على مد البصر أرضا خصبة، يعمل فيها الانديجان كالعبيد، ولم يكن يسمح لهم الدخول إلى قرى الكولون، إلا للعمل خدما في إسطبلات الخنازير، ومطابخ عائلات الكولون، فهم يقومون بكل الأعمال القذرة، أما في المساء فلن يبقى أحد منهم في القرية، قانون طبقه الاستعمار، وهو لا يزال شرخا في شخصية الجزائري، خاصة أن إدارة الوارثين للكولون، لا تزال تعاملهم بالأسلوب نفسه، على الرغم من مغادرة الكولون للأرض.
ها هي ميلة تتراءى للتلميذ من بعيد، هذه المدينة المنسية بين جبال الأطلس، عاصمة الفتح الإسلامي، مدينة أبي المهاجر دينار حيث يقبع أقدم مسجد في المغرب الأوسط. لقد أحاطت فرنسا هذا المعلم بالسكون، وحولته إلى مقام لتعبد رجال الدين المسحيين حيث بني محراب لعبادة الصليب، وبقي ذلك المكان ملكا للفاتكان إلى التسعينات، ولا تزال المدينة منسية إلى يوم الناس هذا . فقد ردمت معالمها التاريخية، بسبب الإهمال وفوضى التسيير التي تحياها الجزائر لسنوات، بالنظر إلى افتقادها الاستشراف المستقبلي، فزادت هذا الإرث الحضاري الجليل والجميل غبنا.
سرى في دروب ميلة متجها إلى وسطها لركوب الحافلة التي ستقله إلى قسنطينة. كل ما يحيط به يؤشر على فقدان الناس لوجودهم، إنهم مستعبدون فاقدون لحق الاختلاف، بين أبناء فلسفة التنوير والاختلاف، وأحفاد فرسان المعبد، ها هي الكنيسة تتصدر وسط مدينة أبي المهاجر دينار، أجراسها تدق، أما مساجدها القديمة فنسيها الزمان. لكن الشيخ مبارك الميلي بنى مسجدا في وسطها ومدرسة حياة الشباب، علمت أجيالا بأكلها، ارتادها الفتية والفتيات، وبقيت تدرس أبناء الجزائر في الاستقلال وهي تؤاخي المسجد، قائمة بجانبه تشهد على ترابط العلم والدينفي تاريخ الجزائر.
انطلقت الحافلة صباحا تطوي عباب الطريق، ها هو ينظر عبر نافذة الحافلة متأملا، أراضي شاسعة، تحيط بضياع الكولون “الفيرمات”، وهاهي أيضا أكواخ الانديجان التي تقع على حواف هذه الضياع، ولك أن تعرفها بفقرها،وسوء عمرانها وقلة متاعها، وستدرك فورا أن هؤلاء المورسكيين الجزائريين، يخدمون الفرنسيس، فالزوج خماسا والزوجة خادمة والولد راعيا، أما الجهل والأمية فهما نصيب كل العائلة.
اقترب من فيرمة الكولون المسمى بين الجزائريين بـ “ولدآليس”، هي ضيعة تحيط بها أرض ممتدة مد البصر، تتفرق فيها أغنام بأعداد كثيرة يقودها أحد المعذبين في الأرض. بمحاذاة المكان كانت هناك زاوية سيدي الزواوي، سيد يحلف برأسه النسوة رجاء، خوفا وأملا في تفريج الكربات، تذكر التلميذ الزردة التي تقام كل سنة في هذا المكان بمباركة الكولون والحاكم الفرنسي بقسنطينة، فالزوار ينسلون من كل حدب وصوب، يقدمون الولاء لهؤلاء المدَّعين، والحرب بين ولي الزاوية وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين سجال. و يشهد سي عمرو على خفوت تأثيرها، وتأثير مفهومها للدين على عقول العامة، رويدا رويدا بفعل الدروس التي يقوم بها شيوخ ومعلمو الجمعية في أنحاء المكان سواء في المساجد أو المدارس، إلى أن تم القضاء على الزاوية وخلى المكان من الزائرين والمحتفين بالزردة السنوية لسيدي الزواوي. الأمر الذي لم يكن يروق لفرنسا، جميل أن يعم الجهل ويغيب العقل في الخطايا، فبالنسبة لها العقل الذي لا يفكر يستعبد ويموت.
انتهى الطريق وشارف التلميذ على مداخل قسنطينة، ها هي الحافلة تركن في “الرود بيان في” نزل التلميذ متجها إلى أحد الحمامات للمبيت، ريثما يتسنى له كراء غرفة برفقة جديدة، وضع متاعه في المكان وأنطلق باحثا مع رفيق له عن غرفة ممكنة السعر قريبة من المعهد، بعد السعي والبحث عثرا معا على غرفة في الشارع، مكان يسكنه اليهود، دخلا لرؤية الغرفة فإذا بها غرفة حقيرة وضيقة تخنق الأنفاس تحيط بها بيوت اليهود، في هذا اليوم سيبيت في الحمام، محاطا بالبؤساء والمعذبين في الأرض، فكل من يرتاد المكان لن يتجرأ على دق باب أبخس الفنادق.
غدا هو اليوم الأول للدخول إلى الدرس في المعهد، للسنة الدراسية 1952 /1953، استيقظ في الصباح الباكر،تلملم في الفراش لهنيهة، ثم نهض متجها نحو الحمام، ولبس ثيابه وأكل قطعة كسرة كان قد جلبها معه في سفره.مشى مسرعا في دروب قسنطينة وصوت الباعة يقرع المكان، يبيعون كل شيء، أما المشترك بينهم فهو مظهرهم البائس،وكدهم في سبيل لقمة ملفوفة بالعناء والضنك،لكن هناك من يمشي بينهم تظهر عليه آثار النعمة،ورغد الحياة إنهم “الروامة أو لفرانسيس”،فهل هم وافدون أم أصبحوا أهل المكان والآخرون ينتمون إلى معالم المكان كالأحجار. لكن وسيُورثون بعدما يغادرون الأرض، التراتب نفسه،وسينقسم الجزائريون إلى حكام يمثلون صورة هؤلاء وسيبقى الجزائري دائما انديجان لا يعرف مذاق المواطنة التي حرم منها في زمان عادت فيه الإنكشارية.
هاهو المعهد كما تركه في العام الماضي،فناؤه وأقسامه،تلاميذه الوافدون من كل أنحاء الجزائر، تتباين لهجاتهم وتتميز تقاليدهم ،ولكنهم يتوحدون حول الغاية، التي جاؤوا من أجلها.ربما اختلف المكان عما كان عليه في العام المنصرم ،فبعض الأقسام أثثت بالطاولات والكراسي،بعدما كانت تفرش بالحصير .اصطف الكل أمام الأقسام بعدما عرفوا برنامج الدروس المكتوب على إحدى السبورات في الفناء.يبدو أن المواد التعليمية هي عينها،فهل مضمونها سيختلف؟هل الشيوخ هم أنفسهم؟أم هناك شيوخ جدد يؤدون دروسا؟
دخل تلاميذ السنة الثانية إلى القسم وجلس الجميع على الحصير،المعلم الداخل إلى القسم هو الشيخ أحمد حماني،فكان الدرس الأول درس الفقه،ولكنه اختلف هذه السنة،فقد كان مصدر هذا الدرس، هي رسالة أبي زيد القيرواني،الشيخ كما عهده التلاميذ ،مخلص في عمله ،يصرف جهدا لتفهيم التلاميذ،سيقضي التلميذ القادم من الأرياف يومه كالعام الماضي نفسه،ولكنه في هذه السنة فاقد لرفته،وهم أبناء عمومته الذين بكوا لأنهم لم يتمكنوا من الالتحاق بالدرس،خرج للغذاء فاشترى قطعة من الخبز أكلها وعاد إلى الدرس.
2 –محنة السكن للسنة الدراسية 1952 /1953 :بقيت ذكرى هذه السنة الدراسية، محفورة في ذاكرة سي عمرو.ففي هذه السنة كان الوضع مضنيا ليتكبد شقاء لا يوصف.فقد انتقل للسكن بين ثلاثة أماكن،لا يكاد يقر له قرار،في البدء سكن مع رفقة لا يقربونه في الشارع،حيث يسكن اليهود،وكان المكان يرعبهم ويخيفهم يخرجون بحذر ويدخلون بحذر،وذكرى أحداث قسنطينة التي كانت بين اليهود والعرب لا تزال تتردد في المكان،لا يزال يذكر الشهر الذي قضاه في هذا الحي”كانت الغرفة صغيرة بحيث إذا ما نمنا يكون الرأس في حائط والأقدام في الحائط المقابل،كما كنا في رعب وخوف ندخل متخفيين ونخرج متخفيين،كنا نطبخ الكسكسي كعادتنا ونسكب الماء تحت الحصير،ومع مرور الأيام أصبحت الروائح النتنة تنبعث من المكان،فإذا نحن ننام على الدود،قضينا شهرا،وانتقلنا إلى غرفة أخرى”
في هذه الأثناء وفد أبناء عمومته إلى قسنطينة ملتحقين بالمعهد،ففرح بهم كثيرا واستبشر،واتفقوا جميعا على مغادرة الشارع إلى غرفة أخرى،كانت تلك الغرفة في الصباط مكان محاذي للطريق الجديدة،ولكن الغرفة كان تحت الأرض ينزلون إليها بعد اجتياز مقهى قديم،كانت غرفة قديمة باردة ورطبة،بقوا فيها مدة شهرين وقد هاجمهم برد قسنطينة،ولنتصور مكانا في هذه المدينة بدون تدفئة،وبدون فراش ساخن ولباس دافئ،كانت حياتهم صعبة لا تطاق،ولكنهم سينتقلون بعد ذلك إلى عوينة الفول ،التي سيقضون فيها بقية السنة الدراسية،يحيون حياة بسيطة صعبة،ولكنها مطمئنة بسبب علاقات الود القائمة بينهم.