التربية العقلية المعرفية عند ابن باديس
بقلم: د. علي الصلابي-
يؤكد ابن باديس على ضرورة النظر العقلي في المعرفة حتى تكون يقينية وباعثة على التفاؤل فيقول: يجب على المؤمن مع تصديقه وجزمه أن ينظر في الايات، آيات الكون والإنسان ويستعمل عقله للفهم، كما تجب عليه جميع الواجبات في الإسلام لقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس : 101].
وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ *} [الطارق : 5].
وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت : 20].
ويشير ابن باديس إلى أهمية التأمل العقلي لأنه شرط أساسي لتمام الإيمان وصحته وتحقيق اليقين، ولأن مَن عَدِمَ إيمانه اليقين خرج من دائرة المؤمنين وكان من جملة الكافرين ولو نطق بالشهادتين وعمل أعمال المؤمنين.
واهتم ابن باديس بتقديم صورة للمعرفة الشاملة التي تهتم بالوجود والإدراك معاً، وبتحديد أهداف هذه المعرفة وكيفية عمل العقل ودوره.
وإذا كان أصل المعرفة عنده هو الإدراك والتحليل والفهم للمعلومات والمكتشفات، فإن ميزة هذه المعرفة الكبرى هي الإدراك الناتج عن عمليات التركيب والتحليل والتطبيق، ولولا هذه المعرفة لما ترقى الإنسان أطوار حياته وتميز عن باقي المخاوقات، وذلك لأن العقل هو القوة التي امتاز بها الإنسان وساد هذا العالم الفاني، ولأن العقل هو ميزان وبرهان على صحة كل معرفة.
أنواع المعرفة عند ابن باديس:
يرى ابن باديس أن المعرفة تتميز بالشمول والكلية والتغير وبالتطور لأن مصادرها لابد أن تجتمع بين العقل والحس والقلب، لتقدم لنا العلم اليقيني بقسميه النظري والعملي استجابة لقوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *} [الإسراء : 36].
ويمكن القول بأن ما قدمه ابن باديس من اراء في المعرفة عموماً، وخاصة عند تفسيره للاية السابقة التي يسميها آية العلم والأخلاق؛ هو رأي يرضى جميع الأطراف المتنازعة حول المعرفة، سواء أصحاب المدرسة الحسية أو العقلية، لأن رأيه يؤكد شمولية المعرفة وأهمية تعاون العقل مع الحس والوجدان.
وابن باديس يقول بالتأمل كوسيلة معرفية للظواهر. فهذا التأمل لا يكون إلا بالنظر «عقل وبصر»، وإذا كان تأمل صور العالم العلوي والسفلي بالبصر، فإن النظر في التاريخ وأحوال الأمم السابقة لا يكون إلا بالعقل، وإذ يقول ابن باديس بتطور المعرفة وشمولها ؛ فإن هذا التطور مرهون بتطور العلم وبالتالي تطور الإنسان. ولأن هذه المعرفة ترتبط بتطور الإنسان والعصر الذي يعيشه والعلم الذي يتحصل عليه فهي تمر بثلاثة أطوار أو مراحل:
ـ الطور الأول: هو طور المعرفة السطحية المشوشة حيث يقل الاعتماد على العقل، وهذا الطور يصفه ابن باديس بطور الجمود حيث كثرة المعلومات مع إهمال النظر فيها، فيبقى الإنسان فيه حيث هو جامداً، ثم لا يلبث أن تتلاشى من ذهنه تلك المعلومات المهملة حتى تقل أو تضمحل.
ـ الطور الثاني: هو طور النضج العقلي والمعرفة الصحيحة ومكتشفات العلم، حيث الاعتماد على العقل مع كثرة المعلومات وهذا الطور يصفه ابن باديس بأنه طور التقدم والحضارة.
ـ الطور الثالث: وهو طور التخلي عن العقل والمعرفة، ويسميه ابن باديس بطور الهلاك التام، حيث الانحطاط الذي يصعب فيه إدراك الحقائق أو نسبها ولا يستقيم تنظيم العقل لها، فكل ما يتوصل إليه بنظرة خطأ في خطأ وفساد في فساد ولا ينشأ عن هذين إلا الضرر في المحسوس والضلال في المعقول.
وفي هذين هلاك الفرد والنوع جزئياً وكلياً من قريب أو من بعيد، وهذا هو الانحطاط، أي انحطاط الأمم الانحطاط التام.
وهكذا بدأت محاولة ابن باديس إبراز أهمية المعرفة والعقل، وإثباته أن تمام المعرفة ليس فيما تقدمه الحواس وحدها أو العقل وحده، بل إن تمام المعرفة يتوقف على تعاون وترابط جميع مصادرها من عقل وحس وحدس فطري سليم، وهو ما سيتضح من أنواع المعرفة التي عرضها ابن باديس أثناء شرحه للأحاديث أو تفسيره لايات القرآن الكريم.
ـ المعرفة العلمية:
يقول ابن باديس: إن تمام المعرفة لا يكون إلا بتمام العلم، وهذا سبب التكريم الإلهي للإنسان التكريم العام، أما التكريم الخاص فهو تكريم الإنسان لنفسه وروحه، بتنزيهها عن مساوأئ الأخلاق وتحليتها بمكارمها، وتكريم العقول يكون بتنزيهها عن الأوهام والشكوك والخرافات والضلالات، وربطها بالعلوم والمعارف وجميع الاعتقادات، وتكريم الجوارح يكون بتنزيهها عن المعاصي وتجميلها بالطاعات، فنتحرى بأقوالنا وأفعالنا أكرم الأقوال وأكرم الأفعال، ونترفع عن جميع الرزايا والدنايا.
ويوضح ابن باديس مدى التلازم والترابط بين المعرفة والعلم عند بيان مصادر المعرفة والعلم الواحدة، المتمثلة في الحس والعقل والوجدان عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً *} [الإسراء : 36]. فهذه الآية تثبت وحدة ترابط مصادر المعرفة ووسائل العلم على اعتبار أن السمع هو القوة التي تدرك بها الأصوات بالة الأذن، والبصر هو القوة التي تدرك بها الأشخاص والألوان بالة العين، وقدم السمع على البصر لأن به إدراك العلوم وتعلم النطق، فلا يقرأ ولا يكتب إلا من كان ذا سمع وقتاً من حياته، والفؤاد هو القلب والمراد به هنا العقل من حيث اعتقاده لشيء ما.
ويميز ابن باديس بين المعرفة العلمية والحقيقة العلمية، فالعلم عنده إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة، سواء كانت تلك البينة حساً أو مشاهدة، بالسمع أو بالبصر أو برهاناً عقلياً كدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع، فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظن، ومعنى ذلك أن الإدراكات الناشئة عن الظن فهي العلم مجازاً أو الوهم.
ويحاول ابن باديس إبراز أهمية العلم ودوره المعرفي في مجال السلوك والأخلاق ولذلك قال: العلم هو المقدمة الضرورية لكل عمل، ومن دخل في العمل بغير علم لا يأمن على نفسه من الضلال، ولا على عبادته من مداخل الفساد والاختلال، وربما اغتر به الجهال فسألوه فاغتر هو بنفسه فتكلم بما لا يعلم فضلّ وأضلّ.
ـ المعرفة العقلية:
يقول ابن باديس: علمنا الله ألا ننظر في ظواهر الأمور دون بواطنها، وإلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معان عقلية، بل ونعبر من الظواهر إلى البواطن وننظر من المحسوس إلى المعقول، ونجعل من حواسنا خادمة لعقولنا، ونجعل من عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير، كما يؤكد على قيمة هذه المعرفة التي تعتمد على العقل، ودورها بوصفها الأساس في ظهور الحضارات، لأن العلم التجريبي يقوم على مبادئها، وكذلك باقي العلوم لأنها تخضع لمبدأ السببية.
وسوف تظهر قيمة هذه المعرفة وأهميتها عند عرض اراء ابن باديس في كيفية عمل العقل ومقتضى دوره وقدراته، والحدود التي يجب ألا يتخطاها، مع الإشارة إلى الخصائص العامة للمعرفة العقلية عنده.
وهناك الخصائص العامة للمعرفة العقلية:
ـ يؤكد ابن باديس على أن هذه المعرفة لا تقف عند حدود الزمان الحاضر، لأن العقل قد استطاع أن يدرك في هذا الزمان ما لم يستطع إدراكه في زمان سابق. وإن إدراك الحقائق يكون باستقراء الواقع ومجموع ظواهره الماضية والحاضرة.
ـ أن هذه المعرفة تقوم على أساس من المنطق والبرهان وحاجات الإنسان وقدراته.
ـ أن غاية عمل العقل البشري تحقيق الاستقامة والكمال للإنسان التي تتحقق بالفكر والعمل.
ويعلي ابن باديس من قيمة الفكر الذي يسبق كل فعل، ويعلل أفضلية حالة الفكر على حالة العمل في الإنسان لأن حالة الفكر هي حالة التأمل العقلي في آيات الله الكونية، وهي حالة ينفرد الإنسان لربه ويخلص له قلبه، ويتوجه إلى خالقه بالفكر والاعتبار ودوام المراقبة والإقبال، هذا في حالة الفكر، أما في حالة العمل ففيها يعالج الإنسان بعقله وحواسه شؤون حياته من أمر نفسه وأهله وما إلى رعايته من مصالحه أو مصالح غيره، فيمارس فيها الأسباب ويباشر فيها ما تقتضيه بشريته، وهو في هذه الحالة متعبدٌ مأجورٌ ما جرى فيها على حدود الله وقصد به امتثال شرعه.
ـ دور العقل وأهميته:
أكد ابن باديس أن مهمة العقل الأساسية هي التأمل، والتأمل عنده عملية إدراكية وكشفية، لأن التأمل من أجل الفهم واستجلاء حقائق الكون والاعتبار بعظمتها وتناسقها وعظيم نفعها، وعلى ذلك فإن مهمة العقل ليست ميتافيزيقية بقدر ما هي واقعية وعملية، لأن بالعقل ندرك بدائع عجيبة وأسرار، ولأن التأمل والتفكير وسائل للفهم وتحقيق أغراض الإنسان في الحياة وتحقيق صدق الإيمان واليقين.
ويصف ابن باديس مهمة العقل الإدراكية والكشفية ومجالها فيقول: ومهمة العقل مهمة إدراكية أي إدراك الآيات والظواهر الكونية في العالم العلوي والسفلي الدال على وحدانية الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته.
ومهمة العقل مهمة كشفية أي كشف الحقائق والوصول إلى الحكمة في تعاون ؛ لأن الحقيقة والعقل والحكمة مقدمات المنطق السليم وميزان الصدق في المعرفة. فبالحق والحكمة والنور المخرج من كل ظلمة والفرقان في كل شبهة والفصل في كل خصومة، بها تفتح البصائر وتطهر الضمائر وتعرف طريق الحق والهوى من طرائق الباطل والضلال.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)