نظرة الشيخ عبد الحميد بن باديس-رحمه الله- للعلم
بقلم: حمزة مزوز-
الحمد لله الذي جعل اقرأ والعلم عنوان هذه الأمة، وجعلهما السبيل الوحيد للخروج من هذه الغمة – غمة الجهل والتخلف التي فشت في واقعنا والله المستعان- وأصلي وأسلم وأبارك على النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، ورحم الله شيخنا عبد الحميد بن باديس الذي كان يدعو ربه بقوله دائما: رب توفني مسلما وألحقني بالصالحين اللهم آمين، أما بعد:
ككل عام تحتفل الجزائر بيوم جعلت منه موعدا تحيي فيه ذكرى وفاة العلامة المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس، لتجدد فيه العهد مع العلم والمعرفة، وتقاطع فيه الجهل وتعاديه، وذلك في يوم السادس عشر من أفريل، بحيث تشارك في هذا الاحتفال البهيج كل شرائح المجتمع الجزائري، وخاصة النخبة المثقفة التي تنوع وتبدع في إظهار مدى تقديرها وارتباطها بهاته الذكرى العظيمة، فنراها تحاول بيان أهم مراحل حياة الشيخ ابن باديس، أو تحلل العوامل المساعدة في تكوين شخصيته وفكره، أو تذكر بعض مواقفه المشهورة، أو تنقل ثناء العلماء عليه …
* إلا أنني أردت في يوم العلم لهذه السنة أن تكون مساهمتي استثنائية، بحيث أغوص في بعض آثار الشيخ ابن باديس – وبالتحديد أقدس آثاره وأنفس تراثه – مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير – قدر المستطاع لأستخرج لآلئ ودرر من فكر الشيخ ونظرته حول العلم نفسه وأهميته، وعلاقة الأمم به …
* إن العلامة ابن باديس كان يعرف للعلم قدره، ويدرك حقيقته وكنهه.. فنجده يصف العلم بالإمامة، ومرة يصفه بأنه سبب الحياة أو سبب لبقائها، وأخرى بأنه خاصية إنسانية.. فيقول:” العلم هو وحده الإمام المتبع في الحياة، ..فلا نعتقد إلا عن علم أو نفعل إلا عن علم” ويؤكد الشيخ ابن باديس بأسلوب القصر والحصر على أن الحياة لا تكون –فتنفى- إلا بشريانها العلم، فيقول:” لا حياة إلا بالعلم ” أما عن علاقة العلم بالإنسان فقد بين الشيخ ذلك في قوله :” فمن حرم إنسانا (فردا أو جماعة) من العلم فقد حرمه من خصوصية الإنسانية.. ” لنفهم من قوله هذا أن الإنسانية كل مركب ومن مركباتها العلم، فمن حرمه حرم كمال إنسانيته .
ومن كان يريد منا معرفة دلالة مصطلح العلم دلالة جامعة مانعة فليسمع ذلك من الشيخ ابن باديس:” والعلم إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة، سواء أكانت تلك البينة حسا ومشاهدة، أو كانت برهانا عقليا، كدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع، فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظن” ويقول أيضا رحمه الله:” ويطلق أيضا على ما يكاد يقارب الجزم ويضعف فيه احتمال النقيض جدا، كما قال تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام:{ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} فسمى القرآن إدراكهم بما شاهدوا علما، لأنه إدراك كاد يبلغ الجزم لانبنائه على ظاهر الحال وإن كان ثم احتمال خلافه في الباطن، لأنه احتمال ضعيف بالنسبة لما شاهدوه”.
قال الشاعر:
تعلم فليس المرء يولد عالما **وليس أخو علم كمن هو جاهل
وقال آخر:
تعلم فليس المرء يخلق عالما **وما عالم أمرا كمن هو جاهله
كذلك نجد الشيخ ابن باديس يوافق الشاعرين في الشطر الأول من البيتين فيقول:” إنما العلم بالتعلم، فلن يكون عالما إلا من كان متعلما، ومحمد الذي بعثه الله معلما، كان أيضا متعلما، علمه الله بلسان جبريل فكان متعلما عن جبريل عن رب العالمين، ثم كان معلما للناس أجمعين، أرأيت أصل العلم ومن معلموه ومن متعلموه ؟ ثم أرأيت شرف رتبة العلم والتعليم، لا جرم كان لرتبة التعلم آدابها ولرتبة التعليم آدابها .
في حين آخر نجده في تفسير آية:{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } يوافق الأثر القائل: اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد، وقولة إمام أهل السنة والجماعة: مع المحبرة إلى المقبرة، فيقول الشيخ:” يتعلم الإنسان حتى يصير عالما ويصير معلما ولكنه مهما حاز من العلم وبلغ من درجة فيه، ومهما قضى من حياته في التعلم وتوسع فيه وتكمل، فلن يزال بحاجة إلى العلم، ولن تزال أمامه فيما علمه أشياء مجهولة، يحتاج إليها فعليه أبدا أن يتعلم وأن يطلب المزيد، لذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو المعلم الأعظم أن يطلب من الله والذي علمه ما لم يكن يعلم أن يزيده علما، فقال:{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } كما أعقب هذا الكلام بعنوان قال فيه:” تحذير واقتداء: وجهه لمن تعلم مدة وتوقف عن ذلك ما أكثر ما رأينا من قطعهم ما حصلوا من علم عن العلم، فوقف بهم عندما انتهى إليه…وأكسبهم الغرور بما عندهم، فتعظموا وتكلموا فيما لم يعلموا فضلوا وأضلوا وكانوا على الناس شر فتنة وأعظم بلاء، فبتمثل هذه الآية الكريمة يداوي نفسه من ابتلي بهذا المرض فيقلع عن جموده وغروره ويزداد مما ليس عنده، .. ويحذر من أن يقف على طلب العلم مادام فيه زمن من الحياة ويقتدي بهذا النبي الكريم “.
وأما علاقة الأمم بالعلم فهي علاقة الأساس والبناء، فأي أمة اهتمت بالعلم كان أساسها صحيحا وبناؤها متين، وأي أمة تضيعه فشى فيها الجهل، وانتشرت فيها الفوضى وعمتها كل أنواع البلاء قال الشيخ عليه رحمة الله:” ..إن طور انحطاط الأمم الانحطاط التام وذلك عندما يرتفع منها العلم ويفشو فيها الجهل وتنتشر فيها الفوضى فتتخذ رؤوسا جهالا بأمور دينها وأمور دنياها فيقودونها بغير علم فيضلون ويضلون، فيهلكون ويهلكون، فيفسدون ولا يصلحون .. وقال أيضا عن العلم:” هو الأصل الذي تبنى عليه سعادة الدنيا والدين، وأن الممالك إنما تبنى عليه وتشاد، وأن الملك إنما ينظم به ويساس، لأن كل ما يبنى عليه فهو على شفا جرف هار، وأنه هو سياج المملكة ودرعها، وهو سلاحها الحقيقي وبه دفاعها، وأن كل مملكة لم تحم به فهو عرضة للانقضاض وللانقراض” .