دور الفكر السلفي الحداثي في معركة الهُوية “الإمام عبد الحميد بن باديس أنموذجا”
بقلم: فوزي حساينية-
إن كل من يقرأ آثار الإمام عبد الحميد بن باديس،ويدرس نشاطه على أرض الواقع، ويُنعم النظر في ذلك كله،فإنَّه سيجد نفسه بلاريب إزاء ظاهرة السَّهل المُمتنع، وإذا تساءلنا أين يكمن الامتناع بالتحديد في الفكر والعمل الباديسي؟ يكون الجواب: أن الامتناع يكمن في المزواجة المحكمة بين العمق والوضوح، والاجتهاد في جعل الأفكار في متناول أكبر عدد ممكن من الناس، ووضعها موضع التطبيق ضمن حيوية فكرية وتنظيمية تتفاعل مع جدل الواقع، وتستجيب لتحديات اللحظة، وإرهاصاتها المستقبلية، وسأتناول في هذا الحديث، توضيح بعض الجهود الذي بذلها إبن باديس في سياق مساعيه الذكية والجرئية لإعادة تصحيح حركة التاريخ الجزائري الذي جرى حرف مساره منذ سنة 1830، وذلك من خلال استعراض أربع قضايا جوهرية، كفيلة بأن تُعطينا صورة وافية عن إبن باديس المفكر ورجل الإصلاح وبطبيعة الحال إبن باديس الإنسان لكن قبل ذلك أريد أن أقف وقفة توضيحية حول المغالطات التي يثيرها البعض فيما يخص الاحتفال السنوي بذكرى يوم العلم، والتي أصفها بالإشكال المفتعل…
الإشكال المفتعل:
كلما حلَّت ذكرى رحيل رائد النهضة الجزائرية الحديثة المُصادف ليوم السادس عشر أفريل من كل سنة ، وهو اليوم الذي يُعرفُ عندنا نحن الجزائريين بيوم العلم كثيراً ما تترددُ بعض الانتقادات والتي مفادها لماذا نحتفل بيوم وفاة ابن باديس ولا نحتفل بيوم ميلاده ؟ لماذا نعكس الأمور دائماً الأممُ تحتفل بأيام الميلاد ونحن نحتفل بأيام الوفاةِ؟ والحقيقةُ أن هذه الانتقادات رغم ما يبدو عليها من منطق وبريق فهي في مُجملها ليست في محلها،واحتفالنا بيوم وفاة ابن باديس هو الأصَّحُ لأننا لا نحتفل إذ نحتفل بذكرى السادس عشر أفريل بوفاة رجل بقدر ما نحتفل باكتمالِ مشروع وبلوغهِ مرحلة النضج والتَبلورِ فابن باديس لم يفارق الدنيا إلا بعد أن قضى حياة حافلة بالأعمال والجهود ،وحتى كانت العروبة والإسلام في الجزائر قد قطعا شوطا كبيرا في الطريق إلى الانتصارِ على الإستدمار بعدما كان هذا الأخير يُمني نفسهُ باقتراب القضاء عليهما واجتثاثهما من أصولهما، وبالفعل فمن يقرأ التصريحات الكثيرة التي أطلقها الساسة والمفكرون الفرنسيون بمناسبة إحياء فرنسا لذكرى مرور مائة سنة على غزوها واحتلالها للجزائر سَيُصَابُ بالدهشة والذهول ليس بسبب ما حَفَلَتْ به هذه التصريحات من تعصُّبٍ وتطرفٍ وغرور بل ولما تضمنتهُ وأعربتْ عنه من اعتقاداتٍ راسخة في أن الجزائر قد أصبحت فرنسية إلى الأبد، وقد تكررت ظاهرة الاستعلاء والتصريحات الاستفزازية بمناسبة الاحتفال بمرور مائة سنة على غزو قسنطينة وقد كان لابن باديس ورفاقهِ في المناسبتين مواقف وطنية نادرة سجلها التاريخ بأحرف من وفاء وغيرة لا يمكن أن تُمْحَى. .
وأمر آخر يتحصل لنا من احتفالنا بذكرى رحيل الإمام ابن باديس وهو إِظهار إصرارنا على مواصلة دربه وإكمال مسيرة جهاده العلمي والعملي فإذا كان ابن باديس قد انتهى كإنسان ناداه أجله فإنَّه كرمز لا يزال حيا والمطلوب من الخلف أن يستوحوا الرمز ويُكملوا الطريق، وإيحاءات أخرى عديدة تلتصق بذكرى وفاة هذا الرجل المصلح المفكر الكبير، في حين أننا لو احتفلنا بيوم ميلاده فإننا لا نكون قد صنعنا شيئا لأن الميلاد بداية والبداية تكون عادة مفتوحة على كل الاحتمالات وينتفي فيها التعيين الذي يتحددُ عادة بالوفاة حيث يَصِّحُ أن تكون حياة المرء شاهدة عليه وعلى معدنه وعلى مواقفه في مجتمعه وأمته.
وهذا الذي ذكرته حول مغزى احتفالنا بذكرى وفاة رائد النهضة الجزائرية لا ينفِ إطلاقا مشروعية أن يحتفل البعض بذكرى ميلاد شخصية تاريخية أو فكرية أو دينية وهو ما ينطبق مثلا على احتفالنا بيوم ميلاد خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم لأن ذكرى الميلاد في هذه الحالة هي التي تحتضن الدوافع والقيم التي تجعل من لحظة الميلاد مناطا للفرحة والعبرة والوفاءِ ولكننا لا نحتفل إطلاقا بذكرى وفاة خاتم الأنبياء إذ لا مغزى ولا أفكار إيجابية يمكن أن تبرر لنا على الصعيد النفسي والأخلاقي مثل هذا الاحتفال.
والآن لنبدأ باستعراض القضايا الأربع كما يلي:
القضية الأولى: التربية والتعليم والبحث عن النخبة البديلة القائدة.
لم يكن الإمام عبد الحميد بن باديس يتوفر على وعي حادٍ وعميقٍ بمأساة المجتمع الجزائري فحسب،بل كان يملك تصورا واضحا وقناعة راسخة بأن المخرج الوحيد من تلك المأساة لا يمكن أن يتم خارج نطاق الجهود التي يجب الاضطلاع بها في مجال التربية والتعليم،وبالوسائل والإمكانيات الضعيفة المتوفرة،وهي الجهود التي اقتنع بن باديس بحتمية الشروع في بذلها بالاعتماد على الذات انطلاقا من المؤسسات الأهلية القليلة التي نجت من سياسة الإبادة الثقافية التي مارستها الإدارة الكولونيالية، ومن هنا ركز إبن باديس على رد الاعتبار للمساجد والكتاتيب- كمؤسسات- باعتبارها نقطة انطلاق مركزية في تنفيذ مشروعه التربوي التعليمي النهضوي، وفضاء يسمح بالتحرر ولو نسبيا من الحصار الذي فرضته المؤسسات الاستعمارية التي هيمنت على كل المجالات هيمنة مدروسة ومدعومة بوفـــره الوسائل والإمكانيات وبترسانة قانونية قمعية رهيبة، وفــي إطــار رد الاعتبار هذا ” درَّس الإمام عبد الحميد في المسجد الكبير، وفي سيدي قموش، وسيدي عبد المؤمن، وسيدي بومعزة، ومدرسة جمعية التربية والتعليم، والجامع الأخضر، وسيدي فتح الله، وأغلب هذه المؤسسات لاتزال موجودة إلى اليوم بقسنطينة “(1) وشاهدة على هذه الفترة العصيبة المجيدة من حياة المجتمع الجزائري وصموده الثقافي بقيادة بن باديس ورفاقه.. وفي الواقع فإن أفضل ما يُصور لنا رؤية بن باديس للمسجد ودوره هو قوله: ” إن الصلة التي تربط المسجد بالتعليم هي نفس الصلة التي تربط المسجد بالصلاة، ولما كان المسجد لا يُتصور بدون صلاة فإنه لا يُتصور أيضا بدون تعليم “(2) وحقيقة فقد آمن ابن باديس بقضية التعليم ومارسه بصورة فردية مع بداية سنة 1913 وبصورة جماعية في إطار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بداية من سنة 1931 كان التعليم عند بن اباديس أداة للوصول إلى أقصى درجات الكمال الإنساني على المستويين الفردي والجماعي، فالهدف واضح ومحدد، بناءُ الشخصية السليمة المكتملة الجوانب أخلاقيا وعلميا وجسديا وعقليا، يقول : ” إن الكمال الإنساني متوقف على قوة العلم، وقوة الإرادة وقوة العمل، وهي أسس الخلق الكريم والسلوك الحميد ” ويضيف شارحا ومؤصلا لهذه الفكرة تأصيلاً علميا ” وحياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها مبنية على هذه الأركان الثلاث: فالعمل متوقف على البدن، والفكر متوقف على العقل، والإرادة متوقفة على الخلق، والتفكير الصحيح، والإرادة القوية من الخلق المتين، والعمل المفيد من البدن السليم، فلهذا كان الإنسان مأمورا بالمحافظة على هذه الثلاثة، عقله وخلقه ودينه ودفع المضار عنها، فيثقف عقله بالعلم،ويقوم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويقَّوي بدنه بتنظيم الغذاء، وتوقَّي الأذى والتريض على العمل..” الشخصية المتكاملة هي الهدف من النشاط التربوي عند بن باديس، شخصية تكون قادرة على النزول إلى معترك الحياة وخوضه بثقة واقتدار يؤكد على ذلك بقوله: ” على المربين لأبنائنا وبناتنا أن يعلموهم ويعلموهن، هذه الحقائق الشرعية، ليتزودوا بها ويتزودن بها، وبما يطبعونهم ويطبعوهن عليه من التربية الإسلامية العالية لميادين الحياة “(3)، ولايمكن أن يغيب عن أذهاننا من قراءة الصياغة اللغوية لإبن باديس في هذه الفقرة وغيرها إبرازه المقصود للجانب الأنثوي وضرورة حصوله على حظ مناسب من التربية والتعليم، فالفتاة الجزائرية جزء صميم وبالغ الأهمية في المشروع التربوي الإصلاحي والمجتمع كله مقصود بالتربية والإصلاح وليس الرجل الجزائري وحدهُ، وتبقى الثلاثية الذهبية التي يركز عليها إبن باديس في تحليله لغائية العمل التربوي، أعني: تأسيس رؤيته للكمال الفردي والجماعي على، قوة العلم، وقوة الإرادة ، وقوة العمل، رسالة مفتوحة لمن يريدون أن يجعلوا من التربية والتعليم سبيلهم الحق إلى المستقبل، بعيدا عن عقد التاريخ، ومزالق التخندق الإيديولوجي.
ولأن بن باديس رجل إنساني وعالمي في فكره ومنطلقاته الأساسية فهو يضع من ضمن أهدافه التربوية إيجاد الجيل المتفتح على الإنسانية من حوله والقادر على خدمتها من خلال التفاعل والتداخل الحضاري،يوضح هذا الجانب من رؤيته التربوية بقوله:” إن خدمة الإنسانية في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها هو ما نقصد إليه ونعمل على تربية أبنائنا عليه”.
ومن المسلم أن الهدف المرحلي الأساسي للإمام عبد الحميد فضلا عن ضمان الصمود الثقافي،هو إبْتِعَاثْ الشخصية الجزائرية بمقوماتها التاريخية الأصيلة قبل أن يتمكن الاستعمار من قبرها إلى الأبد، ولذلك فإن المتأمل في الجهود التربوية والتعليمية والنشاط الصحفي للإمام ولجمعية العلماء ككل، يجعلنا ندرك وكأن بن باديس كان في سباق مع الزمن الاستدماري متوسلا إلى هدفه الرئيس ، وهو إيجاد نخبة بديلة قائدة تنبثق من داخل المجتمع الأهلي- المُهيمن عليه- وتكون قادرة في أسوأ الظروف وبأقل الإمكانيات على مواصلة السير بالمجتمع الجزائري وصولا به إلى مرحلة الإقلاع النهضوي، وهي المرحلة التي لا يمكن عندها للاستدمار أن ينجح في تحقيق غرضه النهائي في إبادة الشخصية الجزائرية ومحوها من سجل الأمم عبر حذفها من ذاكرة التاريخ، وهذه الرغبة الواعية المُلحة في إيجاد النخبة البديلة القائدة هي ِّسرُ الزيارات والتنقلات الكثيرة التي كان يقوم بها بن باديس إلى مختلف جهات الوطن محاضرا ومدشنا للمدراس والنوادي، وواعظا لأبناء وطنه وحاثا لهم على إصلاح ذواتهم من أجل أن يكونوا نافعين لأنفسهم ومجتمعهم ودينهم ووطنهم، فالفكرة الأساسية في التحليل الباديسي هي أن إصلاح حال المجتمع الجزائري لا مناص من أن يبدأ من ضمير ونفسية الفرد الجزائري- بالتزامن مع إنشاء وتطوير العمل المؤسساتي الجماعي – ليكون من الممكن الوصول إلى التعميم التدريجي لحركة الإصلاح ونشرها على نطاق أوسع فأوسع، مع مهادنة الإدارة الاستعمارية ومداراتها قدر الإمكان وتَحَمُّلْ تعسفاتها دون الاستسلام لإرادتها حتى يؤدي الزمن الإصلاحي مفعوله الانقلابي المنتظرلأن بن باديس كما يظهر من كتاباته الكثيرة كان موقنا أن مستقبل الجزائر في النهاية لا يمكن أن ينبثق فجره إلا عبر إشعال النار في ستائر الظلام الاستعماري المُسدلة على طول الوطن وعرضه.
فالنخبة القائدة التي كان إبن باديس يعمل على إيجادها هو نخبة بديلة عن النُختين اللتين كانتا تسودان المجتمع الأهلي في الجزائر، فالنخبة الأولى هي تلك التي يتكون أفرادها من الجزائريين الذين تخرجوا وتكوَّنوا في المدارس الفرنسية، ورغم بعض الفروق التي شهدتها هذه النخبة فإن بن باديس كان يعرف أنها نخبة لا تملك بقوة الأمر الواقع مصيرها فطموحاتها لا تتجاوز الدفاع عن أهداف محدودة، أما النخبة الثانية فهي تلك التي تمثل الأفراد الذين يمثلون الجانب المحافظ الذي ظَّل على علاقة بمقومات المجتمع الجزائري، لكن في حدود ما أسماه إبن باديس بــ” الإسلام الوراثي ” أي الإسلام كتجربة تاريخية، وبالوضعية التي انتهى إليها في الربع الأول من القرن العشرين، والإسلام الوراثي يعترف له الإمام عبد الحميد بدوره في المحافظة على مقومات الشخصية الجزائرية في حدودها الدنيا إزاء الواقع الاستعماري المفروض، لكنه يؤكد على أن الإسلام الوراثي لن يستطيع تحقيق أهداف النهضة الإصلاحية لكونه يفتقر إلى القدرات الفكرية والتحليلية الضرورية التي يتطلبها العصر، فماهو الحل ؟ هنا يطرح بن باديس رؤيته الخلاَّقة لما أسماه بــ” الإسلام المكتسب ” كمقابل للإسلام الوراثي، والإسلام المكتسب هو المُعول عليه لأنه إسلام ينبني على الوعي المتكامل، والتفاعل العقلي والنفسي للإنسان المسلم مع حقائق العصر، وموروثات التاريخ، وكل الجهد التربوي والتعليمي والإعلامي للإمام بن باديس كان يصبُّ في اتجاه إرساء قواعد راسخة لإسلام مُكتسب قادر على إعادة الحركة إلى الزمن الجزائري، إن الطرح الذي قدمه بن باديس حول رؤيته للإسلام الوراثي والإسلام المكتسب، لا يدل فقط على عبقرية في التحليل والتنظير بل يكشف عن القوة الأخلاقية الهائلة، والالتزام التاريخي الذي أظهره عبد الحميد بن باديس بقضية الإصلاح فهو لم يستغل ضعف مجتمعه ليشن الغارات على النقاط الضعيفة في التراث، ويبني لنفسه صورة المصلح الثائر على الجمود والجهل، بل وظَّف قدراته في التحليل والتشخيص الاجتماعي لمصلحة أبناء وطنه الذين آل على نفسه أن يكرِّس حياته من أجلهم، ومن هذه الناحية يستحق الإمام عبد الحميد لقب ”المثقف” عن جدارة لاشك فيها، ومن هذه الناحية أيضا على المثقفين اليوم أن يتعلموا من سيد الأئمة، وباعث الفكر، الذي كَانَهُ عبد الحميد بن باديس.
القضية الثانية: الوحدة المغاربية بُعد جوهري راسخ في فكر ونشاط الإمام
البعد الوحدوي المغاربي لدى بن باديس بُعدٌ راسخ، كما أن الرؤية الباديسية لمسألة الوحدة المغاربية أكثر عمقاً واتساعاً من رؤية الكثير من السياسيين والمثقفين المغاربيين في الوقت الراهن، والمُلاحظ هنا أن ابن باديس وهو رجل إصلاح قبل كل شيء لم يكن يرى أن قضية الوحدة المغاربية لا تعنيه بحجة أنه يؤمن بالوحدة الإسلامية التي يدعو إليها الإسلام كما كان يقول بعض رجال الإصلاح في المشرق العربي: ” أن قضية الوحدة العربية لا تعنيهم في شيء وأنهم إنما يؤمنون بالرابطة الإسلامية لا غير”، بل إن ابن باديس في دعوته إلى وحدة المغرب العربي كان منطقيا وواضحا كل الوضوح في دعوته، فقد كتب في مجلة الشهاب سنة 1937يقول: ” حيثما توجهنا إلى ناحية من نواحي التاريخ وجدنا هذا المغرب العربي طرابلس تونس الجزائر مراكش يرتبط بروابط متينة روحية ومادية تتجلى بها وحدته للعيان ولسنا نريد هنا أن نتحدث عن التاريخ القديم وإنما نريد أن نعرض صفحة من التاريخ الحديث الجاري”… فالوحدة المغاربية قضية بديهية في فكر ابن باديس والمطلوب هو العمل على تجسيدها وجعلها أمرا واقعا حيا يفرض نفسه في عالم الوجود المعاصر كما فرض نفسه في عالم الوجود خلال العصور الماضية، ولذلك لم يكن ابن باديس يفوِّتُ أية فرصة أو مناسبة لشرح وجهة نظره والتأكيد على إيمانه بوحدة المغرب العربي ووجوب اهتداء أبناء الشمال الإفريقي وسعيهم إلى تجديد عهدهم بالوحدة فلدى حضوره في تونس لتأبينية المفكر والمؤرخ التونسي البشير صفر في شهر جويلية سنة 1937 ألقى خطبة خصص جزءا هاما منها لمسألة الوحدة المغاربية ومما قاله في خطبته التاريخية تلك: ”إن الروابط عديدة بين تونس والجزائر بل وبين المغرب العربي بصفة عامة طرابلس تونس الجزائر المغرب الأقصى كالروابط العلمية والروابط السياسية التي ذاقت بها هذه الأقطار حلاوة الاستقلال تحت ظل الإسلام والتاريخ يشهد على ذلك..”.فالإمام لم يكن يستثنِ ليبيا من رؤيته المغاربية في حين وقف البعض في وقته بل وإلى غاية اليوم بحدود الشمال الإفريقي عند تونس والجزائر والمغرب فقط، والحقيقة أن قراءة أعمال ابن باديس ستكشفُ لنا أن مسألة الوحدة المغاربية ليست من المسائل العرضية أو المناسباتية العابرة في فكر وسلوك هذا الرجل المفكر الكبير بل تعدُ من صميم انشغالاته وتُشكل إحدى أهم بالقضايا التي كرَّسَ لها جهده ونضاله بحيث يمكننا اليوم أن نكتب ونتحدث بثقة تامة عن رؤية باديسية لقضية الوحدة المغاربية.
وتجدر الإشارة هنا إلى إلى أن بن باديس في أحاديثه وإشاراته إلى الوحدة المغاربية فإن جانب العروبة في تناوله يطغى على الجانب الديني ، مما يدل على أن الوعي الوحدوي عنده وعي حديث مؤسس وليس مجرد استلهام ديني عاطفي لفكرة الوحدة كإطار عام، وتتضح هذه الفكرة بصورة أعمق إذا عدنا مثلا إلى بعض البيانات التي كان قد أصدرها الطيب العقبي(4) وأعلن فيها عن استعداده للعمل التوافقي من أجل الوحدة المغاربية لنجد أن الطيب العقبي يميل إلى إضفاء وتغليب الطابع الديني في نظرته للوحدة المغاربية من خلال تأكيده على عبارة المغرب الإسلامي على خلاف بن باديس الذي يوظف عبارة المغرب العربي..ويستطيع القارئ المهتم أن يعود مثلا إلى المجلد الثاني من آثار بن باديس التي أعدها وصنَّفها الدكتور عمار طالبي ليقف على حقائق ومواقف وحدوية مدهشة وغاية في العمق والحداثة لإمامنا الراحل.. حقائق ومواقف نحن أحوج ما نكون إلى استلهامها وإعادة قراءتها في ظل ما تعانيه فكرة الوحدة المغاربية اليوم من تَنَّكُر وجُحُود وخذلان بسبب استقالة المثقفين الوحدويين وإضرابهم عن التفكير! أو بكلمة واحدة بسبب خيانة من يُفترضُ فيهم أنَّهُمْ يشكلون النخبة المفكرة في واقع ومستقبل مغربنا العربي الأمازيغي الكبير.
القضية الثالثة: نظرية الدوائر المتكاملة في مسألة الهوية.
لن أستعرض هنا بالتفصيل المقولات التي صاغها ابن باديس حول مسألة الهوية وهي مقولات لا تزال تُبرهن على رَاهِنِيَة فكرية مُلْهِمَة وإنماسأكتفي بعرض الإطار العام الذي وضعه ابن باديس لقضية الهوية التي هي من أهم القضايا التي تناولها الإمام الراحل بالدَّرسِ والتحليل يقولفي إحدى مقالاته: ” تختلف الشعوب بعضها عن بعض بمقومات شخصيتها وخصوصياتها تماما كما يختلف الأفراد فيما بينهم ولا دوام لشعب بلا دوام مقومات شخصيته.. والهُوية الوطنية هي مجموع تلك المقومات وتلك الخصوصيات وهي اللغة التي بها يتكلم وفيها يتثقفُ والعقيدة التييُقيم عليها أسس وُجُودِهِ وذكريات التاريخ التي بها يحيا وعلى نهجها يرسمُ مستقبلهُ وكذلك الإحساس الذي يشاطر به من له نفس المقومات والخصوصيات”. إذن، اللغة والعقيدة وذكريات التاريخ والإحساس المشترك مقومات أساسية للهُوية في نظر ابن باديس ولا أحد يمكنه أن يدعي اليوم أن مقوماً من هذه المقومات يمكن تجاوزه أو الاستغناء عنه، فكأن ابن باديس كان يكتبُ للمستقبل البعيد بقدر ما كان يكتب لحاضره المباشر المعيش ! وما يؤكد هذه الحقيقة ويبرزُها أكثر هي محاضرته الخالدة (لمن أعيش؟ ) التي ألقاها في جانفي 1937 وبسط فيها نظريته حول الدوائر المتكاملة في تحليل مسألة الهُوية فبعد أن يشرح أهمية القيم التي جاء بها الإسلام لمصلحة الشعوب والأمم قاطبة باعتباره الدين الذي وضع الدائرة المُثلى والسقف الأعلى للكمال الإنساني يقول: ”..أما الجزائر فهي وطني الخاص الذي تربطني بأهله روابط من الماضي والحاضر والمستقبل بوجه خاص..وأنا أشعر بأن مقوماتي الشخصية مستمدة منه مباشرة وأحسب أن كل ابن وطن يعمل لوطنه لابد أن يجد نفسه مع وطنه الخاص في مثل هذه المباشرة وهذا الاتصال.
نعم إن لنا وراء هذه الوطن الخاص أوطانا أخرى عزيزة علينا ونحن فيما نعمل لوطننا الخاص نعتقد أنه لابد أن نكون قد خدمناها وأوصلنا إليها النفع والخير عن طريق خدمتنا لوطننا الخاص.
وأقرب هذه الأوطان إلينا هو المغرب الأدنى والمغرب الأقصى اللذان ماهما والمغرب الأوسط إلا وطن واحد لغة وعقيدة وآدابا وأخلاقا وتاريخا ومصلحة.
ثم الوطن العربي الإسلامي ثم وطن الإنسانية العام وما مثلنا في وطننا الخاص وكل ذي وطن خاص إلا كمثل جماعة ذوي بيوت من قرية واحدة فبخدمة كل واحد لبيته تتكون من مجموع البيوت قرية سعيدة راقية فنحن إذا كنا نخدم الجزائر فلسنا نخدمها على حساب غيرها ولا للإضرار بسواها ولكن لننفعها وننفع ما اتصل بها من أوطان الأقرب فالأقرب. هذا معنى قولي أعيش للإسلام وللجزائر.”(5). الإمام يريد القول في تلك الفترة العصيبة أن الهُوية الجزائرية يستحيل أن يتوصل الاستدماريون إلى هدفهم في القضاء عليها لأنها فضلاً عن قوتها الذاتية محصنة ومحاطة بسلسلة من الحصون والقلاع العصِّيةِ على التدمير والاختراق ففي هذا المقال حدد ابن باديس وعدَّدَ دوائر النظر والعمل السياسي والفكري وهي دائرة الوطن الجزائري ثم دائرة المغرب العربي ثم الدائرة العربية الإسلامية ثم دائرة الإنسانية ككل فالإيمان الديني والبعد الوطني والنزعة الإنسانية القوية الراسخة لا تطغى على الفكرة المغاربية لدى ابن باديس الأمر الذي يُظهرُ أصالة فكره السياسي وتفردهِ. وقد لاحظ المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي أنَّهُ قد تم استخدام وتوظيف هذه النظرية من قبل العديد ليس من رجال الفكر فحسب بل ورجال الحكم والسياسة كذلك وهو ما نجده مثلا في كتاب فلسفة الثورة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي أشار فيه إلى دوائر العمل والتحرك المصري وقد سجل جورج طرابيشي وأقرَّ بأنَّ أول من صاغ نظرية الدوائر المتكاملة في تحليل مسألة الهُوية هو الإمام المصلح ابن باديس.
و تعدُ هذه النظرية بواقعيتها وسُموِها الإنساني ضربة قاصمة لدعاة العنصرية والتفوق العرقي وصفعة مُوجعة لأنصار التمييز والقطيعة بين الأعراقِ والأجناس.
القضية الرابعة: قضية العُروبة والأمازيغية في التحليل الباديسي أو الواقعية المُلْهِمَةِ.
تحتل العروبة كانتماء وكرؤية للذات والعالم مكانة مركزية في فكر وعمل إمامنا وكتاباته التي تناول فيها بالحديث العروبة وما يتصل بها من هموم تكشف عن أن باديس كان واعيا تماما لإرادة الفرنسيين في القضاء على أي صلة بين الجزائر والعروبة بل بين المغرب العربي كله وعروبته والعروبة في الفكر الباديسي انتماءٌ ديناميكي وقوة تفاعلية أخذاً وعطاء وليست مقولة جاهزة لقولبة الذات أو تصنيف الآخرين وهو ما أبرزهُ ابن باديس من خلال نظرته الفريدة لقضية الهُوية كدوائر متكاملة في صيغة اندماج تبادلي مُتجدد ،ويمكن الرجوع في هذا الصدد لكتاب ابن باديس وعروبة الجزائر للكاتب الراحل محمد الميلي، ولكن ابن باديس الذي كان يُوقع العديد من مقالاته ب(الصنهاجي) والكتامي والزواوي كان واعيا بنفس القدر للبعد الأمازيغي ومدركا للدور الحاسم الذي نهض به الإسلام في بناء وشائج الوحدة والتماسكِ الذي لا ينفصم فقد كتب في فيفري سنة 1936: ”إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرنا ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء وتؤلف بينهم في العسر واليسر وتوحدهم في السراء والضراء حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا أمه الجزائر وأبوه الإسلام وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات إتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدرس لخدمة العلم.فأي قوة بعد هذا يقول عاقل تستطيع أن تفرقهم “(6)؟. والملاحظ أن هذا المقال قد حمل عنوانا مثيرا وذي رمزية بعيدة “ما جمعته يد الله لن تفرقه يد الشيطان “، فإبن باديس يؤكد على حقيقة أن الجزائر كأمة ” كانت أمازيغية من قديم عهدها، وأن جميع الأمم التي اتصلت بها لم تستطع أن تقلبها عن كيانها ، أو تُخرجها من آمازيغيتها أو تدمجها في عنصرها، بل كانت هي التي تبتلع الفاتحين فينقلبون إليها ويصبحون كسائر أبنائها “(7) فالعروبة والأمازيغية في فكر السيد الإمام اتحدا وامتزجا بإرادةِ التاريخ وقوته المستمدة من إرادة إلهية لا يمكن التحايل عليها أو إحباط توجهاتها وقد يرى البعض في مثل هذه القناعة التي أعرب عنها السيد الإمام بخصوص المصير الواحدِ المُوَحَدِ للعرب والأمازيغ حِسّاً رُؤْيَوِياً متافيزيقياً مُفارِقاً ولكنَّه في جوهره حِسّ واقعي يستند إلى قوة الحقائق التي أنشأتها القرون وأستطاع ابن باديس بعبقريته أن يضع يده عليها وأن يصوغها صياغة حية ويعيد بذلك إدخالها إلى دائرة الوعي الوطني وهي فوق ذلك قناعة تكشف بوضوح عن القوة الروحية الإيمانية التي توفر عليها رجل قُدر لهُ أن يتصدى لمأساة شعبه.
وأختم هذا الحديث بالإشارة إلى بعض ما قاله المؤرخون ورجال الفكر في التجربة الباديسية ومن هؤلاء المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان الذي أعتبر أن ابن باديس بمنهجه وجهوده الذكية في التربية والإصلاح قد أصبح في وقته ”أقوى شخصية إسلامية في المغرب العربي”(8) أما الدكتور الأردني فهمي جدعان فقد خصص لجمعية العلماء المسلمين حيزا هاما من كتابه الفذ (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) مسجلا ومؤكدا من بين أمور أخرى كثيرة على حقيقة أن ما أنجزته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بريادة الإمام عبد الحميد بن باديس يمثل خير تمثيل الصورة التي يمكن أن تتخذها الدعوة إلى النهضة من خلال العلم والتربية الأخلاقية.. ونسجلُ هنا أن المجتمع الجزائري والمغاربي والعربي بهمومه التربوية والحضارية بل والإنسانية ككل تستطيع أن تجد في تراث ابن باديس بدائل مشرقة لمستقبل إنساني أفضل.
الهوامش:
1– آثار إبن باديس، الدكتور عمار طالبي، المجلد الأول، الطبعة الثالثة 1997،الصفحة رقم114.
2– أعلام المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي بالسيف والقلم 1830-1954، بوعلام بسَّايح، طبعة الجزائرعاصمة الثقافة العربية2007.ص 258.
3– للإطلاع على ماكتبه بن باديس حول مسألة التربية، يُنظر المجلد الأول، من الآثار الكاملة، المُشار إليه من قبل.
4– لأخذ فكرة وافية عن أعمال ورسائل الشيخ الطيب العقبي، يمكن العودة إلى كتاب الشيخ الطيب العقبي ودوره في الحركة الوطنية الجزائرية، للأستاذ أحمد مريوش، طبعة الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007.
5– النص الكامل للمحاضرة، يُنظر في الجزء العاشر من مجموعة الشهاب.
6– ابن باديس وعروبة الجزائر، محمد الميلي، صفحة رقم 50،طبعة الجزائر عاصمة الثقافة العربية2007.
7– نفس المصدر، الصفحة 47.
8– قرأت هذا قول شارل أندري جوليان في أحد دروس التاريخ الموجهة للصف النهائي، والمعدة من قبل المركز الوطني للتعليم عن بعد.
فوزي حساينية- كاتب وإطار في قطاع الثقافة- الجزائر-