الأديب المترجم الراحل أبو العيد دودو: ألق الموهبة وعمق الإنسانية
بقلم: عبد الحميد عبدوس-
أبو العيد دودو نابغة من نوابغ الادب الجزائري، مثقف موسوعي وقامة أكاديمية سامقة ،فهو من الذين أثروا الثقافة العربية بإنتاجات رصينة ومتنوعة، توزعت على الفن القصصي والمسرحي والنقد الأدبي والترجمة، يعتبر رائد الأدب المقارن في الجزائر، فقد مكنه اتقانه للعديد من اللغات الحية من مد جسور التواصل الثقافي بين قراء العربية وروائع الثقافة الإنسانية، فترجم من أكثر من لغة وخصوصا من اللغة الألمانية إلى العربية ومن العربية إلى الألمانية. . وقد وصلت أعماله المترجمة من الألمانية إلى العربية إلى أكثر من 24 عملا بين مطبوع ومخطوط. يقول الدكتور مولود عويمر: «لقد أسس الدكتور أبو العيد دودو القواعد الأولى لمدرسة الترجمة من الألمانية إلى العربية في الجزائر غير أن الخلف الذي جاء من بعده لم يواصل المسيرة إلا استثناءات قليلة في مجالات محدودة كالفلسفة بينما الترجمات في المجالات الأخرى وخاصة الترجمات التاريخية تكاد تكون منعدمة رغم قيمتها العلمية التي لا تقل عن الكتابات الفرنسية والإنجليزية حول تاريخنا الوطني الثري».
كان الأديب أبو العيد دودو عضوا نشيطا في المكتب الإداري لاتحاد الكتاب الجزائريين إلى جانب الأديب مالك حداد والناقد الأكاديمي عبد الله الركيبي، والشاعر الكبير محمد الأخضر السائحي، والأستاذ الدكتور محمد مصايف، والروائي الكبير الطاهر وطار، والكاتب الأديب عبد الحميد بن هدوقة والشاعر الأديب أحمد الطيب معاش، والأديبة المبدعة زهوز ونيسي، والفيلسوف الباحث محمد العربي ولد خليفة، والشاعر الكبير أبو القاسم خمار، والأديب مرزاق بقطاش، والروائية الشاعرة أحلام مستغانمي، وغيرهم من كبار الكتاب الجزائريين رحم الله المتوفين منهم وأطال في أعمار الذين ما زالوا أحياء يرزقون.
تعرفت على الأديب المبدع الدكتور أبو العيد دودو في سبعينيات القرن الماضي حيث درست عليه مادة الأدب المقارن في معهد اللغة والأدب العربي بجامعة الجزائر، كان الأديب الراحل أبو العيد دودو رجلا وسيم الملامح، أنيق المظهر، حلو المعشر، ورغم كل ما كان يتمتع به من ظرف وطرافة وحس الفكاهة إلا أنه كان رزينا وجادا في مهمته التدريسية، الذي تولى إدارته في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين. وقد تشرفت بمرافقته ضمن الوفود الجزائرية في زيارات ثقافية لعدة دول عربية وأوروبية في فترة الثمانينيات خلال عملي كرئيس للقسم الثقافي في جريدة الشعب الوطنية.
ولد أبو العيد دودو في13 جانفي 1934 بدوار تمنجار بدائرة العنصر، بولاية جيجل درس مبادئ اللغة العربية وقواعد الإسلام في كتاب القرية ثم سافر إلى قسنطينة للدراسة في معهد عبد الحميد بن باديس ثم انتقل إلى تونس لمواصلة الدراسة في جامع الزيتونة التي تحصل منه على الشهادة الأهلية في عام 1951، بعدها انتقل إلى العراق للدراسة في المعهد العالي للمعلمين في بغداد، وحصل هناك على الإجازة في الأدب العربي عام 1956. حصل على منحة من جبهة التحرير الوطني لمواصلة الدراسة العليا في النمسا وتخصص في دراسة الأدب العربي والفارسي والعلوم الإسلامية والفلسفة واللغات القديمة ولاسيما اللاتينية، وحصل على الدكتوراه في السابعة والعشرين من عمره، برسالة عن ابن نظيف الحموي عام 1961. عمل بعد ذلك في نفس الجامعة التي تخرج فيها، ثم جامعة كيل Kiel في ألمانيا عاد في ستينيات القرن الماضي إلى وطنه الذي كان قد تحرر من نير الاحتلال الفرنسي واستعاد سيادته الوطنية في سنة 1962 فعمل أستاذاً في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر.
انتقل إلى رحمة الله في 16 جانفي 2004 عن عمر ناهز 70 سنة وترك تراثا أدبيا وثقافيا ثريا ومتنوعا
فقد أصدر عدة مجموعات قصصية أشهرها «بحيرة الزيتون» (1967) و«دار الثلاثة» (1971) و«الطريق الفضي» (1981) و«الطعام والعيون» (1998)،وتأملات اجتماعية صدرت طبعتها الأولي سنة 1985 تحت عنوان (صور سلوكية) كما كتب في المسرح نصين هما «التراب» (1968) و«البشير» (1981)، كما كتب في الدراسة النقدية «كتب وشخصيات» (1971) و«الجزائر في قصص الرحّالة الألمان» (1975). أما أهم أعماله فقد كانت في الترجمة إذ ترجم العديد من المؤلفات الأدبية العربية إلى اللغة الألمانية، وترجم أيضاً إلى العربية «الحمار الذهبي»، الذي يعد أول الأشكال الروائية في تاريخ الكتابة الأدبية، للكاتب الجزائري الأصل اللاتيني اللسان لوقيوس أبوليوس من القرن الثاني الميلادي.
تتميز كتابات دودو بالنظرة النقدية الثاقبة الجامعة بين الاتزان والسخرية ويتميز أسلوبه الأدبي بالرشاقة والسلاسة، وقد صور في أغلب أعماله الإبداعية ما آل إليه المجتمع من انحدار للقيم وانحراف عن تلك المثل التي جاءت بها ثورة نوفمبر والتي عاد إلى أرض الوطن من أجل المساهمة في تجسيدها برغم المكانة التي وصل إليها بجده واجتهاده في جامعات الغرب. وتخلو لغة دودو الأدبية من الألفاظ النابية والمستفزة دون مبرر فني، فرغم روحه المرحة إلا أنه كان يتميز بأدب جم يطبع شخصية المربي فيه، ولذلك لم يكن يتردد في انتقاد أقرب أصدقائه عندما يلتمس فيهم ما يخل بسلامة الذوق.
ويروي في ذكرياته عن صديقه المقرب الأديب عبد الحميد بن هدوقة قائلا: «اجتمعنا مرة بعد صدور روايته (نهاية الأمس)، فأخذت أناقشه في بعض القضايا، التي اعتبرتها أنا مخلة بالجانب الفني فيها، وكان في مقدمتها المشهد الوصفي لعملية ختان طفل من الأطفال المسجلين في المدرسة، فقلت له ما يلي على التقريب: « بعد حديث عاطفي جميل، صدر عن زوج يؤنب نفسه ويلومها على موقفه من زوجه الرؤوم، ترسل هذا الزوج فجأة لينام بمساعدة حبوب منومة تاركا الغد للغد، على حد تعبيرك، وتنقلنا إلى شيء لا علاقة له بالرواية، فتصف لنا النسوة وهن يعددن الحفرة ليدفن فيها قلفة الطفل بعد ختانه. فما الذي دعاك إلى الحديث عن هذا المشهد في النهاية الأولى؟» فقال لي ما معناه: «هذا تقليد شائع عندنا ينبغي أن يسجل وينقل إلى الأجيال القادمة ليبقى ماضيا حيا وعلامة بارزة مثل غيرها في تاريخنا الاجتماعي». فقلت له. «حقا، ولكن في غير هذا المكان، في مقال أو دراسة من دراساتك مثلا، ولا يعفيك من هذا حذفك له في النهاية الثانية!» فابتسم وقال: «الذي حدث حدث، وما أخذته الريح لا ترده». وضحك بعدها، إن لم تخني الذاكرة، ضحكة طويلة حين قلت له مازحا: «خاصة إذا كانت ريح الجنوب» (وهو عنوان رواية لعبد الحميد بن هدوقة)!.
يؤكد الأديب والناقد الدكتور أحمد منور على أن أبو العيد دودو قد أسهم إسهامات كثيرة ومتعددة في مختلف مجالات الثقافة والأدب والتاريخ الوطني، وتركزت إسهاماته بالخصوص في مجالين اثنين: الترجمة التي كرس لها معظم حياته العلمية، من جهة، والإبداع الأدبي من جهة أخرى، حيث قدم في المجال الأول أعمالاً كثيرة متميزة جمعت بين التاريخ والأدب والرحلات، وقدم في المجال الثاني أعمالاً عديدة أيضاً بمقادير متفاوتة، شملت القصة والمسرح والشعر والرواية، وكان في الأولى مثالاً للباحث الأصيل، والمحقق المدقق، والمترجم البارع، وكان في الثانية مثالاً للفنان الموهوب، والشاعر المرهف الإحساس.