رسالة استفتاء من برج الغدير للعلامة ابن باديس سنة 1935م
بقلم: الصالح بن سالم-
برج الغدير هي إحدى البلدات العريقة في الضفة الجنوبية الغربية لولاية برج بوعريريج ذكرت من قبل عديد الرحالة العرب خلال العصر الوسيط بحكم أنها امتداد للدولة الحمادية بقلعة بني حماد بالمعاضيد، وقدموا عنها أوصاف جميلة تخص مائها العذب وفواكهها واسعة الشهرة، كما كانت برج الغدير إحدى قلاع جمعية العلماء المسلمين أين تأسست بها عديد المساجد والمدارس، وقامت بها حركة اصلاحية كبيرة قادها كل من العلامة نويوات موسى الأحمدي والشيخ السعيد طورش وابنه العلامة محمد رئيس فرع الجمعية ببرج بوعريريج والشاعر الشهيد عبد الكريم العقون والمفتي الشيخ محمد الطاهر خبابة والعلامة بلكعلول وغيرهم.
وفي سنة 1935م وفد سؤال على الشيخ عبد الحميد بن باديس من شخص يقطن إحدى قرى برج الغدير لم يرد أن يذكر اسمه واكتفى بلقب (مسترشد) يقول في الرسالة الموجهة للإمام ابن باديس:
سادتي العلماء الأعلام، حمال الشريعة، ما قولكم حفظكم الله وأعلى مناركم في عرش من سكان البادية يحتوي على مائتين وخمس وثلاثين دارا - قرى صغيرة وديارا متفرقة - وستمائة رجل متوغلين في البداوة ذوي غلظة وفظاظة يخاف الراكب أن يجوب أصقاعهم نهارا.
رأى بعض المصلحين أن ينقذهم مما هم فيه ويستل منهم أخلاقا فاسدة وعوائد ممقوتة ولا سبيل إلى ذلك إلا ببناء مسجد يجمعهم ومعلم حاذق يعلمهم واجبات دينهم ويربيهم تربية شرعية اصلاحية ويغرس في نفوسهم روحا وطنية وشهامة عربية وأخلاقا دينية، فعود الشيوخ وان عسى، فان فنن الكهول لين وغصن الشباب لا زال رطبا ميادا تهزه نسمات الصبا ولا يحرك عواطفه ريح السموم فأرشدهم إلى بناء مسجد يصلون فيه، ويتعلمون واجبات دينهم فأجاب كلهم بالسلب إلا أن تصلح وتقام فيه الجمعة، ورأى أن لا بد من اجابة رغبتهم وإلا فانهم لا يرجعون عما هم فيه ولأن الجمعة هي التي تجمعهم، فبنوا مسجد جمعة منذ عامين وأقاموا فيه دارا، ومدرسا قام فيهم بالوعظ والارشاد والدروس العلمية النافعة فحصلت النتيجة والحمد لله، فقام بعض من يبغونها عوجا ويودون لو بقي هذا العرش المسكين في غفلة وتيه وجهالة ليأكل من لحمه ويشرب من دمه ويودع فيه سمومه القتالة وأمراضه الوبئة شأن من ينتسب إلى الولاية المزعومة والدعاية الفارغة وحكم ببطلان الجمعة محتجا بأن المسجد لم يكن وسط القرية ولم ينعكس عليه دخانها.
المسجد وان لم يكن في وسط القرية حقيقة فهو فيها حكما لأن ديار العرش وقراه مسترسلة وحائطة بالمسجد من كل جهة هذه أثر هذه واقرب دار إليه تبعد عنه بعشر مترات، وما هي فائدة انعكاس الدخان اذا حصل المطلوب، أو قرب الدار إذا لم يكن نافعا.
على أن قرب الدار ليس بنافع ... إذا لم يكن للمرء في الدين وازع
والمسجد لا ينفك مفعما بالمصلين مملوءة بهم رحابه، والعرش ان حكمنا عليه ببطلان الجمعة تفرق شذر مذر ورجع إلى سيرته الأولى وعاثت فيه يد الدجالين بالسلب والنهب. أفيدونا الجواب أجركم الله لينزجر الكائد ويطمئن الرائد.
وقد رد الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس على الرسالة بالفتوى التالية:
ليس في اشتراط اتصال بنيان القرية حديث وانما ترجع المسألة للنظر، وقد أفتى بعض الفقهاء باشتراط الاتصال ولكن الإمام الآبي تلميذ ابن عرفة بعد ما ذكر هذه الفتوى في شرحه على صحيح مسلم فقال: (والأظهر انهم ان كانوا من القرب بحيث يرتفق بعضهم ببعض في ضرورياتهم والدفع عن أنفسهم جمعوا لأنهم - وهم كذلك - بحكم القرية المتصلة البنيان)، وما قاله الآبي نقضه الحطاب وسلمه وزاده تأييدا بما نقل من جزم صاحب الطراز بعدم اشتراط الاتصال واستدلاله بأن بعض بيوت القرية قد يخرب فيحصل الانفصال ومع ذلك لا يضر ما لم يبعد ما بين البيوت، وما كان المقصود من القرية هو الترافق والتعاون فاذا حصلا فأهل تلك البيوت قرية وان انفصلت بيوتها فهي في حكم الاتصال، فالقرية الواقعة في السؤال اذا كانت بيوتها على هذا الوجه فانها تجمع ولا يضرها الانفصال.
لو نتفقد رسالة أهل برج الغدير ورد العلامة عبد الحميد بن باديس عليها نخرج بالتالي:
- شخصيا قرأت الرسالة أكثر من مرة وقد أعجبت كثيرا بأسلوبها اللغوي العالي والراقي وطرحها الدقيق رغم أنها حررت في سنة 1935م.
- صحيح أن الرسالة عبارة عن استفتاء حول جواز صلاة الجمعة في مسجد لا يقع في وسط القرية، لكنها تضمنت عديد المعطيات التاريخية المهمة جدا والتي تخص تلك القرية ببرج الغدير سنة 1935م (عدد منازلها، عدد سكانها، تاريخ تشييد مسجدها...).
- رد العلامة عبد الحميد بن باديس والذي اتصف بالموسوعية من جهة والتيسير من جهة ثانية، فقد كان الإمام الشيخ يعلم بأنه لو أفتى بعدم جواز الجمعة في ذلك المسجد لتفرق هؤلاء السكان وانتشر الجهل وعمت الخرافة عكس بقاء المسجد وتأدية صلاة الجمعة فيه، والتي ستهذب لا محالة من طباع ساكنتها وتشحن هممهم وتنشر العلم وتحارب البدع والخرافات ...
أين نحن اليوم من هذا المستوى في الاستفتاء والفتوى معا.
المصدر: جريدة البصائر ع30/ 1935م.