مؤلفون وكُتاب قرأت لهم واستفدت منهم: الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله (1889-1940)
بقلم: أ.د. مسعود فلوسي-
عبد الحميد بن باديس، إمام الجزائر وفخر علمائها وأشهر رجالها وقائد حركتها الإصلاحية في العصر الحديث.
قرأت له كل ما كتبه، وقرأت معظم ما كُتب عنه من مؤلفات ورسائل جامعية وبحوث أكاديمية ومقالات وقصائد في المجلات والجرائد، وألفت عن حياته وأعماله كتابين، ونشرت كتابا لأحد تلاميذه، وكتبت عنه عدة بحوث ومقالات.
كمعظم الجزائريين من أبناء جيل الاستقلال، طرق سمعي اسم الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، منذ السنة الأولى الابتدائية، وذلك بمناسبة يوم العلم الذي تحتفل به الجزائر عامة والمؤسسات التربوية خصوصا يوم 16 أبريل من كل سنة، وهو اليوم الذي توفي فيه الإمام سنة 1940. وقد حَفَّظنا معلمونا نشيدَه الشهير "شعب الجزائر مسلم ** وإلى العروبة ينتسب"، الذي كان يُردَّد على أسماعنا وكنا نردده بحناجرنا في المناسبات المختلفة.
لم يكن الإمام ابن باديس معروفا كمؤلف، وإنما كمصلح وعالم فسر القرآن الكريم خلال خمس وعشرين سنة في دروس شفوية لم يُتح لها أن تسجل فلم يبق منها إلا ما حرره ونشره في "الشهاب" وهو قليل جدا، وشرح موطأ الإمام مالك رحمه الله في حوالي عقدين من الزمن في دروس شفوية حصل لها هي الأخرى ما حصل لدروس التفسير، وخرج أجيالا من طلبة العلم الذين صاروا بعد استقلال الجزائر إطارات قامت عليهم مختلف قطاعات الدولة الجزائرية المستقلة. ومما أثر عنه رحمه الله أنه سئل: لماذا لا تشتغل بالتأليف؟ فأجاب: إني مشغول بتأليف الرجال عن تأليف الكتب.
لكن ذلك لا يعني أن الرجل لم يكن كاتبا أو مؤلفا، بالعكس، لقد كان كاتبا من الطراز الرفيع، وقد نشر مئات المقالات في مختلف الصحف التي شارك في تحريرها أو أسسها وأشرف عليها، فقد كتب في كل من "النجاح" و"المنتقد" و"الصراط" و"السنة" و"الشريعة" و"البصائر"، وفي مجلته الشهيرة الشهاب التي كان يحرر فيها بابين شهريين أحدهما في التفسير والثاني في شرح الحديث إضافة إلى مقالات أخرى كان يكتبها ضمن أبواب المجلة.
هذه المقالات ظلت متفرقة ومنفصلة عن بعضها، حتى نهض لجمعها وتحقيقها عدد من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه، وأول من تولى جمعها هو تلميذه الأستاذ محمد الصالح رمضان رحمه الله الذي جمع مقالاته القليلة في التفسير في كتاب مستقل، كما نشر من مؤلفاته "العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية" وكتاب "رجال السلف ونساؤه"، ثم تولى الأستاذ الدكتور عمار طالبي جمع كل آثاره وأصدرها في أربع مجلدات سنة 1968 بعنوان "ابن باديس حياته وآثاره" جمع كل ما وصلت إليه يداه من تراث الإمام، وواصل التتبع حتى أصدر الآثار في الطبعة الأخيرة في ستة مجلدات، كما نشر له كتابا بعنوان "مبادئ الأصول". ثم كلفت وزارة الشؤون الدينية في عهد الوزير الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله مجموعة من الأساتذة بتتبع تراث الإمام وجمعه وتهيئته للنشر، وصدر في ستة أجزاء في سنوات عديدة. كما قام تلميذه الأستاذ محمد الحسن فضلاء رحمه الله بنشر كتابين له هما "العقائد الإسلامية" و"أصول الفقه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية".
كان أول ما قرأت من تراث الإمام "رجال السلف ونساؤه"، ثم "مبادئ الأصول"، ثم تفسيره "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير" وشرحه للحديث "مجالس التذكير من حديث البشير النذير"، ثم كتاب "العقائد الإسلامية" وكتاب "أصول الفقه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية"، وكذا مقالاته المنشورة ضمن آثاره والتي تناولت مختلف القضايا التي اهتم بها وعالجها وأبدى فيها آراءه.
وقد نهلت مما قرأت للإمام رحمه الله ما شاء الله لي أن أنهل من علم ومعرفة، وأن أستفيد وأنتفع من الروح الدافقة التي تسري في تراثه الفكري والتي لم يؤثر فيها طول العهد ومرور عشرات السنين على هذا التراث.
لم يكن الإمام ابن باديس رحمه الله يكتب ليُشبع رغبة في نفسه أو ليشتهر بعلمه، وإنما كان يكتب وهو يخوض معركة ضارية ضد الجهل والتخلف والخنوع للمستدمر، ويسعى لينشر الوعي واليقظة ويملأ النفوس رغبة في التحرر من المحتل الغاصب، فجاءت مقالاته تحمل صدى هذه المعركة وهذه الاهتمامات والتطلعات.
ولذلك فإن مقالات الإمام ابن باديس رحمه الله وآثاره بصفة عامة تترك أثرها العميق في نفس كل من يقرأها، وتدعوه إلى مزيد الاهتمام بها وإعادة قراءتها مرة بعد أخرى. ولعل هذا سر اشتغال العلماء والباحثين وطلاب العلم بها – من الجزائريين وغيرهم - وحرصهم على دراستها وكتابة المؤلفات والبحوث والمقالات حولها.
للإمام ابن باديس رحمه الله أسلوب خاص في الكتابة، يتميز بالسلاسة والدقة والعمق والإحاطة؛ سلاسة في تتابع الأفكار وترابطها، ودقة في التعبير والتحليل، وعمق في الفكرة والمضمون، وإحاطة بما يتعلق بالموضوع من عناصر. وهو متأثر في أسلوبه وطريقته في العرض والتحليل بصورة واضحة بالإمام أبي بكر ابن العربي الأندلسي الفقيه والأصولي والمفسر والمحدث المالكي رحمه اهر ، وربما جاءه ذلك من تحقيقه ونشره لكتابه "العواصم من القواصم". ولا يُستبعد أن يكون قد اطلع على كتابه "أحكام القرآن" وكتابه "عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي" وغيرها. ويظهر هذا التأثر جليا في مقالاته في التفسير وشرح الحديث؛ حيث ينهج نهج ابن العربي في ترتيب الأفكار وفي ضبط العناوين وفي أسلوب التعبير والعرض والتحليل.
لا يعني هذا أن ابن باديس كان مقلدا لابن العربي، فابن باديس عاش عصره واهتم بقضايا عصره وعالج مشكلات مجتمعه وتناول موضوعات لها صلة وثيقة بتوجهه الإصلاحي وأهدافه العلمية والعملية. ومن هنا جاء تميزه وتفرده في أسلوبه وفكره واهتماماته والموضوعات التي عالجها، فتشابه الأسلوب لا يعني التقليد في الموضوعات والاهتمامات.
إن قراءة آثار الإمام ابن باديس رحمه الله، تغني القارئ وتفيده بما يكتسبه منها من لغة راقية وأسلوب شيق متميز ومعلومات ثرية غزيرة وروحانية دافقة ونظر متعمق وغيرة إسلامية عالية.