مؤازرة زملاء عبد الحميد بن باديس في جمعية العلماء له
بقلم د. علي الصلابي-
ومن عادة ابن باديس أنه كالجندي المجهول ينسى نفسه وينسب الفضل فيما حققه من عمل ـ للأمة والوطن ـ إلى إخوانه وزملائه في جمعية العلماء الذين شاركوه في تحمل المسؤولية ووقفوا إلى جانبه في وقت المحنة والشدة.
وقد كانت عصبة ابن باديس التي برزت إلى الوجود في عام 1931م في منظمة «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» عصبة تتصف بغزارة العلم والوطنية الصحيحة وتعمل في انسجام وودّ قل أن يوجدا في الهيئات الأخرى، يقول ابن باديس: إذا كنت أستمد القوة والحياة فإنما أستمدها ممن أولوني شرف الثقة والإخلاص لديني ولأمتي، وأخص منهم الأسود الكبار وهم إخوتي الأقوياء من رجال العلم الذين أجدني مهما وقفت موقفاً إلا وجدتهم معي كالأسود.
لذلك كان هؤلاء العلماء من زملائه ورفاقه في جمعية العلماء عاملاً قوياً من عوامل تكوين شخصيته وبروزها على الشكل الذي عرفها الناس به، صلبة في الحق ثابتة على المبدأ، قوية الإيمان بالله ونصره، لا تتغير ولا تتزعزع في وجه العواصف مهما اشتد هياجها وطمى سيلها.
ومن بين العلماء الذين أشار إليهم ابن باديس في كلمته الانفة الذكر نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
أ ـ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي:
وهو رفيق ابن باديس وزميله في قيادة الحركة الإصلاحية في الجزائر ونائبه في رئاسة جمعية العلماء، ثم قاد جمعية العلماء بعد وفاته. تعرف عليه ابن باديس في المدينة المنورة سنة 1913م عندما ذهب إلى أداء فريضة الحج كما سبق أن ذكرنا، وربطت بينهما صداقة قوية لم تنقطع إلا بوفاة ابن باديس في عام 1940م، حيث خلفه الإبراهيمي في رئاسة جمعية العلماء وقادها بمهارة حتى أدت رسالتها كاملة للأمة بعد وفاة ابن باديس كما أدتها كاملة في حياته.
وكان بعد رجوعه إلىالجزائر في كل بلد يحل فيه لابد أن يبني مدرسة أو يوسع مدرسة وكان يقول للناس: وسعوا المدارس فسيأتي يوم تضيق فيه بأبنائكم ويقول لهم: إن مدارسكم هي مراكز الإصلاح، لا تحسبوها للعلم وحده حتى إذا أغلقت فرنسا أبوابها أهملت أنها مركز للكفاح، ومما يروى عنه في مجال دعوته لفتح المدارس أن أهل وهران جاؤوه بعد الحرب العالمية الثانية وقالوا له: لقد وجدنا أرضاً لبناء المدرسة الواسعة ولكن ثمنها مليون فرنك «فرنسي قديم»، وليس في صندوق جمعيتنا إلا 150 ألف فرنك، فقال لهم: أقدموا على الشراء وادفعوا الموجود وأنا أعطيكم المليون، وبما أنه لم يكن يملك مالاً، فقد قال لهم إثر اجتماعهم به بعد الشراء: أريد ألف مصلح في وهران والبلاد المجاورة كل واحد يدفع إلينا ألف فرنك وبذلك جمعوا أكثر من المبلغ المطلوب. واشتهر الإبراهيمي بالكتابة والتعبير البديع، المعبر عن المعاني المصيب لها في أعماقها، المشحونة بالعاطفة الإنسانية والإسلامية، واستعمل العبارات الصريحة في مهاجمة الاستعمار وعملائه مثل قوله في الاستعمار الفرنسي: جاء الاستعمار الفرنسي إلى هذا الوطن، كما تجيء الأمراض الوافدة تحمل الموت وأسباب الموت.
وسيأتي الحديث عنه مفصلاً بإذن الله بعد توليه زعامة جمعية العلماء.
ب ـ الشيخ الطيب العقبي:
وقد كان من أبرز رجالات جمعية العلماء، وهو صحافي قدير وصاحب جريدة «الإصلاح». وقد كان شخصية علمية ممتازة كما كان خطيباً مصقعاً، يستطيع أن يحرك أوتار قلوب الجماهير وعواطفهم بقوة بيانه وفصاحة لسانه ويوجههم إلى حيث يريد. وقد تولى رئاسة تحرير جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء عند إصدارها فترة من الوقت، وكانت دائرة عمله هي العاصمة ومنطقتها، وأما مركز عمله فهو نادى «الترقي».
ولد الشيخ الطيب العقبي 1890م ـ 1960م، وهو الطيب بن محمد بن إبراهيم، من عائلة محمد بن عبد الله، التي تنتسب إلى قبيلة أولاد عبد الرحمن الأوراسية. وفي سنة 1895م هاجر مع عائلته إلى المدينة المنورة في الحجاز وهناك بدأ دراسته الأولية ولم تمنعه وفاة والده وهو في سن الثالثة عشرة من الاستمرار في تلقي العلم في الحرم النبوي، وما لبث أن أصبح معلماً في نفس الحرم، وأخذ يقرض الشعر ويكتب المقالات الثورية مما جعله يكتسب صداقة بعض المصلحين في ذلك الوقت أمثال شكيب أرسلان ومحب الدين بن الخطيب وغيرهما.
وعاد العقبي إلى الجزائر في 4 مارس «اذار» 1920م، وحل بعد عودته في مدينة بسكرة الصحراوية، وعند وصوله وكعادة علماء الإصلاح اتخذ العقبي من مساجد المدينة منبراً يبث منها افكاره عن النهضة العربية والجامعة الإسلامية والإصلاح الديني والاجتماعي، والتف حوله جماعة من الأدباء المصلحين يؤازرونه في مهمته وأشتهر من تلاميذه محمد العيد ال خليفة شاعر الجزائر. ودخل العقبي معترك الصحافة الوطنية باشتراكه أول الأمر في انشاء جريدة «صدى الصحراء» في ديسمبر 1925م في بسكرة، التي كان يشرف عليها رسمياً أحمد العابد العقبي، ولكنه اثر بعد ذلك تأسيس جريدة مستقلة به عرفت «بالإصلاح» وبدأت بالظهور عام 1927م.
كانت طريقة العقبي في الدعوة الإصلاحية هي نفس طريقة ابن باديس، يقوم تدريسه على العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية يهتدي بالقرآن والحديث، ولكن المجال الذي اشتهر به وذاع صيته فيه هو الخطابة.
يقول عنه أحمد توفيق المدني بأنه: كان خطيباً مصقعاً من خطباء الجماهير، عالي الصوت سريع الكلام، حاد العبارة، يطلق القول على عواهنه كجواد جامح دون ترتيب أو مقدمة أو تبويب أو خاتمة، وموضوعه المفضل هو الدين الصافي النقي، ومحاربة الطرق ونسف خرافتها والدعوة السافرة لمحاربتها ومحقها.
كانت فصاحته تجلب الألباب وصوته يؤثر في الجماهير، وسيرته الفاضلة وسلوكه الديني البحت تؤثران على الجماهير تأثيراً عظيماً.
وفي عام 1932م وقع الاختيار على العقبي عميداً لجمعية في عمالة الجزائر فانطلق نشاطه الإصلاحي، وظهرت نتيجة أعماله في فتح المدارس العربية الحرة في العاصمة وفي العمالة، وتعزز وضع جمعية العلماء مما أثار قلق المستعمرين، فاستغلوا حادث مقتل الشيخ محمود بن دالي المعروف بكحول أحد موظفي الإدارة الدينيين وإمام الجامع الكبير، وكان قد أرسل برقية إلى الحكومة الفرنسية يشهر فيها بجمعية العلماء التي شاركت في وفد المؤتمر الإسلامي إلى باريس عام 1936م، واتهم علماء الجمعية بأنهم لا يحملون مستندات ولا شهادات.. وتتبرأ منهم الأغلبية الساحقة ولا يمثلون سوى شرذمة من المشوشين الذين يحاولون بث الفوضى في البلاد.
ظهر استغلال الإدارة بتوقيفها رجلاً ذا سوابق عدلية ودور مشبوه فيه يدعى «عكاش» ؛ أكد أثناء التحقيق معه أنه تسلم من العقبي خنجراً من صنع «بوسعادة» ومبلغ 30000 فرنكاً، فاعتقل العقبي مع رفيق له يدعى عباس التركي، وزج بهما في السجن، ولوحق أعضاء جمعية العلماء المسلمين في العاصمة، وأغلق نادي الترقي، ولكن المكيدة سرعان ما انفضحت إذ تراجع عكاش عن اعترافه الأول وأنكر علاقة العقبي وجمعية العلماء ونادي الترقي بالجريمة، فأفرج عن العقبي بصورة مؤقتة، ولكنه وضع تحت المراقبة، وسلط عليه سيف المراقبة العدلية وامكانية التوقيف عند الضرورة.
توفي الطيب العقبي بتاريخ 21 ماي «أيار» 1960م ودفن بمدينة الجزائر.
ج ـ الشيخ العربي بن بلقاسم التبسي:
هو العرْبي «بتسكين الراء» بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات من بلدة «أيسطح» النموشية التي تقع في الجنوب الغربي من مدينة «تبسة» في عمالة قسنطينة. ولد العربي عام 1895م في عائلة فلاحية فقيرة، وكان والده إلى جانب عمله في الزراعة يتولى تحفيظ أولاد القرية القرآن الكريم في كتّابه، وذلك بالطريقة التعليمية البدائية الشائعة في الوسط العربي. وقد تتلمذ العربي على والده الذي توفي تاركاً ابنه في السنة الثامنة من عمره، فاستمر العربي في حفظ القرآن حتى بلغ الثانية عشرة من عمره، وانتقل بعدها إلى زاوية خنقة سيدي ناجي الرحمانية في الجنوب الغربي لجبال النماشة، وهناك أمضى ثلاث سنوات حفظ خلالها القرآن الكريم.
ـ في تونس:
وبما أنه كان راغباً في متابعة تحصيله العلمي، فقد أوفده أهله إلى الزاوية التي سبق والده أن تلقى العلم فيها، وهي زاوية الشيخ مصطفى بن عزوز في مدينة «نفطة» بجنوب غرب تونس، وكان قد بلغ الخامسة عشرة من عمره، وهناك شرع في دراسة العلوم الشرعية والعربية، وأكبّ على مكتبة الزاوية يطالع ما فيها من كتب. وكان كلما توسع في المعرفة ازداد رغبة في التحصيل. وبعد ثلاث سنوات من وجوده في «نفطة» التحق عام 1913م بجامع الزيتونة ليستكمل دراسته العالية.
الجدير بالذكر أن التعليم والإقامة والطعام في الزوايا هو مجاني يصرف من دخل الأملاك الموقوفة للزاوية ومن تبرع المحسنين، أما في جامع الزيتونة فقد كان فقراء الطلبة يجدون المأوى في الدور العديدة التي أوقفها المحسنون لسكن الطلبة الغرباء، وتسمى هذه الدور «مدارس» نظراً لمذاكرة الطلاب فيها، وقد أوى العربي إلى أحد غرف هذه «المدارس» بينما تكفل عمه بالإنفاق على طعامه ومصاريفه الأخرى المتقشفة.
نال العربي في تونس شهادة «الأهلية» واستعد لنيل شهادة «التحصيل»، ولكنه فضل الانتقال إلى القاهرة عام 1920م تدفعه رغبة جامحة في نفسه لتلقي العلم من منهله الأصيل في جامع الأزهر العريق.
ـ في القاهرة:
كان يعيش على ما يقتات به من أوقاف رواق المغاربة في الوقت الذي كان يتابع فيه دراسته العالية في الأزهر حتى وصل درجة العالية.
ويبدو أنه تأثر بالجو الفكري والسياسي الذي كان يسود مصر في العشرينات، حيث كانت ثمار النهضة تؤتي أكلها، وكانت الحركة الوطنية في عز انتفاضتها، فصمم على العودة إلى الجزائر لمشاركة رجال الإصلاح هناك جهادهم، وكان مطلعاً على نشاطاتهم، فغادر القاهرة بعد أن أمضى سبع سنوات ينهل فيها العلم من جامعها ومن مكتباتها الغنية.
ـ نشاطه الإصلاحي:
ابتدأ العربي نشاطه الإصلاحي فور عودته من مصر عام 1927م واتخذ مدينة «تبسة» التي أصبح ينسب إليها مركزاً له، وكانت هذه المدينة كالمدن الجزائرية الأخرى تئن من أمراضها الاجتماعية، فالبدع فيها منتشرة والناس يصدقون الخرافات، والجهل يضرب أطنابه، ولم يكن من اليسير على العربي محاربة هذه الافات، ولكنه بما عرف عنه من همة صلبة أبى إلا أن ينطلق في دعوته الإصلاحية، فاتخذ من مسجد صغير في قلب المدينة يدعى مسجد أبي سعيد مركزاً له، والتفت حوله حفنة من الرجال الواعين في المدينة أخذ عددها يزداد كل يوم مع ازدياد نشاط الشيخ حتى ضاق بهم المسجد الصغير، فانتقل بهم العربي إلى الجامع الكبير الذي تشرف عليه الإدارة الحكومية، ولكنه سرعان ما منع من تقديم الدروس فيه نتيجة لتدخل الطرقيين وأعوان الإدارة، فعاد إلى مسجد أبي سعيد يوالي فيه نشاطه على الرغم من ضيق المكان بتلاميذه، وبأنصار الإصلاح المتهافتين على دروسه.
وكان درس الشيخ للعامة بعد صلاة العشاء، فيسرع الناس من متاجرهم ومنازلهم ومن المقاهي لصلاة الجماعة وسماع الدرس فيمتلأئ بهم المسجد، وكانت دروس الشيخ في التفسير والحديث، يختار آية قرانية تناسب موضوعه، أو حديثاً نبوياً فيفسرها تفسيراً بارعاً يخلب ألباب السامعين.. ثم يتسرب إلى الأمراض الاجتماعية فيشرحها ويبين أسبابها وعواقبها الوخيمة في الدنيا وفي الاخرة، وينقضّ في دروسه على بدع الطرقيين الضالين وإفسادها للعقيدة الإسلامية وسلبها لعقول الناس، فيُظهر بطلانها وفسادها ويُري للناس أولئك المدجلين على حقيقتهم.. ويشرح الشيخ في دروسه الموبقات التي يرتكبها المسلمون، ويغمسهم فيها الاستعمار، ويحدثهم على الواجبات كالصلاة والفروض الأخرى ويحدثهم عن الجهل والأنانية والعصبية، واحتقار اللغة العربية وعلومها، وهو ما يغرسه الاستعمار بكل وسائله في أبناء مدارسه على الخصوص. وبذلك كان العربي يثير العزة في نفوس مستمعيه فيتحسسون ثقل الاستعمار، ويعملون عن طريق إصلاح نفوسهم في إصلاح مجتمعهم. وكان العربي التبسي يعتبر أن إصلاح النفوس هو الشرط الأول للخلاص.
ولم يدع رجال الاستعمار وأعوانهم الشيخ العربي ينطلق في نشاطه على سجيته، فأخذوا يشددون عليه الخناق ويضيقون على أنصاره حتى أحاق به الخطر، فنصحه ابن باديس بالانتقال إلى مدينة «سيق» في عمالة وهران، فانتقل إليها وأمضى فيها عامين من أول عام 1930م حتى نهاية عام 1931م، تمكن من خلالها من نشر الدعوة الإصلاحية في كثير من مناطق الغرب الجزائري.
وفي أول عام 1932م عاد الشيخ العربي إلى تبسة بإلحاح من أنصاره فيها وكانوا قد جهزوا مدرسة عصرية أبوا إلا أن يتولى إدارتها بنفسه.
وساعد الشيخ العربي في تبسة على إنشاء جمعية تهذيب البنين وذلك في عام 1932م، وتمكنت هذه الجمعية من إقامة مدرسة كبيرة مجهزة تجهيزاً عصرياً، بلغ عدد تلاميذها عام 1934م خمسمائة تلميذ وتلميذة، كما أنشأت إلى جانب المدرسة مسجداً حراً لا يخضع لمراقبة الإدارة.
ـ في قسنطينة:
بعد افتتاح معهد عبد الحميد بن باديس في قسنطينة عام 1947م تولى العربي التبسي إدارته، ولم يكن اختيارُه ليملأ الفراغ الذي تركته وفاة ابن باديس في قسنطينة بالأمر الهين، فقد كان عليه بالإضافة إلى مهامه في إدارة المعهد أن يقوم بإلقاء دروس التفسير في الجامع الأخضر، والاهتمام بحل مشاكل الناس، ولقد حاول ما استطاع وقاد الحركة الإصلاحية في عمالة قسنطينة بهمة ونشاط على الرغم من مشاغله في إدارة المعهد، وعرف أهل قسنطينة في الشيخ العربي رجلاً ثائراً على الاستعمار شديد الوطء على الإلحاد ومظاهره.
وكان الشيخ العربي قد سجن مع رجال الحركة الوطنية إثر مجزرة 8 ماي 1945م وأفرج عنه في نهاية ربيع 1946م، وزاده السجن تمسكاً بالدعوة الإصلاحية، وبقي الشيخ العربي في قسنطينة إلى ما بعد قيام الثورة الجزائرية أي إلى أن أغلق معهد بن باديس عام 1956م.
ـ في العاصمة:
بعد أن أغلقت السلطات الاستعمارية معهد ابن باديس انتقل إلى العاصمة لإدارة شؤون جمعية العلماء فيها بعد أن خرج أغلب رجالاتها إلى البلدان العربية، وقد رفض الإصغاء لنصائح زملائه بمغادرة الجزائر مؤقتاً خوفاً على حياته لأن رؤوس رجال الإصلاح أصبحت مطلباً استعمارياً، وأخذ بدلاً من ذلك يكثف نشاطه في العاصمة، فكان يشرف على شؤون الجمعية وعلى ما تبقى من مدارسها ونواديها ومساجدها، واستأنف أيضاً دروس التفسير للعامة في مسجد حي «بلكور» الذي كان يكتظ بالمستمعين، على الرغم من ظروف الحرب. وكانت دروس الشيخ قوية يمزجها بأسلوب حكيم بالدعوة إلى الجهاد وتأييد الثورة.
ـ إستشهاده:
قال الشيخ العربي في خطاب له أمام إدارة جمعية العلماء عام 1952م: إنه لا يمكن إرضاء الإسلام والوطن، وإرضاء الزوج والأبناء في وقت واحد، إنه لا يمكن لإنسان أن يؤدي واجبه التام إلا بالتضحية.
وبالفعل فقد اختار الشيخ العربي التضحية عندما اثر البقاء إلى جانب الشعب محاضراً خطيباً واعظاً حاضاً على الجهاد، وقد نقل عنه في هذه الظروف أحد جلسائه قوله: لو كنت في صحتي وشبابي مازدت يوماً واحداً في المدينة، أُسرع إلى الجبل فأحمل السلاح فأقاتل مع المجاهدين.
وعندما لاحظت الحكومة الفرنسية مدى الهيمنة المعنوية التي يتمتع بها الشيخ العربي في صفوف المواطنين، حاولت التأثير عليه بطرق شتى لتفصله وجماعته عن حركة الثورة التي كانت تقودها جبهة التحرير الوطني، فأرسلت إليه تباعاً مندوبين عنها محاولين دفعه إلى التفاوض السياسي لإنهاء الحرب، فكان رده عليهم حازماً: إذا أرادت فرنسا إيقاف الحرب فلتفاوض جبهة التحرير الوطني، أما العربي التبسي وغيره فليس لهم أن يتكلموا باسم الشعب وثورته، ولا يستطيعون إيقاف ثورة الأمة كلها. وكان موقفه الوطني هذا دافعاً لخطفه من منزله بتاريخ 17 أفريل 1957م على يد «الجيش السري» الذي شكله غلاة الكولون، وبذلك اختفى الشيخ العربي واعتبر من الشهداء.
د ـ الشيخ مبارك الميلي:
هو مبارك بن محمد الميلي نسبة إلى مدينة الميلة التي نشأ في إحدى قرى دائرتها وبالتحديد في دوار أولاد مبارك من عمالة قسنطينة.
ولد في عام 1898م ونشأ يتيماً بعد وفاة والديه وهو في سن الرابعة من عمره، أدخله جده الكتّاب لتلقي مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، وبعد تمضية أيام عصيبة في قريته، التحق بمعهد الشيخ محمد الميلي في مدينة ميلة وكان له من العمر خمسة عشر عاماً، وهناك تلقى طيلة ست سنوات العلوم العربية والشرعية قبل انتقاله إلى حلقات الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة، حيث لم يطل به المقام أكثر من سبعة أشهر، انتقل بعدها إلى تونس لاستكمال دراسته العالية، فحصل على شهادة التحصيل ثم عاد إلى الجزائر عام 1922م، فحلّ في قسنطينة مساعداً لابن باديس في عمله التربوي، وقد أعجب به ابن باديس فأوفده مربياً ومعلماً وداعياً للإصلاح إلى مدينة الأغواط فبدأ فيها نشاطه عام 1923م.
ـ نشاطه وآثاره:
أمضى مبارك الميلي ثمان سنوات معلماً ومبشراً بالإصلاح الديني والتربوي في منطقة الأغواط، تعرض فيها لمحاولة اغتيال فاشلة من قبل الطرقيين، في نفس الوقت الذي تعرض فيه ابن باديس لمحاولة الاغتيال، وتعرض الميلي أيضاً لضغوطات الإدارة الفرنسية وتهديداتها، مما أرغمه على الانتقال إلى «ميلة» ليتابع منها نشاطه الإصلاحي.
انتخب عام 1931م عضواً في المجلس الإداري لجمعية العلماء واستمر في هذه العضوية حتى وفاته، أهم ما اشتهر به الميلي هو كتابه «تاريخ الجزائر في القديم والحديث» الذي يعتبر أول محاولة وطنية لكتابة تاريخ الجزائر في العصر الحديث، وذلك بعد انفراد المؤرخين الفرنسيين بكتابة تاريخ هذا القطر العربي. وقد انجز الميلي جزأين من هذا الكتاب طبعهما في حياته، وعندما شرع في تأليف الجزء الثالث أدركته المنية.
وإلى جانب «تاريخ الجزائر» ظهر للميلي كتاب يهتم بمحاربة الخرافات والبدع وهو كتاب «الشرك ومظاهره».
ويذكر أحمد توفيق المدني أن الباحثين الغربيين يعتبرون تاريخ الميلي وكتاب الجزائر للمدني وجمعية العلماء، قد ظهروا معاً في عام 1931م ولادة: الملية الإسلامية الوطنية بالقطر الجزائري.
ولم يعمّر الميلي طويلاً فتوفي بتاريخ 9 فيفري «شباط» 1945م عن عمر يناهز الثامنة والأربعين.
هؤلاء العلماء الذين أشرنا إلى أبرزهم فقط ؛ كانوا ساعداً قوياً للشيخ ابن باديس، وعضداً له في كل الملمات، وسنداً قوياً له في جميع المواقف السياسية الحرجة التي وقفها دفاعاً عن عروبة الجزائر وإسلامها وقوميتها، وفيما قام به من أعمال جليلة في ميدان التربية والتعليم والإصلاح الديني والاجتماعي يشرح لنا ابن باديس تأثير هذا العامل في شخصيته على النحو التالي:.. ثم لإخواني العلماء الأفاضل الذين ازروني في العمل من فجر النهضة إلى الان، فمن حظ الجزائر السعيد ومن مفاخرها التي تتيه بها على الأقطار، أنه لم يجتمع في بلد من بلدان الإسلام فيما رأينا وسمعنا وقرأنا مجموعة من العلماء، وافرة الحظ من العلم، مؤتلفة القصد والاتجاه، مخلصة النية متينة العزائم، متحابة في الحق، مجتمعة القلوب على الإسلام والعربية، وقد ألف بينها العلم والعمل ـ مثل ما اجتمع للجزائر في علمائها الأبرار، فهؤلاء هم الذين وري بهم زنادي، وتأثل بطاردهم تلادي، أطال الله أعمارهم ورفع أقدارهم.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)