خطاب الشعوب المقهورة
بقلم:لونيس بن جبل -
العالم منذ الأزل عاش ولازال يعيش حملات الهيمنة والاكتساح، التي تترجم وتعكس مدلولات التسابق في بسط النفوذ، وهذا البسط الأكيد في فلسفته أنه يتسم بالا عدل وعـدم القسط والأنانية، وتبعا لهذا بنيت حضارات ودفنت أخرى ودمرت حضارات وتلاشت شعوب وقويت أخرى وتعنتت، غير أن الإسلام ببزوغه كان فجرا ساطعا بنور فكره البناء الهادف إلى الرقي والتقدم متخذا من احترام الآخر مبدأ له فذاع وبلغ القلوب ببلوغه الآذان والأبصار، نبي ورسول كريم، علم البشر دروسا وعبرا صلحت وتصلح لكل زمان ومكان فأوصى بمكارم الأخلاق وكان مثالا وأنموذجا كاملا متكاملا لها، حث على العلم ودعا إليه، هو ومن تبعه من بعده من أصحابه فكان عصر قوة وحضارة أضعن لها أقوى الملوك وأشدهم...
وبتزامن الأزمنة من بعد، بدأت تتغير التفاعلات الحضارية وتنتج نتاجات كرست التردي والوهن الذي أصاب أمتنا الإسلامية، نتيجة لنقص في إدراك ما كان يجري من حولنا ومن تحولات حضارية كنا غير مدركين لها، فتطورت حضارات أخرى وطغت وتجبرت وشيئا فشيئا أصبحت أمة الإسلام في وضع الضعيف غير المقتدر على تسيير ما كان يرمى به من وهن ومن أسقام، فتكرس لدى جل أبناءها ومعظمهم مبدأ الخنوع والاستسلام للقدر المحتوم، هو قدر موهون وعليل مسقوم، مورست علينا كل أفعال التطور والتقدم ورمينا بأهش الثقافات وأسوء السلوكيات، وجهت أفكارنا نحو فهم المؤامرات وخلق التناقضات وضياع الثقة والأمانات، فصارت بنيان أمتنا بينها فراغات وانسدادات ومتاهات، وخلقت أزمات وخلافات، وكل هذا ما هو إلا في صالح أصحاب تلك الحملات التي تبغض بناء الأمم وتقدم الحضارات الأخرى، وهذا ما عكسته كل الحملات الإستدمارية التي زحفت على الأوطان والبلدان فشردت وقتلت ويتمت ورملت، نهبت الخيرات واستغلت الثروات واستعبدت بنو البشر الأحرار، وفعلت كل مشين ولعين فرضت القيود والأغلال وفرضت منطقها الإستدماري على أصحاب الأوطان وجعلت قوتها في فرقتهم وثراءها في فقرهم وعزتها في ذلهم وهوانهم، وخوفا من زوال كل هذه النعم والنفوذ، عمدت القوى الإستدمارية إلى تخطيط كل ما يمس ويزعزع ثوابت الهوية لكل أصحاب أرض اغتصبتها، فسممت الثوابت والأسس العرقية للكيان عبر العديد من المخططات التي نجحت كليا لولا جهود الأخيار من أصحاب الأوطان، ولهذا عانوا ما عانوا من ويلات التصدي وحمل مشعل الكفاح الفكري من أجل الحفاظ على الثوابت ومقومات الكيان الوطني الخالص، ومن أمثلة ذلك ما شهدته المعركة الضارية بين المستدمر الفرنسي وأعلام الجزائر الوطنيين الخالصين الذين عملوا على الحفاظ على ثوابت ومقومات الهوية الجزائرية ولعل هذا تأتى من خلال رؤيتهم وإدراكاتهم الصحيحة لخطورة ما يحاط ويحاك ضد الهوية والثوابت وما تلعبه هذه الورقة من رهان استراتيجي متعلق بإستمرارية الجزائري كوجود وعلى رأسهم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ورغم هذا النزاع الشديد بين الإستدمار وأعلام الوطنية والهوية الذين تمسكوا بمسعاهم النبيل إلا أن الأيادي التدميرية مست العديد من النقاط الحساسة في مقومات بناء الشعوب وتماسكها وحدث ذلك عبر العديد من المستويات والأوجه، فحاول تشويه اللغة فأدخل كلمات تسيء إلى تاريخنا وثورتنا ورموزنا وتزرع الشك في ما حققناه وحققته الأمم الرافضة للإستدمار فصنع وحرف الألقاب لبث الفرقة وزرع الاغتراب في الذات فصار الفرد غريبا عن لغته ودينه، والدين هو الآخر لم يسلم من بطش الإستدمار فعانى دين الإسلام على أرض الإسلام ما عانى من حملات التشويه والسعي إلى التضليل فصنع الإستدمار الكثير من التوجهات وبث الأفكار الدخيلة والطرق المبتدعة ليمارس سيطرته على أهم غذاء روحي وفكري للشعوب النبيلة ألا وهو الدين، وبهذا استعبد البشر سابقا وساقهم قطعانا ليجهدهم بكل ما هو شاق في بلاده التي بنيت بعرق الإجحاف والاستغلال البشع، وصاغ كل ذلك لاحقا في شكل جديد من أشكال استغلال المورد البشري لتلك الأوطان وتسخيرها في خدمته وخدمة صالحه، فمد يده لأفراد النخبة من الأمة فعبث بكل ما يساعد على استقرارها في بلدانها وتشجيع عطاءها وخلق لديها القابلية للخروج من أوطانها لتهاجر نحو أوطانه فاتحا لها الأبواب ليستنزف طاقات هو يخاف أن تكون محركا نهضويا لتلك الأمم لكن لن يفلح ولن ينجح لأن وطنية هؤلاء مؤصلة في داخل وعمق كل واحد منهم ، وأخذا يمارس دور الأبوية والكفيل آخذا هذا الدور من أدبياته المبنية على الاستحواذ غير الشرعي الغاصب، وبكل الطرق يعبر عن تلك النزعة البغيضة التي بالرغم من مرور الأزمنة مازال يصيغها في قوالب مختلفة، وبالنظر إلى كل هذا ولعل ما لحق من تضرر لأهم مقومات الشعوب يبقى يبث آثاره ويمارس مفعوله عبر الأجيال اللاحقة، فيتفشى الوهن ويطول وينتقل فيصاب جسد الأمة بمرض يمنع كل بناء قوي قويم ويحول دون التجانس والانسجام فتضعف الأمة وتعتل عبر الأزمنة وبهذا تكرس القوة للقوي ويحتكرها لنفسه ويكرس الضعف والتردي للضعيف وينسب له، ونظرا لكل هذا وجب على الشعوب التي عانت ويلات الإستدمار الأرعن أن تعود في زمننا هذا خطوة إلى الوراء هي خطوة لازمة وضرورية، فتعالج ما ألحق من أضرار بأهم الركائز والمقومات فتصحح وتعزز ، وهذا يتعلق بخطوة إجرائية أولى تتمثل في ضرورة تشخيص كل الركائز وتحديد الأضرار الملحقة بها، وإعداد ما يمكنه من معالجتها ورأب الصدع فيها، والسهر على تنفيذ كل ذلك وفقا لما يجب أن يكون بلا تهاون ولا تردد ولا تراخي وستنعكس النتائج على المدى المتوسط إن لم نقل القريب، فتحصن البرامج التعليمية وتنقح وتعزز وستحل مرحلة تلاشي الاغتراب فيضعف الوهن وتحد قدرته ويبدأ في التلاشي فتقوى أجيال الأمة وتقوى معها الضمائر، وتصحا العقول التي عانت وعانت من أوهام الوهن المتفشي ويتغلب الصالح العام على الخاص بروح الضمير العام منه والخاص، والمنطق يفرض أن نقطة الانكسار إذا رممت عاد البنيان للوقوف.
وهكذا نأمل أن تقوى تلك الشعوب المضطهدة بقوة الإستدمار بمختلف أوجهه وطرقه، فإصلاح ما دمر كفيل لجعل الأمة تقف وتزدهر وتتقدم وللوطن حق علينا أن نذود عنه في وجه كل من يهدف إلى النيل منه ومن وحدته فمقومات النهضة من تعزيز مقومات الهوية، وستكون أقلامنا وأفكارنا بحول الله تعالى في خدمة هذا الوطن العزيز المفدى ضد أي محاولة تدخل تعبث ببناء وانسجام أبناء هذه الأمة الأبية، حفظهم الله تعالى وأدامهم ذخرا وسدادا لها ووفقهم.