أبو العيد دودو كما عرفته
بقلم : أ.د. عمار بوحوش-
ولد أبو العيد دودو في عام 1934م بقرية أزيَّار، دوار تمنجر، ببلدية الميلية (آنذاك) التابعة لولاية قسنطينة. ونظرا لوفاة والده، بلقاسم، وهو صغير، فقد قامت بتربيته والإشراف على تعليمه، والدته الفاضلة قدور علجية. ولعل هذا الحرمان من والده وهو صبيا، هو الذي دفعه إلى الإجتهاد في مدرسته القرآنية والسعي لكسب العلم والمعرفة بحيث أنه كان متفوقا على زملائه في المدرسة، وهذا التميز في بداية حياته هو الذي جعل الناس في القرية يلتفتون إلى أبو العيد دودو ويظهرون اهتمامهم الكبير به.
ومن عجائب الصدف أن قرية أزيار (أو بني عيشة) التي هي جزء من دوار تمنجر الذي يشتمل على قرى أخرى تتمثل في : المحارقة، بنى عيشة (التي توجد في الجهة المقابلة للقرية التي نسكن فيها وتحمل نفس الإسم) وبني فتح، أولاد شبانة، تعتبر من أهم القرى في المنطقة، وذلك بفضل سمعة علمائها على المستوى الوطني، أمثال : الشيخ أحمد حماني (الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الأعلى) والشيخ الصادق حماني المدير السابق لمدرسة التربية والتعليم بمدينة قسنطينة، والشيخ عمر حماني (المدير السابق لثانوية بقسنطينة) والشيخ محمد الزاهي الذي كان من أكبر أساتذة مدرسة سيدي زموش بقسنطينة.
لقد كان هؤلاء العلماء يأتون دوريا إلى قريتنا ويلقون محاضرات، في المواطنين بمسجد القرية الموجودة ” بمنطقة دِيمْوِيَّة “. وفي هذا المسجد الذي كان يعتبر بمثابة مركز اجتماعي لتقديم المساعدات والخدمات لأبناء القرية تعلم أبو العيد دودو، وأظهر تفوقا في التحصيل العلمي، وآنذاك تطوع أعيان القرية وتبرعوا بأموال لمساعدة أبو العيد دودو على إتمام دراسته بقسنطينة التي تعتبر في نظر السكان بمثابة المركز الرئيسي لنشر العلم والمعرفة في الجزائر.
وبالفعل فقد استجاب لرغبة أعيان القرية، عمنا الفاضل أحمد دودو (التاجر بمدينة قسنطينة) وأبدى استعداده لإستقبال أبو العيد في بيته ومساعدته على مواصلة تعلمه في معهد عبد الحميد ابن باديس بقسنطينة، مع العلم أنه كان يسكن في منزل صغير بالسويقة. لكنه كان يزاول تجارته في نهج 11 نوفمبر بضاحية عوينة الفول حيث كان محله يشتمل على دور أرضي لبيع الصوف، ودور أعلى توجد به غرفة كبيرة للنوم، وفيها قضي أبو العيد دودو معظم وقته في القراءة وتحضير دروسه. وعندما غادرها وأرسل إلى المشرق العربي، طلب مني عمي أحمد دودو أن أحل محله فيــها.
وأعترف أن أبو العيد دودو الذي كان متميزا في سلوكه وفي تعلمه قد خلق لي مشكلة أو عقدة في حياتي حيث أن عمي أحمد كان يطابني بإستمرار أن أكون مثله متفوقا في دراستي ومطيعا مستقيم الخلق لأن أبو العيد كان دائما في المستوى المطلوب !
لقد استفاد أبو العيد دودو، عندما كان يواصل دراسته بمعهد عبد الحميد ابن باديس، من رعاية الشيخ أحمد حماني، والشيخ الزاهي وجميع الأساتذة بالمعهد الذي كان شغلهم الشاغل هو تكوين نشئ جديد في المعهد لكي يحافظوا على اللغة الوطنية والقيم الإسلامية بحيث لا ينسلخ أبناء الجزائر عن عقيدتهم الإسلامية. وعندما قررت جمعية العلماء إرسال الطلبة المتفوقين بالمعهد إلى المشرق العربي لمواصلة دراستهم العالية هناك، استفاد أبو العيد دودو من هذا القرار وكان نصيبه هو الإلتحاق بدار المعلمين العليا ببغداد.
وبما أن عمي أحمد دودو لم يرزقه الله بأطفال فقد اعتبر أبو العيد دودو بمثابة إبنه، وصرف عليه أموالا طائلة لمواصلة تعلمه في قسنطينة وفي بغداد حيث كنت أنا المسؤول عن إرسال الحوالات إليه في بغداد عن طريق تاجر سوري في دمشق صديق قديم لعمي أحمد دودو، وهو يتولى أيصال تلك الحوالات المالية إلى أبو العيد دودو في بغــداد.
والحق يقال أن عمي أحمد دودو قد تأثر كثيرا بنجاح تجربة أبو العيد في التعلم وتحسين مستوى الشباب الجزائري وتشجيعه على الدراسة. وقد استخلصت من أحاديثي معه أنه شعر بالفراغ في حياته عندما غادر أبو العيد قسنطينة إلى بغداد، ولذلك طلب من والدي أن أحل محله في المعهد، وفي الإقامة بنفس الغرفة التي كان يقيم بها أبو العيد دودو. وقد ساهمت زوجة عمي أحمد دودو في تشجيعي على القدوم إلى قسنطينة لأنها تنتمي إلى عائلة أمي، قدور. وبإختصار، فقد استجاب والدي إلى ضغوط عمي أحمد وأرسلني أولا إلى مدرسة محمد الخطاب بالميلية حيث تتلمذت على يد الشيخ محمد الصالح بن عتيق والشيخ عمار القلى، تم أرسلني إلى معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة سنة 1951.
وهكذا بقيت دار عمي أحمد دودو منزلا لإعداد شباب المستقبل، والتعمق في دراسة اللغة العربية والمحافظة على الهوية الوطنية. وللتاريخ، ينبغي أن نشير هنا إلى أنه بعد إلتحاقي بالثورة في سنة 1956، حلت الطفلة سليمة دودو، محلي في دار عمي أحمد بقسنطينـة.
ومن عجيب الصدف أن الطابق الثاني من محل عمي أحمد الذي كان يسكن به أبو العيد، قد تحول إلى مخبئ للفدائيين في سنة 1956. وحسبما أتذكر فإن عمي أحمد كان يدفع اشتراكه بإنتظام إلى قادة الثورة الجزائرية. وفي إحدى المرات جاءه الأستاذ مصطفى بوغابة بإسم النظام (الثورة) ودفع له نصيبا من المال فقام الأستاذ مصطفى بوغابة في وضعه داخل الجاكيت ثم قام بتخييط الجاكيت، وعندما سألت عمي عن ذلك أجابني بأن العسكر يفتشون الجيوب بحثا عن الوثائق، ولذلك ينبغي عدم ترك فلوس الثورة في الجيوب. ومنذ اليوم تمكنت فيه القوات الفرنسية من اغتيال أحد الفدائيين في المنطقة، وتبين فيها بعد أنه كان يشتغل في محل عمي أحمد دودو، استجوبته القوات الفرنسية عدة مرات، غير أنها لم تعثر على حجج دامغة تثبت تورطه في تدعيم الفدائيين بمدينة قسنطينة. إلا أن الأمور تغيرت يوم تمكنت القوات الفرنسية من إلقاء القبض على زعيم أو رئيس لمجموعة من الفدائيين، واعترف ذلك الفدائي، بأن مقر التخطيط الفدائي هو الطابق الثاني من محل عمي أحمد دودو. وبعد أن واجهه الشهود الذين كانوا يأكلون ويجتمعون في محله، اعتقلته القوات الفرنسية وأغلقت المحل وما فيه من بضاعة. وفي سنة 1958م قام والدي بدفع مبلغ مالي كبير إلى ضابط فرنسي للإفراج عن عمي أحمد دودو من السجن، غير أن قرار الإفراج تحول إلى قرار بالإعدام بعد أن تمكنت القوات الفرنسية من اعتقال فدائي آخر، اعترف بأن دودو أحمد هو الذي كان يأوي جماعته في محله بعوينة الفول. وفي تلك الليلة التي افتضح أمره فيها، قامت اليد الحمراء بإخراج كبار الشخصيات الوطنية من السجن ومن بيوتهم واغتالتهم في سنة 1958.
النشاط العلمي للأستاذ أبو العيـد دودو
منذ أن كان يواصل دراسته ببغداد وهو يحاول نشر القصص القصيرة والمسرحيات والروايات في الجرائد والمجلات المتخصصة في الأدب، وأتذكر أنني تلقيت منه عدة مقالات عندما كنت في تونس (1956) وأجريت اتصالات عديدة مع رؤساء تحرير مجلات لنشر دراساته في مجلات تونسية. وبالتحديد فقد قدمت أبحاثه ودراساته إلى رئيس تحرير مجلة ” الندوة ” ومجلة ” الفكر ” التي كان يشرف على تحريرها السيد محمد مزالي الذي أصبح فيما بعد رئيس مجلس الوزراء التونسي، وكان يوجد مقر مجلة ” الفكر ” في القصبة، أي غير بعيد عن مقر مجلس الوزراء آنــذاك.
وبعد عودته إلى الجزائر، في آخر الستينات من القرن العشرين والتحاقه بجامعة الجزائر، شرع الأستاذ أبو العيد دودو في نشر العديد من المقالات الخاصة بالجزائر والتي كانت جاهزة في معظمها حيث كان قد كتبها عندما كان في ” فيينا ” (النمسا) ولم يتمكن من إرسالها إلى المجالات والجرائد الجزائرية. وحسبما فهمت منه فقد كان يحظى بتشجيع كبير من السيد مولود قاسم (وزير الشؤون الدينية) الذي كان يعرفه جيد المعرفة لأن مولود قاسم كان موجودا بفيينا أيام الثورة الجزائرية. وكما هو معروف، فإن وزارة الشؤون الدينية كانت تشرف على إصدار مجلة ” الأصالة ” التي أسندت رئاسة تحريرها إلى السيد عثمان شبوب. كما كان يحظى أبو العيد دودو بدعم معنوي قوي من الدكتور طالب الإبراهيمي (وزير التربي والتعليم آنذاك) ويشجعه على الكتابة في مجلة ” الثقافة ” التي كان يشرف عليها الدكتور حنفي بن عيسى، بعد أن تم تعيينه وزيرا للثقافة في عهد الرئيس هواري بومدين. واستفاد أيضا الدكتور أبو العيد دودو من تسهيلات في نشر دراساته وأبحاثه في ”المجاهد الأسبوعي ” و” المجاهد الثقافي ” والقسم الثقافي لجريدة ” الشعب ” اليومية.
وعندما زرته في بيته بحي ” الأسفوديل ” ابن عكنون، عام 1970 أطلعني على عشرات الوثائق التي جلبها معه من النمسا وألمانيا، وأكد لي بأنه ينوي ترجمتها إلى العربية ونشرها في الجزائر، لأنه يوجد فراغ كبير في الميدان الثقافي وخاصة في نشر الأبحاث الخاصة بالجزائر والتي كتبها علماء ومفكرون نمساويون وألمانيون عن الجزائــر.
وفي قناعتي الشخصية أن الفترة الذهبية لكتابات أبو العيد دودو في مجال كتابة القصة القصيرة والمسرحيات ذات الطابع الفكاهي والهزلي، هي فترة السبعينات من القرن العشرين. ففي كل مرة التقي به في جامعة الجزائر أو في منزله، كان يحدثني عن طموحاته ومشاريعه لنشر كتبه وأبحاثه في ” الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ” التي كانت محتكرة لنشر الكتب العلمية والأدبية في الجزائر آنذاك.
إنه لمن الواضح إلى أن نقطة القوة في شخصية أبو العيد دودو هي شغفه وحبه للقراءة سواء في مجال تخصصه الذي هو الأدب المقارن أو في مجال الثقافة والأدب عن الجزائر. فبفضل قراءاته المكثفة والمتنوعة، استطاع أبو العيد دودو أن يخرج الأرشيف الجزائري من دهاليز المكتبات النمساوية والألمانية ويحوله إلى معرفة ثقافية متوفرة وفي متناول القارئ الجزائري وذلك في شكل مقالات وكتب منشورة باللغة العربية. ولهذا فإن مساهمات أبو العيد دودو في إثراء القصة القصيرة، والمسرحيات الهزلية والفكاهية، وإنعاش الترجمة من الألمانية إلى العربية في الجزائر، تعتبر مساهمات واثراءات نوعية ستبقى خالدة على مر السنين والعصور.
ولعل الشيء المثير في سلوك أبو العيد دودو هو سعيه المتواصل لإستلهام أفكاره في الكتابة من القاعدة والجماهير الشعبية التي يحلو له أن يتفاعل معها ويستفيد من احتكاكه بها. لقد كان يتردد على مدينة قسنطينة التي تربي وتعلم بها، وعلى مدينة العنصر (بولاية جيجل) التي هي مسقط رأسه، ويتجاذب أطراف الحديث مع من خالطوه في الصغر وذاقوا معه في الصغر حلاوة ومرارة العيش في الريف الجزائري، ويلاحظ هنا أن اتصالاته كانت بقصد الإستماع إلى الأغاني الشعبية، والقصص البطولية، والألعاب الترفيهية التي كانت تغذي فكره بالعناصر الأساسية لكتابة قصصه مسرحياته التي تعبر عن الواقع الإجتماعي في وطنه.
البساطة والفكاهة في حياتـه الإجتماعيــة
ليس هناك جدال بأن أبو العيد دودو يتمتع بقدرة هائلة على إدخال الفرحة والشعور بالسعادة في نفوس أصدقائه وجميع أفراد أسرته وذلك من خلال استعماله لنكت وقصص طريفة، تضحك كل من يتحدث إليه ولا أعرف أي إنسان تحدث إليه ولم يلاحظ هذه الظاهرة في أبو العيد دودو. وكم من شخص توجه إلى بيته عندما شعر بالكآبة والقلق النفسي، لأن الحديث مع أبو العيد دودو ينعش النفس ويزيل الإكتئاب. وفي الحقيقة أن اللقاءات معه في معهد الآداب أو في اجتماعات المجلس العلمي لجامعة الجزائر كانت تعتبر ممتعة وشيقة لأن أبو العيد دودو كان يلطف جو الإجتماعات بنكاته وتعليقاته المرحة وفكاهته التي تضحك الجميع. وبعد انتهاء الإجتماعات كنت أدعوه إلى قهوة ونتجاذب أطراف الحديث في مواضيع متنوعة، والوقت معه يمر بسرعة ولا أتفطن له إلا بعد أن أنظر إلى الساعة وأجد نفسي متخلفا عن مواعيدي الأخرى.
وفي بعض الأحيان كان يطلب مني أن أزوره في البيت لأنه يريد أن يهديني بعض الكتب التي قام بتأليفها أو يسلم إلى بعض الكتب التي تهمني وتتعلق بإختصاصي وهو ليس في حاجة إليها. وأثناء ترددي على بيته من حين لآخر، لاحظت أن أبو العيد دودو كان يلتقي بزملاء المهنة في منزله ويتناقش معهم في قضايا الشعر والقصة والأدب والترجمة. وكم من مرة إلتقيت في منزله بالدكتور محمد الصالح باوية، الطبيب الذي يتميز بموهبة شعرية لا مثيل لها، وبالأستاذ عبود عليوش، عضو هيئة التدريس بجامعة الجزائر، والدكتور عبد الله الركيبي الذي كان يسكن بجانبه ويقوم بالتدريس بجامعة الجزائر، وكان الحديث في جلساته مع هؤلاء الزملاء وغيرهم، يدور حول آخر الدراسات المنشورة في مجال القصة والرواية والمسرحيات التي تعرض في التلفزة الوطنية الجزائرية. وكما قال لي ذات مرة فإن هذه الجلسات كانت تتميز بتبادل النكت والتعليقات المتنوعة التي تدخل البهجة في النفوس والنشوة في الذهن وراحة البــال.
إن أبو العيد دودو شغوف بنشر إنتاجه العلمي. فكم من مرة حدثني عن "صور سلوكية ” التي كان ينشرها في جريدة ”الشعب” اليومية ويمضيها باسم "الدعاس"، وقد أكد لي أكثر من مرة أن قصصه القصيرة مستمدة من الواقع وتعبر عن سلوك وتصرفات الناس في مجتمعنا الجزائري. إنها حقيقة قصص مثيرة للإنتباه وتعتبر بمثابة ملاحظات وتعليقات على بعض المواقف المثيرة للحيرة والإندهاش.
وما أردت أن أقول هنا هو أن الأستاذ أبو العيد دودو يتمتع بحس أدبي قوي، وكل من يجلس معه في بيته أو في كلية الآداب في جامعة الجزائر يشعر بغزارة معلوماته واطلاعه الواسع على كل ما هو جديد في الفكاهة والأدب والثقافة. ومنذ اليوم الذي عرفته إلى يوم وفاته، لم أسمع من أحد أن أبو العيد دودو ظلمه أو تكبر عليه أو أساء إليه في يوم من الأيام. فهو إذا كان لا يفيد من يلتقي به أو لا يختلط كثيرا بالناس فإنه لا يضر ويمس سمعة أي إنسان بسوء.
وفي اعتقادي أن أبو العيد دودو يتمتع بقوة الشخصية والتواضع في آن واحد. وحسبما عرفته، فإنه كان من النوع الذي لا يلهث وراد المناصب ولا يتشاجر مع غيره من أجل الحصول على امتيازات ومكاسب مالية. إنه دائما قنوع ويكتفي بتغطية مصاريفه اليومية من مدخوله أو راتبه المتواضع من جامعة الجزائر، بالإضافة إلى بعض المكافآت الرمزية التي كان يحصل عليها من كتبه المنشورة ومقالاته في المجلات والجرائد اليومية.
ولعل الشيء الذي ساعد أبو العيد دودو على التفرغ للكتابة والإنهماك في القراءة وترجمة العديد من المقالات من الألمانية إلى العربية، هو الدعم المعنوي والجو العائلي الدافئ الذي يسود بيته. فقد كانت زوجته الفاضلة ”إيمي” النمساوية الأصل، هي التي تمسك زمام أمور البيت المالية، وهي التي تتولى شراء الملابس لأبنائها الأربعة (ياسمينة، نادية، سمير، سلمى). وبإختصار، لابد أن أشير هنا إلى أن زوجته الفاضلة رفضت جميع الوظائف التي عرضت عليها في الجزائر وأصرت على تخصيص كل وقتها لأبنائها وزوجها.
ونستخلص مما تقدم، أن أبو العيد دودو قد عاش حياة بسيطة ولم تكن لديه أية ثروة لبناء مسكن خاص به حيث أنه عاش طوال حياته بالسكن الصغير الذي حصل عليه من وزارة التربية والتعليم في آخر الستينات من القرن العشرين في حي بن عكنون. لقد كان طول حياته يشكو من ضيق المسكن وصعوبة ترتيب كتبه وأبحاثه وما يقتنيه من مراجع علمية في غرفة صغيرة لا تتجاوز 3 × 3 أمتار. ومع أنني نصحته أكثر من مرة عندما كان مديرا لمعهد الآداب في جامعة الجزائر أن يطلب سكنا أوسع، أو على الأقل يسجل إسمه في قائمة الراغبين في الحصول على سكن أوسع من الذي هو فيه، إلا أنه لم يستمع إلى النصيحة ولم يهتم بموضوع الحصول على مسكن كبير لأن اهتماماته كانت منصبة على الكتابة والترجمة والإطلاع على آخر المستجدات في المجال الأدبي.
وحسب علمي، فإنه حصل على عدة جوائز (خاصة في يوم العلم الذي يوافق يوم 16 أفريل من كل سنة) لأنه كان يفتخر ببعض الجوائز التي كانت تقدم له، مثل حصوله ذات مرة على جهاز كومبيوتر حديث كان يستعمله لكتابة أبحاثه أو ترجمة الكتب من الألمانية إلى العربية. وكما هو معروف، فإنه كان يكتب مباشرة على جهاز الكومبيوتر ولا يستعمل الأوراق أو الأقلام في الكتابة. كما أن رئاسة جامعة الجزائر قد كرمته أكر من مرة وساعدته على التنقل إلى جامعة فيينا في إطار منح قصيرة المدى. وفي آخر مرة التقيت به في منزله، أطلعني على جهاز كومبيوتر سلم إليه من طرف جامعة الجزائر التي كانت لا تبخل عليه بالتشجيع على الكتابة والترجمة.
وبإيجاز إن أبو العيد دودو قد سخر قلمه لخدمة الثقافة والمعرفة في الجزائر وبذل كل ما في استطاعته لتعليم وتخريج شخصيات علمية في الجامعات الجزائرية، وساهم في إثراء المكتبة بمؤلفاته الرائعة التي تحمل بصماته إلى الأبد. واعترافا منا بخدماته الجليلة لثقافتنا وأبناء شعبنا ووطننا، قمنا بكتابة هذه السطور للتعريف به، ومساهماته في إثراء الأدب والقصة والترجمة في الجزائر، رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جنانه.
دراسة منشورة في مجلة اللغة العربية، عدد خاص بالفقيد، خريف 1904، ص 139-149.