سليمان بشنون.. سيرة ومسيرة
بقلم: محمد بوالروابح-
الشيخ سليمان بشنون رحمه الله رجل من الأخيار، عاش للدين وللوطن وللفكرة وللثورة وللقلم فاختمرت في نفسه قيم الاستقامة ومشاعر الوطنية وخيالية المفكر وحماسية الثائر وجماليات الكاتب وأخلاقيات العالم. ليس من العصبية المقيتة ولا من الجهوية الضيقة أن نكتب عن هذا الرجل الفاضل لأنه أهل للفضل وأهل الفضل أحق أن يذكروا فيحمدوا. لا يعرف أقراني من جيل الاستقلال شيئا كثيرا عن سيرة ومسيرة الشيخ سليمان بشنون رحمه الله لأنه كان مغيبا معزولا عن بني جلدته رغم أنفه، شأنه في ذلك شأن كثير من علماء الجزائر الذين أكرهوا في زمن الاحتلال على الانعزال.
لقد أسعفني البحث في بطون الكتب التعرف على حياة هذا الرجل المليئة بصور الحرمان، فقد روى من كتبوا سيرته أن والده لم يكن رجلا ميسورا فاضطر لبيع بقرته التي يقتات هو وأبناؤه على لبنها من أجل أن يوفر لابنه ما يلزمه من أدوات الدراسة التي لم تكن في ذلك الوقت إلا مدواة وقلما من القصب وما يلزمه من الثياب التي لم تكن مزركشة ولا معقدة كثيابنا نحن بل كانت ثيابا متواضعة تستر العورة وتوفر بعض الدفء لصاحبها، فالعظماء يولدون من رحم المعاناة والعظمة تخرج من كنف البساطة.
وُلد الشيخ سليمان بشنون في فجّ الأخيار في العشرينيات من القرن العشرين، التحق في طفولته بالكُتّاب فحفظ القرآن الكريم ثم حفظ المتون وتبحّر في العلوم والفنون، وعكف على المؤلفات والمصنفات والألفيات فحفظها عن ظهر قلب فتفتق ذهنه واتسعت مداركه وطفق بعدها يوازن ويقارن ،و يحلل ويؤصل حتى أصبح من مراجع العلم، وقد ساعده سفره إلى مصر والزيتونة على اكتساب مهارات جديدة فعاد إلى وطنه حاملا زادا معرفيا كبيرا بذل أكثره في تعليم أبناء الشعب ممن حرمهم الاستدمار الفرنسي من فرصة التعلّم والاغتراف من نبع العلم وينابيع الحكمة.
ينتمي الشيخ سليمان بشنون إلى عائلة ثورية معروفة بإبائها وولائها لوطنها، وقد نال بعضهم شرف هذا الإباء والولاء فحملت أول ثانوية في فج امزالة اسم بشنون السعدي.
طوف الشيخ بشنون بمناطق كثيرة من الجزائر عالما ومتعلما فبعد عودته من جامع الزيتونة حاملا لشهادة التحصيل، اشتغل في مدرسة التربية والتعليم بفج امزالة ومدرسة الشبيبة بتيزي وزو ودار الحديث بتلمسان وعُيِّن أستاذا بمعهد عبد الحميد بن باديس، وكان عضوا فاعلا في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي نال شرف رئاستها إلى أن توفاه الأجل، فكان حلقة وصل بين سلف هذه الجمعية وخلفها فبكاه أبناء الجمعية من هذا الجيل كما بكى أسلافُهم من الجيل الذهبي رئيسَهم عبد الحميد بن باديس وخلفه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.
جاء في شهادات من أرَّخ لسيرة الشيخ بشنون أنه كان يمتلك حسا أدبيا قمة في الجودة وقمة في الروعة وكأنه يحاكي في ذلك أديب الجمعية محمد البشير الإبراهيمي الذي امتلك ناصية اللغة فكان واحدا من أساطينها وروادها من دون منازع.
كل من مرّ بثانوية حسيبة بن بوعلي بالقبة وثانوية الأمير عبد القادر بباب الوادي بالعاصمة يكون بيقين قد حصل له شرف التتلمذ على يد الشيخ سليمان بشنون الذي كان –حسب بعض الشهادات- معلما متميزا وأديبا بارزا يقدم الرواية الأدبية في ثوب قشيب وأسلوب بديع يأسر السامعين، وليس هذا بغريب من رجل تشبَّع بلغة القرآن التي هي المصدر الأول لتقويم اللسان والإحاطة بأسرار البيان.
تقاعد الشيخ بشنون بعد مسيرةٍ حافلة من العطاء، ولكنه لم يشأ أن يكون التقاعد عنوانا للاستقالة من العلم وانتظار أجر “المعاش” كما يفعل كثيرٌ من الناس، بل جعل من تقاعده فرصة للتفرُّغ للعمل الثقافي والخيري ولكل عمل ينفع به أمَّته ويخدم به وطنه، وهذا هو ديدن النفوس الكبيرة التي لا تعرف الكلل والملل بل تؤمن بأن العطاء ليس له عمر، وقد صدق الشاعر حين قال: وإذا كانت النفوس كبارا.. تعبت في مرادها الأجسام.
نال الشيخ بشنون تكريمات كثيرة ولكن أكبر تكريم له أن يشمله قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه”. ما أحوجنا في هذا الزمان إلى أمثال الشيخ سليمان لكي يأخذوا بيد هذا الجيل إلى برِّ الأمان متسلحا بسلاح المعرفة في زمن العولمة الذي لا مكان فيه للأمِّيين، وما أحوجنا في هذا الزمان إلى رجل من الكبار من طينة الشيخ سليمان، يحيون ما اندرس من معالم هذه الأمة التي كانت خير أمة أخرجت للناس وكانت الأولى بين الأمم لم ينازعها في الأولية أمة من الأمم ثم تقهقرت لقرون وهي اليوم تسترجع أنفاسها وتتلمس طريقها نحو الريادة المفقودة.
كان الشيخ بشنون يؤمن بوحدة القيم الدينية والوطنية، فكان يكتب عن قضايا الوطن بقلم الصحفي المشبَّع بالروح الدينية والوطنية وهو ما كرسه في جريدة “الشعب” وجريدة “البصائر” حتى بعد أن وهن العظمُ منه واشتعل الرأس شيبا، ولم يتوقف عن الكتابة إلى أن برح به المرض، وهذا هو الصنف من الرجال الذين نحتاج إليهم في زمن المحنة وزمن الأزمة، فنظرهم الثاقب ورأيهم الصائب سلعة نادرة في هذا الزمان.
قيل من لم يؤلّف كمن لم يخلّف، فالتآليف هي التي تذكِّر الأجيال بما صنعه الرجال، فمن لم تسعفهم معاصرة الشيخ سليمان ومرافقته والتتلمذ عليه يجب أن لا يفوتهم شرفُ التتلمذ على تآليفه التي ناهزت العشرين وتنوّعت بين الكتابة في السيرة النبوية والكتابة في تاريخ الحركة الإصلاحية والكتابة في الثقافة والشخصية الوطنية. تمتاز مؤلفات الشيخ سليمان بشنون بالعمق الفكري والرونق الأدبي، فهو ليس من الذين يلبسون الفكرة ثوبا أدبيا أخاذا ويُسلبونها عمقها الفكري، وليس من الذين يستهويهم الإطناب أو ممن يلفون ألفاظهم بركام من السجعيات التي تبهت الفكرة وتضيع معها كل فائدة. كان الشيخ بشنون كاتبا مقتدرا ومفكرا متعمّقا وقد تجلى هذا فيما كتبه عن الحركة الإصلاحية الجزائرية، فقد قدم الرجل صورة موضوعية عن هذه الحركة يزيِّنها عمقُ التحليل ودقة التأصيل وعدم الانقياد وراء الهوى خلافا لدأب بعض الكتاب والمؤرِّخين الذين سقطوا في فخِّ الحزبية والفئوية فلبسوا بعض الحقائق وغضوا الطرف عن بعض الوثائق.
لقد عاش الشيخ سليمان بشنون كبيرا ومات كبيرا، وقد نعته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ونعته هيئة علماء المسلمين في العراق والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ونعاه الجزائريون والمسلمون في بقاع كثيرة من العالم، ومن حق هذا الرجل أن نعتني بأفكاره ونهتم بأفكاره وأن تؤسَّس باسمه جمعية وطنية تحيي جهاده الفكري والوطني. ومن حق هذا الرجل على أهل بلدته ( فج امزالة) أن يقتدوا بسيرته ويكملوا مسيرته، وليس هذا بعزيز على أهل هذه البلدة الطيبة التي أنجبت فطاحل العلماء وكبار الحكماء وكانت قلعة للنضال ومدرسة لصنع للرجال. رحم الله الشيخ سليمان بشنون وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن الجزائر وعن أمة الإسلام خير الجزاء. آمين.