الحصار الشديد والإتفاقية المشروطة
علي الصلابي

الحصار الشديد والإتفاقية المشروطة

بقلم: د. علي الصلابي-

اشتد العداء بين الأمير وسلطان المغرب، وبالغ السلطان في تضييق الخناق على الأمير، فسار مع من بقي معه من المجاهدين متجهاً نحو الصحراء، وأمر بنقل الدائرة إلى مناطق عجرود، وتقدم بجنوده بمحاذاة النهر، ووضع الكمائن للعدو بين الأحراش، وخطط لها قواعد تعود إليها بعد انتهاء مهماتها، وسار غازياً إلى الجهات الشرقية، غير عابىء ببيجو ولاموريسيير.

كان السلطان عبد الرحمن مستمراً في مراسلة القبائل التي بايعت الأمير عبد القادر، ويستخدم علماء بلده في اتهامه بأنه زائغ عن الهدى: إن من يتبع هذا الرجل فقد باع دينه وباء بالضلال والردى، وحاد عن شريعة الهدى، وقد أعذر من أنذر. في الثالث من (رمضان سنة 1263هـ) من الولي عبد الرحمن بن المولى هشام.

وهذه الرسائل وغيرها فعلت فعلها في نفوس هؤلاء الزعماء، ومن المعروف في ذلك الزمان والمؤكد أن قائد القبيلة أو زعيمها، إذا اقتنع بأمر ما سار على هديه جميع أفرادها من دون مناقشة، وعلى القارأئ أن يتخيل ما حدث سنة (1847م، 1848م) وبات الأمير عبد القادر يقاتل على عدة جبهات وليس هذا فقط، بل كان يرى بأم عينيه فرسانه الأبطال يتساقطون برصاص إخوانهم العرب المسلمين، وشاهد أشهر قائد لديه، الشهير محمد بن يحيى يسقط صريعاً في إحدى تلك المعارك المؤسفة.

وظلم ذوي القربى أشدُ مضاضة على المرءِ من وقع الحسام المهند

أ ـ القرار الخطير:

بالغ السلطان عبد الرحمن في عدائه للأمير إلى الحد الذي جعله يحرّض عليه زعيم الأحلاف في الريف، الشيخ بوزيان، وزعماء بني زناسن وأنكاد. ولـم يكتف بذلك، بـل أرسـل ذات مرة جيشاً بقيادة الأحمر، وأمره بالاستيلاء على مقر الأمير ـ كما مرّ معنا ـ. وفي أواخر سنة (1847م) لم يعد الأمير يحارب جنرالات فرنسا وجنودها المدربين، بل شُيّد بينه وبينهم سدُّ من صدور المسلمين، شيده السلطان عبد الرحمن، وفرض على الأمير واقعاً مراً مرفوضاً من قبل المؤمنين، وهو قتال الإخوة، وفرضت على الأمير معارك مؤسفة، شغلته ومنعته عن الاستمرار في مقاومة المستعمرين، هذا الهدف العظيم الذي حمل الأمير والمجاهدون معه السلاح من أجله سنة بعد سنة ثمانية عشر عاماً، كان فراش الأمير خلالها ظهر جواده. وفي أواخر هذه السنة لم يرَ الأمير أمامه جنود المستعمرين، بل رجالاً وجنوداً مسلمين يحاصرونه من كل جانب، ويتأهبون للانقضاض عليه وعلى من تبقى معه من المجاهدين المؤمنين بعدالة قضيتهم، وبالله، والوطن، وبسيرة أميرهم الصحيحة والشرعية.

وفي ليلة ماطرة شديدة الظلام نظر هؤلاء المجاهدون إلى وجه الأمير، وتحدث معهم فقال لهم: إن المعلومات التي لدي بأن الطريق الوحيد للوصول إلى الصحراء هو مضيق غربوس. قال الأمير: بإمكاننا فتح هذا المضيق، ولكن بعد اشتباك أخطر من الذي جرى قبله، لأن البدء بالهجوم والقيام بالقتال «قتال الإخوة» وإسالة دماء من يقولون: ربنا الله، وسيدافعون عن أنفسهم حتى الموت، هذا أولاً، وثانياً علينا التحرك فوراً، وحمل جرحانا كي لا يقعوا بيد من لا يرحم، لذلك لا أرى إلا التسليم بقضاء الله والرضا به، لقد اجتهدت نفسي في الذب عن الدين والبلاد، وبذلت وسعي في طلب راحة الحاضر منها والباد، وذلك من حين اهتز شبابي وافترّ عن شباة الهندي نابي، وأقمت على ذلك ما ينوف على ثماني عشرة سنة، أقتحم المهالك، وأملأ بالجيوش الجرّارة الفجاج والمسالك، وأستحقر العدو على كثرته، وأستسهل استقصاءه وأتوغل ـ غير خائف ـ أوديته وشعابه، وأرتب له في طريقه الرصائد، وأنصب له فيها المكائد والمصائد، تارة أنقض عليه انقضاض الجارح، وأخرى أنصبُّ له فيها انصباب الطير إلى المسارح، وكثيراً ما كنت أبيّته فأفنيه، وأصبحه فأبرد غليلي منه وأشفيه، ولازلت في أيامي كلها أرى المنية ولا الدنية، وأشمّر عن أقوى ساعد وبنان، وأقضي حق الجهاد بالمهند والسنان، إلى أن فقدت المعاضد والمساعد، وفني الطارق من أموالي والتالد، ودبت إليَّ من بني ديني الأفاعي، واشتملت عليّ منهم المساعي، والان بلغ السيل الزبى والحزام الضبنين، فسبحان من لا يكيد له كائد، ولا يبيد ملكه وكل شيء بـائد. ثم طرح الأمير فكرة وقف الحرب ؛ لأنه المطلوب من الأعداء شخصياً، كحاكم لدولة وقائد للجيش النظامي وليس وقف المقاومة، لأنها بيد الشعب وليس بيده، ولن تقف إلا بزوال الاحتلال، والشعب الذي سيصحو يومـاً عاجلاً أو اجلاً، ويكتشف أكاذيب المحتلين وغدرهم، والذين استسلموا للأعداء وحاربوه بسلاح المحتلين، سيدركون يوماً أي مصير قادهم إليه تحالفهم مع الأعداء ولمصلحة من كان تحالفهم؟

أدرك الأمير ما كان يدور في خلد هؤلاء الأبطال من رجاله، فقال مرتجلاً بعض الأبيات لتخفيف جمود تلك اللحظات:

إن يسلبِ القومُ العدا ملكي وتُسلمني الجموع

فالقلب بين ضلوعه لم تُسلمِ القلبَ الضلوع

أجلي تأخّر لم يكن يهواه ذُلِّي والخضوع

ما سرت قط إلى القتا ل وكان من أملي الرجوع

شيم الألى أنا منهم والأصل تتبعه الفروع

ثم قال: نحن لا نخشى الموت، فالشهادة في سبيل الله جلّ ما نبغيه ونسعى إليه، واستشهد بقول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *} [آل عمران: 169].

ثم استشهد بجملة لمفتي المالكية، العلامة الحجة محمد علوية في الديار المصرية: ما من ميت يتمنى العودة إلى الحياة الدنيا إلا الشهيد، لما يجده عند ربه من الخيرات مما لا يخطر على بال بشر. ثم استأنف: الشهادة في سبيل الله هي مطلبنا. ولكن إذا استطعنا الخروج مما نحن فيه الان، والوصول إلى التخوم المجاورة ووادي عجرود حيث ترابط الجيوش الفرنسية ومهاجمتها، ثم الانسحاب نحو مقرنا في الدائرة، لكان خيراً عظيماً لنا ونصراً مؤزراً. وأجابه أحد المجاهدين: لكن كيف لنا الخروج وقوات السلطان تجوب الطرق، وتحاصر المسالك والمنعطفات بحثاً عنا، والعيون هنا من حولنا تراقب حركاتنا وسكناتنا، وقد بتنا وكأننا في معتقل كبير للأعداء؟

لم تدم هذه الأحاديث بينهم أكثر من دقائق، وقف الطيب المختار وسأل الأمير: ماذا بعد وقف الحرب؟ أجاب الأمير: الهجرة من البلاد، لأنني شخصياً مستحيل عليَّ العيش ولو للحظة واحدة تحت راية ليست راية بلادي الإسلامية، وليست راية دولتي. فوافق الجميع على قرار وقف الحرب، حقناً للدماء الغالية التي ستُزهق من الطرفين المراكشي والجزائري بغير طائل.

ب ـ طرق باب الاستئمان الزمني لأجل الهجرة:

كانت الطريقة للخروج من هذا المكان، وتحقيق مقصد الهجرة عن طريق الاستئمان الزمني، وهو طلب الأمان وإعطاء الفرصة للخروج من أجل الهجرة في سبيل الله تعالى، فعندما تساءل الحاضرون في مجلس الأمير عبد القادر:

كيف الخروج إلى الهجرة؟ والخروج من هذا المكان الذي نحاصر فيه؟ أجاب ابن علال، وكان من الفقهاء: سنطرق باب الاستئمان الزمني. قال الأمير: نعم أيها الأخوة سنطرق هذا الباب، وهو باب معروف في الجهاد في الإسلام. والهجرة في ظروفنا هذه أعتقد أنها أصبحت حقاً علينا، وإن لم نطرق بابها نكون اثمين بحق أنفسنا، قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء : 100].

ـ وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *} [النحل : 41].

وذكر أقوالاً كان قد كتبها لبعض خلفائه جواباً لاستفساراتهم حول الهجرة، وقد جاء في القرآن ذكر الهجرة مراراً وذُمّ تاركها، والله جعل لها شروطاً، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة حتى يغلق باب التوبة، ولا يغلق باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغاربها». أما باب الهجرة من مكة إلى المدينة فقد انقطعت بالفتح، أي بفتح مكة، ثم تابع الأمير كلامه، فقال: سأرسل رسالة شفهية إلى الجنرال لاموريسيير ممثل الدولة التي تحتل بلادنا، ليخبرها باسمي بأنني أريد طريقاً امناً، بقصد ترك البلاد والسفر إلى الإسكندرية أو عكا، فإن وافق فالخيرة فيما اختاره الله، وإن رفض نكون أمام الله لم نأل جهداً، ونتحرك بما عندنا من قوة لفتح مضيق غربوس، والاتجاه نحو الصحراء في حال انتصارنا، ولاشك أنها ستكون مغامرة ولكن لا خيار لنا، لأننا حيثما توجهنا سوف نجد سداً من صدور إخوة لنا في الدين، جندهم الأعداء ليتخذوا منهم حاجزاً ودروعاً لهم.

لم يطرق الأمير عبد القادر أبواب السلطان عبد الرحمن في أي تسوية معه، للأسباب التالية:

ـ لأن السلطان مرتبط باتفاقية مع فرنسا بشأن الأمير ومقاومته.

ـ لأن قوات السلطان تحاربه بموجب الاتفاقية، وهي اتفاقية طنجة عام (1844م)، التي نصت على موافقة السلطان على مقاومة الأمير والقضاء على دولته، والقبض عليه وتسليمه إلى القوات الفرنسية.

ـ السلطان عبد الرحمن لا يمكنه عقد أي اجتماع مع الأمير إن كان استئماناً وطلباً للهجرة، أو وقف الحرب مثلاً ؛ إلا بعد الرجوع إلى السلطات الفرنسية، لأنه كان مكبلاً بتلك الاتفاقية.

ج ـ الرحيل:

سار مبعوث الأمير عبد القادر يحمل الرسالة الشفهية، فصادف عدداً من الكمائن في طريقه، أشهروا السلاح في وجهه وأرغموه على الترجل، ومن هذه الكمائن قوة من المسلحين بقيادة بن خيوة من قبيلة الدوائر، وبعد أن علم بمهمة المبعوث أرسل معه عدداً من جنوده، رافقوه حتى معسكر لاموريسيير، فبلّغ المبعوث الرسالة الشفهية إلى الجنرال الذي كان جالساً في خيمته وأمامه على الأرض عدد من الخرائط، فانتصب واقفاً وضرب كفاً بكف سروراً، وعلت وجهة علامات الفرح، فأخذ على الفور ورقة بيضاء من الطاولة ووضع عليها ختمه ووقعها بإمضائه، ثم سلمها إلى الفارس قائلاً: فليضع الأمير طلباته ونحن على استعداد لتلبيتها، ثم أعطاه سيفه هدية للأمير، دليلاً على قبولهم وقف الحرب، ثم أرسل كتاباً إلى الدوق دومال ولي العهد، ورسالة إلى الملك يقول له فيها: إني في هذه اللحظات ممتط جوادي للذهاب للاجتماع بالأمير عبد القادر، ولا يوجد عندي لحظة من الوقت لأبعث لجلالتكم نسخة من هذا الكتاب الشفهي الذي وصلني أو نسخة من جوابي عليه، ولكنني أستطيع القول: إنني اتفقت مع الأمير على حسب طلبه أن يذهب هو وعائلته إلى الإسكندرية أو بلاد الشام، وإني قبلت بجميع طلباته ووقعت عليها، وأنا ملزم بتنفيذها حرفياً، أرجو أن توافقوا جلالتكم على ذلك.

وقبل أن يصل الكتاب الرسمي من الملك ؛ ركب الدوق دومال ولي العهد بارجة إلى مرفأ جامع الغزوات، وأرسل إلى الجنرال يخبره بموافقته على طلبات الأمير كلها، وأمره أن يعطي الأمير مزيداً من الثقة. وأخذت الرسل تسعى بين الأمير والدوق دومال ثلاثة أيام بلياليها من دون توقف، للتوقيع الرسمي على جمع الطلبات بشكل رسمي.

وأول هذه الشروط تتعهد فيه فرنسا بعدم التعرض للسكان والمجاهدين منهم بالشر، وبإعطائهم الأمان في أموالهم وأنفسهم ودينهم، وعدم اعتراض أو منع من يريد السفر معه من العسكريين والأنصار والأهل، وكان ثمة شرط واحد لنفسه، وهو الأهم الاستئمان الزمني ريثما يصل إلى البلد الذي حدده في الاتفاق وهو عكا أو الإسكندرية.

بعد عدة أيام من المفاوضات تم التوقيع من قبل الجميع على طلبات الأمير، فسار بأهله «من تنخريت» متجهاً إلى مرفأ الغزوات، وكان ينتظره الدوق دومال وليّ العهد والجنرال لاموريسيير، وعدد من قادة جيش العدو وضباطه، وهذا ما لم يتوقعه الأمير وفوجأئ به، وفي أثناء مروره بمقام سيدي إبراهيم المكان الذي هزم فيه القوات الفرنسية عدداً من المرات، وكان آخر انتصار له عليهم في هذا المكان منذ وقت قريب، فأمر بإيقاف الموكب، وصلَّى ركعتين على أرواح الشهداء وكان يرافقه أهله وبعض أعوانه، وعدد من أفراد حاشيته المقربين

وعندما وصل موكبه إلى المرفأ المذكور استقبله الدوق والجنرال بكل احترام استقبالاً رسمياً، وترّجل الأمير عن حصانه الأدهم، وقدّمه هدية للدوق، ثم قدم له الدوق أيضاً بندقيته وساعته هدية فقبلها. وبعد فترة من الاستراحة سار الجميع إلى المرسى، وقد اصطف الناس يميناً وشمالاً وهم يبكون، وكان الفرنسيون الحاضرون يعجبون كيف كان الناس بمن فيهم الجنود الجزائريون في الجيش الفرنسي يبكون، ويقبلون برنسه وهو مار إلى البارجة.

وركب الأمير يوم (24/12/1847م) البارجة التي اتجهت به إلى ميناء طولون، ولسان حال الشعب ينشد باكياً:

تبكي السماء بمُزنٍ رائح غادي على الأبطال من أبناء بلادي

إن يُغلبوا فبنوا العبّاس قد غُلبوا وقد خلت قبل حمصٍ أرضُ بغداد

دنا الوقت لم تُخلف له عِدةٌ وكلُّ شيءٍ بمقيات وميعاد

سارت سفينتهم والنوح يصحبها كأنها إبل يحدو بها حادي

انتشر خبر رحيل الأميرفي أرجاء الوطن كالنار في الهشيم، ووقع هذا الحدث المفاجأئ كالصاعقة على رؤوس السكان، فأخذت النساء بالبكاء والعويل، وعمد الرجال إلى التجمعات الصامتة الحزينة والنفوس كالنار تحت الرماد، ولاحظ المحتلون تلك الظواهر، ودبّ الرعب في قلوبهم، فطلب أحد الضباط من الجنرال لاموريسيير منع هذه التظاهرات بالقوة، فأجابه: دعهم يبكون فلقد ذهب عزّهم وعزّنا أيضاً، فلولا الحروب التي خضناها ضد هذا البطل لما رأيت هذه الأوسمة على صدري، ولما وصلت إلى هذه الرتبة العالية، جئت إلى هذه البلاد وأنا ضابط صغير فانظر إليّ الآن.

د ـ نقض فرنسا للعهد واعتقالها للأمير:

وفي (الرابع والعشرين من كانون أول سنة 1848م) رست البارجة في مرفأ طولون، وكان الكولونيل دوماس يرافق الأمير وأعلمه بأن البارجة في حالة انتظار لبعض الوقت ؛ حتى تصل توجيهات من الدول العثمانية، ولكن قبل أن تصل هذه التعليمات دخل الكولونيل دوماس على الأمير وأدّى له التحية العسكرية بكل احترام وتقدير، ثم أخبره أن المفاوضات لم تنته بعد، وأن عليه الانتظار بعض الوقت، فشعر أن هناك نية غدر مبيتة، ولم تخنه فراسته، وتأكد من الخديعة والغدر عندما أبحرت بهم البارجة، ودخل عليه دوماس، وذكر أنهم قاصدون فرنسا حسب أوامر الملك، الذي يعتذر له عن عدم الوفاء بشرط «الهجرة»، لأنه لاقى معارضة شديدة من مصادر عليا في فرنسا. وقال له أيضاً على لسان الملك : إن فرنسا مستعدة لأن تمنحكم أراض شاسعة، وقصوراً تعيشون فيها مكرمين، ويستطيع أفراد حاشيتك امتلاك مزارع يعملون فيها طيلة حياتهم إلى جانبك. فرفض الأمير قائلاً: لو ملكتموني فرنسا كلها فلن أقبلها بديلاً عن وطن عربي إسلامي أعيش فيه، ولو وضعتم فرنسا كلها في برنسي هذا وفرشتموها بالديباج لنفضته إلى الأمواج التي تضرب جدران هذه البارجة الحربية.

وقبل وصول البارجة الحربية إلى ميناء طولون سأله دوماس إن كان يريد زيارة باريس فلقد سبق أن زارها إبراهيم باشا خديوي مصر، وكان سعيداً برؤيتها، فأجابه الأمير: إن هذا المذكور زارها سائحاً للنزهة فقط، ولكنني الان لا أرى فرنسا إلا سجناً لي ولمن معي، وقد أردت أن أكون ضيفاً على بارجتكم، فأصبحت أسيراً لديكم. وبعد ذلك نقل مع كل من معه إلى حصن طولون الشهير تحيط بهم حراسة شديدة مشددة.

كان الهدف من سجن الأمير تحطيم رمزيته الكبيرة في نفوس الشعب الجزائري، فرئيس الحكومة فيزو الذي عيّن الجنرال الأشد عناداً في حرب الأمير، كتب في مذكراته: إنه لا يمكن تحطيم رجل عظيم على رأس أمته طالما أنه لم يقتل أو يؤسر.

وفي أواخر شهر (نيسان 1848م) تم عزل الأمير ذات ليلة عاصفة عن إخوته وعن عدد كبير من مرافقيه، ونقلوا إلى باخرة حملتهم إلى سجن باكريت، ونقلوا الأمير إلى قلعة أمبواز دون أن يكون في صحبته رجال يُخشى منهم، لأن حصن أمبواز يقع في مدينة «بو» التابعة لمقاطعة أورليان القريبة من الحدود الإسبانية، فكانت هذه السلطات تخشى أن يخرج الأمير بالقوة بمساعدة مرافقيه الأشداء ويدخلوا الحدود الإسبانية، وبمرافقة حراسة مشددة نُقل الأمير إلى تلك المدينة، وفي أثناء الطريق مروا بمدينة بوردو الساحلية، فاستقبله عند مدخلها الأسقف دوبيش احتراماً وتقديراً. وكان هذا الأسقف معجباً بالأمير ومن المدافعين عنه، وكان من الذين زاروا الخليفة محمد بن علال في ولايته من أجل بعض الأسرى الفرنسيين فوجد لديه من الإكرام ما لا ينسى.

وأقام الأمير في فندق المدينة بعض الوقت للاستراحة، ثم تابعوا سيرهم إلى مدينة «تور» ومنها إلى «أمبواز». وعندما وصل القطار قال له الجنرال المرافق: احمد ربَّك على وصولك بالسلامة إلى هذا المكان، إذ كنت طوال الطريق في أشد الحذر من أن يهاجمك أحد ويغتالك ؛ لأنه لا يوجد في فرنسا كلها أحد ليس له عندك ثأر.

كان حصن أمبواز لأحد ملوك فرنسا، وهو عبارة عن قلعة كبيرة عالية الأسوار، تحيط به سهول واسعة ونهر تسير فيه المراكب أحياناً. وقد أقام الأمير في هذه القلعة هو وإخوته الأعزاء لديه ؛ الذين كان يعز عليه أن يبقوا بعيدين عنه، وكان بعدهم يحزن والدته العظيمة ؛ التي كانت تلح عليه باستمرار لكي يسعى إلى ضم إخوته إليه في هذا الحصن ؛ الذي كان في نظرهم سجناً كبيراً، وقد أرسل الأمير عدة رسائل إلى الجنرال لاموريسيير والدوق أورليون اللذين وقعا أمامه على شروط تسليم نفسه، طالباً الوفاء بالشروط وضمّ إخوته وضباطه إليه.

استسلم الأمير عبد القادر لقدر الله وقضائه، ولكنه ندم على الوثوق بالعهود التي أعطيت له من قبل القادة الفرنسيين، وقال: لو كنت أعلم أن الحال يؤدي إلى ما إليه ال، لم أكن لأترك القتال حتى ينقضي منا الأجل.

وقام الجنرال لامور سيير بمساعي كبيرة، وكذلك الأسقف دوبيش، والدوق دومال، للضغط على حكومتهم قائلين: إن عبد القادر ليس بالرجل الذي يهرب من قضائه، فهو مؤمن ذو همة وجلد وصبر، ولا يبالي بالشدائد، وهو ذو قوة وعزة نفس وصلابة في دينه وصدق اشتهر به، وهو شديد التمسك بمبادئه الوطنية، وهو شخصية نادرة إذا وعد وفى وإذا تكلم صدق.

واستطاعوا التأثير في السلطات العليا، فسمحت لمن يريد بزيارته، كما أمرت بلمّ شمله مع أهله وقادة جيشه السابقين.

وعندما كتب بيجو بطلب من لويس فيليب إلى الأمير، ليطلب منه أن يقبل أن يعيش في فرنسا في مدينة تليق بمقامه، في انتظار الفترة المناسبة لنقله إلى المشرق ؛ كان رد الأمير هو التالي: إن فرنسا ملزمه إزائي وإزاء نفسها، إن وعدكم لن أسقطه عنكم، سأموت ووعدكم عندي حتى أفضحكم، وحتى تعرف الشعوب والملوك قيمة الوعد الفرنسي.

وبعد سقوط ملكية جويلية؛ فإن الحكومة المؤقتة كانت غير قادرة على الوفاء بوعد فرنسا مثلها مثل النظام السابق لها، وعندما سأل محافظ الحكومة المؤقتة الأمير عبد القادر عن الضمانات التي يمكن أن يقدمها إلى فرنسا ليؤكد لها أنه لن يظهر أبداً في الجزائر، كان رد الأمير هو التالي: ليس لدي ضمانات أخرى أعطيها حول عزمي الثابت، فيما يخص المستقبل، سوى تلك التي سبق لي أن قدمتها.

1 ـ شخصيات فرنسية وإنجليزية تدافع عن الأمير:

وللحقيقة التاريخية أنه تدخل لصالح الأمير عبد القادر، ودافع عنه العديد من الشخصيات الفرنسية مثل الجنرال لاموريسيير، والأسقف الأول للجزائر أنطوان دوبيش، ودوق دومال. والشيء الأكثر إثارة للدهشة في هذه القضية أن كافنياك وهو أحد الجنرالات الذين قاتلوا الأمير قد أعلن بعد تشكيل حكومة الجمهورية الثانية: لا يمكن اعتبار عبد القادر سجيناً ؛ فقد كان طريق الجنوب مفتوحاً أمامه، وقد فضل هو الرجوع إلى ما يسميه هو بصدق الوعد الفرنسي.

وقد تأثر الرأي العام الفرنسي والدولي وعُبّر عنه بصفة خاصة في بريطانيا من طرف اللورد «لندنديري» والشاعر «شاكري»، وقد اهتز لهذا الموقف اللورد البريطاني لندنديري، فكتب رسالة شديدة اللهجة إلى لويس نابليون، رئيس الجمهورية الفرنسية المنتخب، وألح عليه بإطلاق سراح الأمير عبد القادر لينقذ شرف بلده ويؤكد عدم نبذ عهودها، ووصل بالسيد لندنديري الحد إلى التهديد بكشف المراسلات التي تثبت شروط المعاهدة بين الأمير عبد القادر وبين فرنسا ؛ التي أبرمت في (ديسمبر من عام 1847م) .

كما أن سيادة ديبيش الذي أصبح مطران باريس قد خاطب من على أعلى منبر نوتردام حاكم بلاده قائلاً: إنكم ستقتلون هذا الرجل دون أي مراعاة لوعد فرنسا.

لم يقبل الأمير عبد القادر ـ على الرغم من العديد من الطلبات الجد مغرية ـ بأن يبقى في فرنسا، حيث وعدته الحكومات المتتالية بمعاملة ومعاش يليقان بمقامه الكريم، وظنت فرنسا أن بقاء الأمير كرهينة سيقبل بعد الإرهاق أن يقيم في فرنسا، وهو ما يعني في نظر زعمائها الانضمام إلى فرنسا.

ومن الواضح أن الأمير عبد القادر قد كوّن مشكلة نفسية وتأنيب ضمير وتشويه سمعة بالنسبة لفرنسا، وكان الكل يشعر نحو الأمير بالإعجاب، ولذلك حرصوا على أن يبقى في فرنسا، لكي يحققوا من خلف بقائه عدة أهداف منها:

ـ تحية وإكرام لفرنسا.

ـ وتنكر الأمير لماضيه.

إلا أن الحياة الحرة العزيزة الأبية، وتعلقه بشعبه ووطنه، جعله كل ذلك يبقى في أعين الجزائريين والعالم أجمع كرجل وهب نفسه للقيم والمبادئ الإنسانية الرفيعة، ومن أهمها حريته وحرية شعبه التي لا مساومة عليها مع المحتلين، ولذلك أصبح من الرموز اللامعة للجزائر والعرب والمسلمين والأحرار من بني الإنسان

2 ـ حياته في السجن:

استطاع لاموريسيير والأسقف دوبيش التأثير على السلطات الفرنسية، فسمحت للأمير عبد القادر لمن يريد بزيارته، وأخذت شخصيات كبيرة من جميع أقطار العالم تتوافد لزيارة الأمير والتعرف على شخصيته الفذة، وتسلم رسائل من الشيخ شامل أحد زعماء الداغستانية في الولايات الإسلامية التي وقعت سيطرة روسيا القيصرية عليها، ومن الذين حملوا مسؤولية الجهاد مدة طويلة منذ احتلال المناطق الإسلامية في بلاد القوقاز من سنة (1834م) إلى (1859م) وعمل على تثبيت الشريعة الإسلامية في قلوب أبناء تلك البلاد، ونشر الوعي الإسلامي والتمسك بالقرآن والسنة.

وكان الأمير يستقبل الجميع بالبشر والترحيب، وكان يقضي الساعات الطوال مع العلماء والشخصيات العالمية ويجيب عن أسئلتهم ؛ التي تتعلق بالدين الإسلامي وبالفقه والايات القرانية وتفسيرها، وكان صبوراً لا يظهر الضجر، وكان كل أسبوع يعقد ندوة علمية يجتمع فيها الرجال والنساء، فيقرأ ملخصاً عن كتاب «الصغرى» للإمام السنوسي في معنى الفقه وعلم الكلام، ورسالة محمد بن أبي زيد القيرواني في الفقه أيضاً على مذهب الإمام مالك، وغيرها من الكتب المفيدة

وأخذ هو وإخوته ومصطفى بن التهامي وابن علال يدرّسون الصغار بعد أن نظموا لهم صفوفاً، وكذلك للشباب كل حسب مقدرته، وكان الأمير الذي زلزل بقوته أكبر دولة برية في العالم مدة ثمانية عشر عاماً متواصلة يقف أمام اللوح الخشبي مدرساً في سجنه لأطفال أهله ورعيته، وثابر على تمسكه بالصبر، وظل غير مبال بنوائب الدهر، قائماً بواجباته الدينية بخشوع.

قال شرشل: إن مطران «أمبواز» كان يحثُّ المصلين في أثناء قيامه بالوعظ يوم الأحد، فيقول لهم: انظرو إلى الأمير عبد القادر الأسير في منفاه، كيف يقوم هو وجماعته بكل واجبات دينهم من صلاة ليلاً نهاراً. ألا تسمعون الأذان بصوت قره محمد خمس مرات كل يوم من أعلى البرج في الحصن.

وهكذا ظل الأمير خمس سنوات فقد خلالها عدداً من أبنائه وأهله، ودفنهم في حديقة القلعة صابراً راضياً بقضاء الله وقدره، ولم يكن في سجنه أقل عظمة مما كان في أيام سلطانه ومقاومته الأعداء، وقد أجاب ذات ليلة أحد أبنائه عن حاله مرتجلاً هذه الأبيات:

تعوّدت مسَّ الضُّر حتى ألفته وأسلمني طولُ البلاء إلى الصبر

هـ إطلاق سراح الأمير عبد القادر:

بعد أن تغير الحكم في فرنسا إثر الكثير من الاضطرابات الداخلية، وعاد لويس فليب إلى الحكم وأصبح إمبراطوراً باسم نابليون، كان أول عمل قام به هو أن أرسل كتاباً إلى الأمير يقول له فيه ما معناه: إن سجنك يعذبني ويقض مضجعي، وأشعر بالعار لعدم تنفيذه الاتفاق، وأخبره بأنه يريد زيارته في أول فرصة ممكنة.

وفي السادس والعشرين من تشرين الأول سنة (1852م)، توجه إمبراطور فرنسا نابليون الثالث إلى مدينة «تور»، يرافقه المارشال سنتارنو وزير الدفاع والجنرال روغو، وعدد من كبار الضباط والحرس الإمبراطوري، واستقل هذا الموكب القطار إلى مدينة أمبواز.

بدأ نابليون الثالث جولته هذه بزيارة الأمير عبد القادر، وما إن وصل إلى مدخل الحصن حتى وجد الأمير في استقباله، فسار وإياه يداً بيد إلى أن وصلا مكان الاستراحة المعدّة مسبقاً، ثم أقبلت والدة الأمير المسنة منحنية على عصا تساعدها على نقل خطواتها نحو الإمبراطور الذي قال للأمير: أكرر أسفي على السنين التي قضيتموها مرغمين في سجنكم هذا، والان يشرفني التعرف على عدو شريف وضيف كريم، أقدر دفاعه عن وطنه ورفضه قتال أبناء دينه، ثم قدّم له سيفاً منقوشاً عليه اسم نابليون الثالث وتاريخ المقابلة مرفقاً بكتاب يقول فيه:

هذا إقرار بالوفاء بشروطكم ومساعدتكم من حكومتي على السفر ومن معك إلى تركيا حسب رغبة السلطان غازي خليفة المسلمين.

ودعاه لزيارة مدينة باريس بعد عشرة أيام، حيث يكون قد نظم له احتفالاً كبيراً وعرضاً عسكرياً لجميع أسلحة الجيش التي حاربها بحد سيفه وسيوف المجاهدين مدة ثمانية عشر عاماً. وغادر نابليون الثالث الحصن الذي شهد انتهاء أسر الأمير ومرافقيه عام (1269هـ). وكان ذلك القصر التاريخي مقرّاً مفضلاً لكثير من ملوك فرنسا، وأولهم لويس الحادي عشر، وبعد قيام الثورة الفرنسية للقضاء على الملكية تحول إلى حصن وقلعة، ثم إلى سجن للأمير عبد القادر.


من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.