الأمير عبد القادر وطوشة النصارى [1860 م] – التسامح كتجربة –
بقلم: د.شريف الدين بن دوبه-
"لمعرفة المعنى الحقيقي للإسلام، يجب أن ننظر إلى الماضي لا إلى داعش "(1) -روبرت فيسك-
مدخل:
الإرهاب من المفاهيم الانسانية التي عرفت زئبقية لامثيل لها، في الخطابات الانسانية، لدرجة أصبح فيها ظاهرة عصية عن التعريف، والضبط، فالسياقات المتعددة تربك العقل في بلوغ وادراك حقيقته، فمن ارهاب غير مشروع الى مشروع، و الكل يرفض وصفه بهذا النعت، ويبقى ماصدق الارهابي مفتوح دلاليا، ولكن هذا الامكان الدلالي لم يبق في هذه الصورة، بل بدا في الانحصار إلى ان انطبق بشكل كلي ودقيق على المنتمين الى الديانة الاسلامية بالضبط، واصبح المسلم وحشا، ومصاص دماء في مخيال المواطن الغربي، وهي ظاهرة الاسلاموفوبيا التي هي:".. مخاوف او احكام مسبقة تأخذ شكل صور سلوكية عدوانية عنيفة: رمزية او فعلية تجاه المسلمين، تصل الى درجة الاعتداءات الجسمانية، بهذا تتساوى الاسلاموفوبيا مع التمييز العنصري تجاه فئة من المجتمع الغربي بسبيب انتمائها الديني.."(2)
ولكن البحث بموضوعية في ظاهرة الاسلاموفوبيا يكشف عن استثمار سياسي امبريالي لجملة من الاساطير، والاحداث التي سجلها التاريخ، فلو اجرينا مقارنة احصائية بين ضحايا محاكم التفتيش مثلا، وبين الضحايا الذين سقطوا بسبب نزاعات دينية اسلامية – مسيحية او يهودية لوجدنا انها تعد على الاصابع مقارنة بها، وليس الغرض منا القبول او التبرير بل من اجل التعليل فقط، لأن قتل النفس بغير حق لا يجد مسوغا او تبرير شرعيا او قانونيا، واي شريعة تسمح بذلك، فإنها ستكون اما للإرهاب في العالم، وان كان البحث عند البعض من مفكري الغرب على قدم وساق في اثبات هذه الشبهة الى العقيدة الاسلامية، ولهذا نجد الصحافي البريطاني يطلب من الباحث عن الحق النظر الى تاريخ هذه العقيدة وليس الى الراهن الذي نعيشه الممثل في ( داعش ) التي يقرر بانها لا تمثل الاسلام مطلقا، ويطلب منا النظر الى تجربة الامير عبد القادر في حماية النصارى في سنة 1860 والاعتبار بتلك الحادثة وليس بما تقوم به تلك الجماعات التي تجسد المفهوم بكل دلالاته التاريخية والثقافية.
التعددية من النعمة الى النقمة:
الأمة العربية كيان ثقافي، تاريخي انصهرت فيه ثقافات وحضارات متعددة، والعوامل المؤثرة والمساهمة في صهر وبلورة هذه المتضادات يحضر فيها السياسي والعسكري بقوة، إذ لم تلتحم المكونات الاثنية المتعددة في المجتمع الاسلامي بإرادتها وبعفوية والتاريخ يؤكد هذه الحقيقة: إذ لو كانت الاثنيات قد تعاقدت اخلاقيا ومعنويا مع السلطة لما كانت هناك ثورات عبر التاريخ، ولهذا نجد أن مؤشِّرات الاهتزاز داخل البنية الاجتماعية للمجتمع المدني جاهزة.
والملاحظة الأولية التي ميزت الحراك الشعبي السياسي والمدني في المجتمع العربي قديما وحديثا قيامه على الاختلافات الثقافية والاثنية كمادة لإشعال نار الفتنة بين عناصر النسيج الاجتماعي، فالعراق على سبيل المثال استثمرت في تفكيكه اعلاميا وسياسيا التعددية الطائفية خصوصا بين السنة والشيعة - أما الطوائف الاخرى فكانت مجردة مادة اعلامية انتهكت فيها الاعراض، وابيحت فيها الدماء - والأصل في المشكلة هو المصالح الاقتصادية والامنية التي تركز عليها الامبريالية. والرجوع الى التاريخ السياسي للمجتمعات نجد امكانية استثمار التعددية الثقافية مطروحة دوما على البرنامج السياسي لكل جماعة حزبية، كما لعبت البنية الفكرية للنخبة القيادية في المجتمعات الشرقية على تحريف وتحوير التصورات والاحكام العقدية، لأن التسليم في التشريع الديني عموما والاسلام على الأخص جوهر التعبد، ولكن للأسف تاريخيا أخذ فهم التسليم مسارا سلبيا في كثير من السياقات الاجتماعية، فالتسليم بالأصل هو امتثال لأوامر الشرع، وليس لفهومات المشرّع الانساني الذي هو محكوم بثقافته وادواته الشخصية في تاويل النص التشريعي، ونجد ان هذه النقطة هي التي استثمرها الاعداء في تشويه العقيدة الاسلامية، ولهذا نجد الصحافي البريطاني روبرت فيسك يؤكد في مقاله على وجب العودة الى ماضي الاسلام لمعرفة اصول التسامح والتعايش، وليس الى الجماعات المنتسبة الى الاسلام، لان الانتساب مسالة سهلة ويسيرة لكل من شاء، ولكن التمثيل الحقيقي للعقيدة مسالة معيارية تتطلب مقاييس موضوعية.
واذا اخذنا التعددية والتناحر العاطفي كظاهرة بحثية، وتعاطينا معها بشكل موضوعي لوجدنا أن التعددية نعمة اجتماعية، ولكنها تصبح بعد توظيفها لأغراض سياسية نقمة ومعول هدم للنسيج الاجتماعي، فحادثة دمشق 1860 او ما تعرف عند العامة بطوشة الستين التي ستكون مجال بحثنا الذي سنستخلص منه دروس التسامح، وقيم التعايش الحضارية من خلال شخصية الامير عبد القادر الجزائري، و الأصل في الاستثمار السياسي هو المصلحة الاقتصادية اذ يؤكد بعض الباحثين ان المصلحة الاقتصادية لفرنسا وراء تلك الفتنة، حيث كانت دمشق مركزا اساسا لإنتاج وصناعة الحرير، وحي القيمرية تحديدا، وكانت تسمى بالهند الصغرى، وتزامن آنذاك ان تراجع انتاج الحرير في الدول المنتجة للحرير بسبب موت دودة القز في كل من فرنسا والصين التي كانت تتراس هذا النوع من الصناعة، وقامت آنذاك فرنسا بالطلب من أرباب المصانع في حي القيمرية السفر والهجرة الى الجزائر التي كانت محتلة من قبل فرنسا، ولكن أرباب الصناعة رفضوا ذلك واصروا على البقاء في سورية، ولكن الاستعمار دبر مكيدة الطائفية، فحصلت الحادثة التي كانت مقدماتها في جبل لبنان.
فتنة الجبل:
التعددية الثقافية والمذهبية في المجتمع الشرقي تكاد تكون خاصية طبيعية اصلية فيه، فالتركيبة الاثنية والطائفية للمجتمع الشامي (سوريا ولبنان) متنوعة ومتعددة، والراهن السياسي للبنان يؤكد هذه التعددية، وسنقتصر على حدث تاريخي سجِّل صراعا طائفيا بين شريحتين اجتماعيتين في لبنان، بين طائفة الموارنة المسيحيين، وطائفة الموحدين الدروز ما عرف بفتنة الجبل الذي تحولت دلالته من سياق طبيعي الى الثقافي، حيث كان يرمز للتعايش والتعايش الطائفي، فتركيبته مؤلفة من:" ..نصارى ودروز وبينهم قليل من المسلمين والمتاولة. اما النصارى الذين في الجبل المذكور فيبلغ عددهم نحو تسعين الفا من الذكور واكثرهم من طائفة المارونيين ثم طائفة الروم الأرثوذكسيين ثم طائفة الروم الكاثوليكيين واما الدروز فيبلغ عددهم من الالوف خمسة عشر وينوف. وهم من اشد الطوائف باسا واقواهام مراسا موصوفين بالنخوة والكرم والمروة وحسن الشيم وكان بينهم عداوة من قديم الزمن لان بعضهم كان ينتسب الى قيس وبعضهم الى يمن وقد جرت بينهم حروب يتناوبونها مرة بعد مرة .."(3).
وفي شهر ماي من سنة 1860 اندلعت "الحرب الاهلية بين الدروز والمسيحيين، وهي الحرب التي اوقد نارها وجد في ايقادها الترك وفي مدة شهر ونيف اصبح لبنان مسرحا واسعا لمذابح والحرائق وفي لحظة سوداء سمح المسيحيون لأنفسهم ان يخدعوا بالدعاوى الرسمية للباشوات والعقداء الاتراك...فتوجه المسيحيون بالمئات الى مختلف المراكز العسكرية التركية المنبثة في الجبل. وهناك طلب منه بلطف ان يسلموا اسلحتهم، علامة على الثقة، ثم حشروا في ساحات مفتوحة ... وبعد ذلك وقع عليهم الدروز والجنود الاتراك وذبحوهم جميعا..."(4)
حادثة دمشق
ولم تقف الفتنة ببين الدروز والمسيحيين عند حدود الجبل، بل انتقل فيروس الإحن إلى دمشق، حيث شجع الاعيان في دمشق الدروز على نقل هذه الفتنة الى دمشق، ويصف الامير محمد بن عبد القادر هذا الانتقال بما يلي:".. تفاقم الأمر في جبل لبنان. وتغلبت طائفة الدروز، يغرونهم على نصارى بلدتهم. ويعدونهم بمساعدتهم. ويرغبونهم في اموالهم فوعدوهم بالإجابة، بعد فراغهم من امر الجبل.."(5) ويظهر من خلال هذا النص البعد المادي الاقتصادي الذي كان هو المطلب الرئيس، لأن نصارى دمشق، وفي حي القيمرية على الخصوص كانت تمثل طبقة ذات نفوذ اقتصادي قوي، والذي يمكنها من الممارسة السياسية، ولهذا عملت السياسة على تفكيك، وهدم الأسس الاقتصادية للنصارى.
ويلخص المؤرخ الحادثة محمد كرد علي في قوله:" وخلاصتها قيام رعاع المسلمين والدروز على نصارى دمشق وقتلهم ونهبهم وإلقاء النار خمسة أيام في حيِّهم حتى خرب كلُّه، جرى هذا في مدينة التسامح واللطف. فسوَّد الأشقياء سمعة دمشق، بعد أن عاش المواطنون قرونًا في صفاء وولاء. وخسرت دمشق ألوفًا من البيوت المسيحية هاجرت إلى بيروت وقبرص ومصر واستوطنوها استيطانًا قطعيًا"(6). ويؤكد محمد كرد علي التواطؤ السياسي للفتنة، حيث يقول:" ويكاد المؤرخون يجمعون على ان الدولة هي التي دفعت الرعاع او غضت الطرف عنهم فارتكبوا ما ارتكبوا.."(7)
الأمير عبد القادر الجزائري وحادثة دمشق 1860
الأمير عبد القادر الحسني (1808/1883) شخصية جزائرية، تجاوزت بسلوكها وقيمها الحدود الثقافية والطبيعية؛ والدليل على ذلك ان تاريخه الشخصي هو تاريخ للجزائر نفسها، كما كانت رمزيته الثقافية عند الغرب شرقية بامتياز، حيث تصفه مارتين لوكوز Martine le Coz(8) عند وصوله الى مدينة امبواز بانه كان يمثل الشرق بالنسبة للأهالي الفرنسيين(9) ويعني ان الشرق يحضر الى فرنسا بلحمه ودمه ممثلا في شخص الامير عبد القادر، ويلاحظ اختلافا جوهريا بين المؤرخين العرب والغرب في قراءة شخصيته، فالكثير منهم يصنف الامير شخصية انتهازية تطمح الى تكوين ثروة، ومنهم المؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي، والمحقق كتاب ابكاريوس ابراهيم السمك اذ يورد هذا النص في هامش الفصل الذي افرده ابكاريوس للأمير عبد القادر جاء فيه:"" ومن خلال اقامته بدمشق فقد حرص الامير على اقتناء الدور والاراضي الفلاحية والحصول العلى المتال باي وسيلة كانت ففي البداية اقرت الحكومة الفرنسية منح الامير راتبا سنويا بما قدره (150000 فرنك ) وقد زاد مع السنين حتى وصل إلى 300 الف فرنك وتظاهر لدى الخديوي مصر بالفقر والحاجة الى المال ..."(10).
هذا التوصيف الذي نجده عند المؤرخين المعاصرين، والذي يظهر من خلاله العمل على اظهار شخصية الامير عبد القادر في صورة الطماع، والانتهازي، وفي اعتقادي البسيط، وان كنت لست من المؤرخين اجد توصيف ابكاريوس اقرب الى الصواب من نظرة المؤرخين العرب المنتمين إلى الإسلام، والنص التالي لـ ابكاريوس يكشف عن الكرم، والحلم الذي ميز الامير عبد القادر، حيث تؤكد الدراسات النفسية ان الانتهازي والطماع لا يمكن ان يكون كريما مطلقا، وما يتضمنه النص من اشارة الى كرم الامير كاف للدلالة على كذب الطرح العربي، والنص:" وكان سعادة الهمام الاكرم والسيد الماجد الافخم الفائز من العلوم بأعلى المراتب ذو الفضل الباهر والاصل الطاهر الامير عبد القادر لما رأى تلك الاهوال وما وقع في المدينة من الاختلال والبوار والنكال اخذته الشفقة والحمية ودعته شيمته الابية الى اغاثة الطائفة النصرانية وتخليصها من هذه البلية فسارع مبادرا الى الاسواق وفرق ابطاله في كل شارع وزقاق وخاض في جمهور المردة واطفا تلك النار المتقدة وخلص عددا كثيرا من الرجال والصبيان والبنات والنسوان ودفع عنهم سيوف البغي والعدوان وابدلهم خوفهم بأمان واحضرهم إلى داره العامرة وكان يقدم لهم الاطعمة الفاخرة ويصرف عليهم المصاريف الجزيلة.. فانفق في تلك البرهة مبلغا عظيما ومقدارا من المال جسيما فتضاعفت في الارتقاء مرتبته وارتفعت عند الملوك منزلته.."(11) .
ومن المؤرخين الذين انصفوا الامير عبد القادر في موقفه البطولي من النصارى المؤرخ السوري سهيل زكار، والذي في النص التالي يشيد بشهامة الامير في مقابل هؤلاء المرخين الذين حاولوا تقزيم الأمير من خلال تجريمه، حيث يقول:".. تعددت عليهم -أي النصارى- المصائب، وكثر ارتباكهم، ولكن قدر لهم ان يكون بين المسلمين شهم يرق لحالهم، ويرثي لمصابهم، وهذا الشهم الذي نعنيه هو الامير عبد القادر الجزائري الذي طبق ذكره الخافقين، وعم فضله وكرمه نصارى الشام على السواء، وكان لا يفوت فرصة تفوته من الدفاع عنهم، واجتمع بالوالي مرات وبأعيان المدينة ووجوده قراها، وحضهم على السكينة والاخلاد الى السلام والاقلاع عن الثورة، وترك النصارى وشأنهم، وقد بين لهم وخامة العواقب التي تسقط على رؤوسهم اذا عملوا على الفتك بهم، وكيف تخرج البلاد من ايديهم، واظهر لهم عدم جواز قتل المسيحيين شرعا ودينا..."(12).
اجتهد الامير في اطفاء نار الفتنة، بنصحه للدروز، وباتصاله المستمر مع امير المنطقة انذاك، والذي يبدو من خلال شهادات المؤرخين انه متواطئا مع الغوغاء، او مستخدما اياهم لبلوغ اهدافه الاقتصادية، لان الرؤية السياسية والاستشراف كان غائبا عند حكام تلك المنطقة آنذاك، والذين كانوا يأتمرون بأوامر الرجل المريض(الامبراطورية العثمانية) وفي النص التالي يصور الأمير محمد حالة الامير عبد القادر آنذاك في القلق على مصير النصارى:".. واستمرت الفتنة قائمة، ونارها موقدة، .. كل ذلك، والامير مشتغل بأخذ الوسائل، ليتوصل الى اطفائها، باذلا جهده، في حسم اسبابها ولم يدخل الى بيته، في ايامها، بل كان يجلس ، على سجادة في دهليزه لا يهجع من الليل، الا قليلا..."(13) كما استعان الامير في تلك الحادثة بجزائريين في حماية النصارى، لعدم ثقته بالمستخدمين من قبل الدولة العلية الذين كانوا يبيتون المكائد للنصارى لحاجة في نفس الحاكم قضاها، "..وصار يبعث بالمغاربة: شرذمة بعد اخرى، الى المحلة واطرافها، ليأتوا بكل من عثروا عليه، من غير استثناء."(14).
وللعلم ان هؤلاء المغاربة الذين استعان بهم الامير في الفتنة هم اقاربه، والمقربين منه، وهذا يكشف عن حس التضحية والفداء عند الامير عبد القادر لحماية شريحة تختلف عنه عقديا هم النصارى، والأصل في الموقف هو الايمان والاعتقاد السليم، إذ لو كان الامير انفعاليا، لاندفع مع هؤلاء المخربين لتحقيق ماربه الاقتصادية، فالثروة تنتج عن النهب والسلب الذي لن تتوفر شروطها واسبابها الا في الغزو الهمجي، وتلك الفتنة التي استخدم الساسة فيها عامة المسلمين وسفهائهم كانت من أجل استلاب وسلب الثروة الاقتصادية التي كان يملكها النصارى في الشام.
والرسائل والشهادات التي بلغت الأمير عبد القادر تحتاج الى قراءات موضوعية نزيهة، وبحوث وليس الى قراءات مؤدلجة خصوصا ما جاءت من طرف العموم من الباحثين العرب الذين لازالوا في رحم الاثنية والموروث الثقافي الجاهلي يتخبطون.
واستحسان الدولة العلية وتقدمها بالشكر للأمير عبد القادر على صنيعه، والتصريح الجلي بلاشرعية الحركة الدموية التي قام بها الثوار -بالمفهوم الايديولوجي الذي يناسب مرضى النفوس- والذين هم همج رعاع لا يمثلون الاسلام البتة، ففي مكتوب الصدر الاعظم تقرير بمجانبة الحركة للشرع وللقانون، واستحسان لموقف الامير، ونص المكتوب: "لما طرق مسامع الحضرة السلطانية، خبر الفتنة التي وقعت من اراذل الناس، في الشام الشريف وذلك بهجومهم على الاهالي النصارى، الطائعين، الذين نفوسهم، واعراضهم واموالهم بمقتضى الشريعة الغراء الاسلامية هي نظير نفوسنا، واعراضنا واموالنا وتجاسرهم على اجراء حركات كلية قبيحة مخالفة للشرع: كسفك الدماء، وهتك الاعراض، ونهب الاموال..."(15)
ومن الشهادات التي اكدت الاستحسان العالمي للموقف المشرف للأمير عبد القادر في التعامل مع المسيحيين بكل مستوياتهم، إذ لم يقف سلوك الامير عند حدود حماية المسؤولين السياسيين فقط مثل القناصل، بل كانت الشرائح البسيطة ايضا موضع عناية ورعاية من طرف الامير، ونص ما كتبه وزير خارجية فرنسا يشير الى ذلك:" ايها الامير الساميان خبر الحوادث الشامية قد طرق مسامع الدولة الفرنساوية واجابة لطاعة مولاي الامبراطور وارادته بادرت الان بإعلان اعتباره السامي والتشكر الوافر من طرف جلالته على السعي الذي تكرمتم به عللا الاهالي المسيحيين والراهبات والمبعوثين الفرنساويين وجمهور القناصل بتلك الواقعة المحزنة والمزرية والمزية العظيمة في ذلك هي مشاهدة همتكم العلية التي جعلتكم وقاية لحياة الوف من المساكين وجعلت محلكم ملاذا لهم في وزقت كان الاشقياء الخارجون عن الطاعة يرتكبون القبائح..."(16)
ويبدو من النص ان الأمير عبد القادر لم يقتصر او يخصص نجدته وانقاذه للعامة من النصارى فقط، انقذ افراد السلك الدبلوماسي للحكومات الغربية، ولو كان الامير من الشخصيات الضعيفة لكانت نجدته فقط للسلك الدبلوماسي، وترك عامة النصارى امام مصيرهم المحتوم، ولكن نفسه الابية ابت الا انقاذ هؤلاء المواطنين الذين كان الطمع في ثرواتهم مطلبا عند هؤلاء المردة او دواعش تلك الفترة.
ورسالة ملك بروسيا، ورسالة ملك ايطاليا، وقيصر الروس تظهر عظمة الحدث، وانسانية الموقف، والكل يشيد بهذا العمل البطولي، الذي لقي استهجانا من قبل بعض المؤرخين للأسف، لست ادري علة ذلك، و رسالة قيصر روسيا تؤكد هذا العمل البطولي:" نحن اسكندر الثاني امبراطور.. الى الامير عبد القادر اقتضت رغبتنا ان نشهر التفاتنا اليكم بشهامتكم وعملكم بما اقتضته الانسانية واجتهادكم في انقاذ الوف من المسيحيين من اهالي دمشق الذين وجدوا في خطر عظيم اقتضى الحال اننا سميناكم من اعظم فرسان رتبتنا الملوكية بالنسر الابيض..."(17).
وفي الأخير نصل الى مجموعة من النتائج البسيطة والاولية حول تجربة الامير في التسامح، الذي لم يكن نظريا، ومجال بحث كما يعرفه الغرب، ويجتره العرب بل كان ممارسة وفداء بالغالي والنفيس، وتعظيم الغرب له انتج عند ضعاف النفوس حسدا، وبغضا من الأمير، فتجربته في التسامح ممارسة تسجل للإسلام الأصيل، وليس للإسلام المسيس والمؤدلج من قبل جماعات لا تعرف مصادر فكرها وتصوراتها.
الهوامش:
1 www.independent.co.uk/voices/manchester-attack-muslim-islam-true-meaning
2 طيبي غوماري، الاساطير المؤسسة للاسلاموفوبيا الفرنسية، مجلة رؤية، السنة:5 العدد:4 سنة 2016 ص:117
3 اسكندر ابكاريوس، نوادر الزمان في وقائع جبل لبنان، تحقيق عبد الكريم ابراهيم السمك، رياض الريس للكتب والنشر، لندن ص:83
4 شارل هنري تشرشل، حياة الامير عبد القادر ، ترجمة وتحقيق ابو القاسم سعد الله، الدار التونسية للنشر ص:281
5 محمد بن عبد القادر، تحفة الزائر في تاريخ الجزائر، ج:02 ، دار اليقظة العربية بيروت 1964 ص:632
6 محمد كرد علي، دمشق مدينة السحر والشعر، هنداوي للتعليم والثقافة، مصر 2012 ص: 26
7 المرجع نفسه، ص:26
8 فنانة فرنسية من مواليد:1955
9 "L’émir abd elkader .le prisonnier Tant aimé"تحقيق مسجل- انتاج:oc films- اخراج: عديل عبد الحفيظي وسيلفن بينسن
10 انظر هامش صقخة :263 من كتاب ابكاريوس
11 اسكندر ابكاريوس، نوادر الزمان في وقائع جبل لبنان، مرجع سابق، ص: 256
12 سهيل زكار، تاريخ بلاد البشام في القرن التاسع عشر، التكوين للدراسات والنشر دمشق، 2006 ص:254
13 محمد بن عبد القادر ، تحفة الزائر ، مرجع سابق، ص: 634
14 المرجع نفسه، ص:633
15 محمد بن عبد القادر، مرجع سابق، ص:637
16 محمد بن عبد القادر، المصدر نفسه، ص: 638
17 المصدر نفسه، ص:639
د.شريف الدين بن دوبه - أستاذ محاضر، كلية العلوم الاجتماعية .جامعة سعيدة. الجزائر