الأمير عبد القادر محطّات متميزة في رؤية الآخر
بقلم: عبد الوهاب بلغراس-
تعتبر مسألة الآخر من المسائل التي اهتمت بها الدراسات الاجتماعية والإنسانية إلى جانب الفلسفة التي يكاد يكون ضمن انشغالاتها الأولى. نعتقد أن من أهم الدراسات في هذا المجال في عالمنا العربي، الدراسة التي ظهرت تحت عنوان صورة الآخر: العربي ناظرا ومنظورا إليه(1)، والتي جمعت في ندوتين دوليتين عناصر للتفكير النظري حول جدلية الذات والآخر. ويبقى المشروع بحاجة إلى جهد أطول كما جاء في مقدمة الكتاب (لبيب الطاهر، 1999، ص. 20)(2).
ولما كان هذا الخطاب أساسا هو خطاب حول الاختلاف، فإنّ التساؤل حول الأنا في هذا الجانب ضروري أيضا، ذلك أنّه لا يقيم علاقة بين حدين متقابلين، وإنّما علاقة بين أنا تتكلم عنه وبين آخر، وهذا الأخير هو جزء من الذات، ونفيُه بتر لها حسب دراسة أسماء العريف (لبيب، 1999، ص. 21)، وهو ضروري لاكتشافها، إذ تصوّر الذات لا ينفصل عن تصور الآخر"؛ وهذا ما تقرّ الدراسات به اليوم في مجالي الألسنية والتحليل النفسي(3).
تجمع مسألة الآخر أو الغير في الفكر الصوفي، بوصفها مسألة فريدة ومتميّزة، بين النسبي والمطلق، إذ على عكس الفلاسفة والمتكلمين الذين يعتقدون بوجود الغير والسوى، ويعتقدون أنّهما أمران وجوديان، أي أنّ الآخر أو الغير مفارق للذات وخارج عنها، فإنّ الفكر الصوفي-وبالخصوص المدرسة الأكبرية التي ينتمي إليها الأمير عبدالقادر- يرى أن الغير هو ما وقع عليه الوجود أو ما له نسبة أو إضافة للوجود، كالمحدث فهو إضافي، ما يجعل الفوارق بين الذات والموضوع كلها تزول، مثلما تعبّر الوحدة عن الكثرة وتعبّر الكثرة عن الوحدة، ومن هنا فإنّ التمايز بين الحقيقة والمجاز تمايز صوري فقط إلى درجة انعدام الغيرية تماما بالنسبة للذات الإنسانية(الأمير عبد القادر، 2004، ص. 118).
ما يدفع إلى الحديث في هذا المقال عن الأمير عبد القادر وعن رؤيته للآخر هو شخصيته المتميزة التي جمعت بين مطالب التصوف والدين ومطالب السياسة والحرب في إطار الخصائص الذاتية المرتبطة بانتمائه الحضاري، والخصائص الإنسانية للحوار والتسامح والعيش المشترك، والتعايش بين الحضارات والديانات. نقدم قراءة في مواقف الأمير عبدالقادر ورؤيته إلى الآخر من خلال مقاربة تعاقبية وتزامنية لمجموعة من الأحداث التي مرّت عليهفي الجزائر وفي المنطقة المغاربية، أو بعد نفيه واستقراره بفرنسا، ثم مروره ببروسة بتركيا فاستقراره بالشام بالمشرق العربي، حيث دخل نوعا من العالمية، ونتتبع تحولاته الفكرية انطلاقا من تتبع مقاماته وأحواله الصوفية وتطورها، كما نتناول بالدراسة هذه الشخصية ونحن في القرن التاسع عشر الميلادي، وهو بين حضارتين مختلفتين وفي ظرفين متميزين : مرحلة الاستعمار الفرنسي وما يحمله من قيم دينية وحضارية، والمرحلة التي كان فيها بالأسر في فرنسا وكيف جعل من هذه الأزمة -وهو في الأسر وبلاده تحت وطأة الاستعمار- مدخلا للحوار الديني والحضاري والتعرف على الآخر، ثم أخيرا استقراره بالشام وما نتج عنه من نضج فكري وبداية بروز رؤية فلسفية صوفية متكاملة.
تختلف الرؤية الإنسانية للآخر بحيثياتها الصوفية، خاصة فيما يسمى التصوف الفلسفي عند الأمير عبدالقادر وعند الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، عن نظرة الفلاسفة وعلماء الكلام بل وحتى عن علماء الشريعة، فهي النظرة إلى الإنسان من حيث كونه تجليا من تجليات(4) أسماء الله، بالتعبير الصوفي، وبالتالي لا يوجد تمييز على أساس الاختلاف الديني، فتعدد الديانات من تعدد الأسماء الإلهية. والتجلي بالمعنى الصوفي هو إشراق ذات الله وصفاته. وهو عند السراج الطوسي "إشراق أنوار وإقبال الحق على قلوب المقبلين عليه". (الطوسي، (د ت)، ص. 363) وهو التحول الإلهي في الصورة، وهو التغير في المتجلى له ينقله من حال إلى حال.
إذا كانت مسألة الرؤية إلى الآخر مرتبطة بالتدرج في مراتب التصوف، فإنّ إشكالية الآخر لدى الأمير عبد القادر لا يمكن أن تكون إلا انطلاقا من تدرجه في مراتب التصوف والعرفان وكيف كانت تتطور رؤيته إلى الآخر انطلاقا من تدرجه في المراتب الروحانية والصوفية ومقاماته وأحواله التي استطاع بلوغها، وانطلاقا أيضا من تنقلاته الجغرافية أو المكانية من الأرض الجزائرية والمغاربية مرورا بفرنسا وأوربا ثم الاستقرار في الشام والمشرق العربي بما فيه من عناصر ثقافية وحضارية متميزة.
الأمير عبد القادر فلسفته ومنهجه
تخترق نظرية التجلّي بالمعنى الأكبري (نسبة لابن عربي) كل الفلسفة الصوفية للأمير عبد القادر، ومن هنا "فكل شيء من الأشياء هو تجلّ من تجلياته تعالى" الأمير عبد القادر، 2004، ص. 95)، وذلك سيفسر كل الاختلافات والتعددات الموجودة بين الملل والنحل والطوائف والأديان على أنها مظاهر وتجليات لمعاني الألوهية.
إلى جانب هذه الرؤية الفلسفية الصوفية للوجود وللإنسان، ثمة عامل آخر يحدد هذا الطابع وهو الأحوال والمقامات التي يترقّى فيها الصوفي من مرتبة إلى أخرى(5)، فبالنسبة للأمير عبد القادر، لا يتجه اتجاها نظريا كما هو الشأن في الأدبيات الصوفية، بل إنّ مقاماته منطلقة من تجربته الذاتية، إذ يتحدث عن التجربة التي عاشها وخبرها، فكل موقف أو حدث من سيرته الذاتية يعتبره سلوكا على طريق الوصول إلى الحق وفي الوقت نفسه يكشف عن موقفه من الآخر حسب تلك المرحلة التي قطعها من التدرج والترقي، من بداية مقاومته للمستعمر، ثم مرحلة توقف الحرب ووقوعه في الأسر، إلى استقراره بالشام.(الأمير عبد القادر، 2004، ص. 348). الكون والمخلوقات كلها مظاهر التجلي الإلهي، هذا التجلي المستمر والمتغير بلا انقطاع هو الذي يجعل العالم في صورة كاملة، والكون والوجود يتحولان بتحول التجليات الإلهية، وهذه الأخيرة بدورها ترتبط باستعداد البشر واختلافاتهم. أمّا الإنسان الكامل(6) فهو الذي يدرك ثبات الحقيقة رغم اختلاف تجلياتها في الصور المختلفة، ومن هنا فمعرفة المتصوفة تتميز عن غيرهم، فالعارف الكامل يعرفه في أي صورة يتجلى فيها، وفي كل صورة ينزل فيها، وغير العارف لا يعرفه إلا في صورة معتقده، وينكره إذا تجلى له في غيرها، وهو هنا يشير إلى اختلاف التجليات انطلاقا من اختلاف الشرائع، كما أنه يقر باختلاف الشرائع، ومن ثم اختلاف الأديان.
أما منهجه الصوفي فيتميز في كونه ينطلق في البداية مما يمكن أن نسميه التفسير الظاهري للنصّ القرآني، إذ يعرض أقوال المفسرين السابقين وأحيانا اللاحقين، ثم بعد ذلك يعرض أقوال المتصوفة في منهجهم التأويلي (خاصة ابن عربي) ثم في النهاية يبين موقفه ورؤيته، كما يعتبر نفسه -خاصة بعد قطع أشواط ومراحل في التصوف- مؤوِّلا ومدركا عن الله مباشرة، فمثلا في تقديمه لكتاب المواقف يقول : "بأنه يدرك عن الحق بفهمه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بالتفهم الرباني" (الأمير عبد القادر، 2004، ص. 82)، وهو في كلامه في هذا المجال يخاطب الخاصة غير المقلّدين : "إذا كنت مقلّدا فإنّ كلامي ليس معك"، وهو رغم تأثّره بالشيخ الأكبر ابن عربي إلاّ أنّه يعتبر شارحا له وبالتالي هو من دعاة الفهم الجديد للدين التليد كما كان يقول دائما (الأمير عبد القادر، 2004، ص. 43).
ويوضح منهجه نظريا في كتاب المواقف قائلا : "وأن القوم رضي الله عنهم، ما أبطلوا الظواهر ولا قالوا ليس المراد من الآية إلّا فَهْمُنا، بل أقرّوا الظواهر على ما يعطيه ظاهرها وقالوا فهمنا شيئا زائدا على ما يعطيه ظاهرها... ولهذا ترى كلما جاء أحد ممّن فتح الله بصيرته ونوّر سريرته، يستخرج من الآية والحديث معنى ما اهتدى إليه من قبل هو هذا إلى قيام الساعة" (الأمير عبد القادر، 2004، ص. 44)، ففهم الآيات القرآنية وتأويلها يختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف الأزمان، وهذا يدلّ على التطور وتجديد الفكر الصوفي، مع العلم أن التجربة الصوفية مبنية على التأويل الذي هو في حد ذاته مسألة خاصة بالفرد المتصوف، وهذا ما يجعله يؤول الآية القرآنية أو الحديث النبوي تأويلا خاصا بناء على جدلية الظاهر والباطن، ما اعتبره الأمير فهما زائدا على الظاهر، وهذا التأويل هو الذي يؤسس من خلاله رؤيته للآخر.
يحتل الثنائي ظاهر/باطن في الحقل المعرفي الصوفي موقعا مماثلا للموقع الذي يحتله الثنائي لفظ/معنى في الحقل المعرفي البياني في الثقافة العربية الإسلامية، ويوظف الثنائي ظاهر/باطن في تأويل الخطاب القرآني وفي تحديد مستويات النص القرآني كمستوى الدلالة اللغوية المطابق للظاهر ومستوى الدلالة الإشارية أو الرمزية المطابق للباطن. (الجابري، 2004، ص. 272)، والتأويل بالنسبة للأمير عبدالقادر هو أداة لرفع الحجب أوما يعرف بالعوائق عن الحقائق الباطنة الكامنة وراء الظواهر، ففيه يخترق الحدود اللغوية والبيانية وينتقل باللفظ من الظاهر إلى ما يعتبر حقيقة أي الحقيقة التي يشير إليها اللفظ في القرآن.(عبد الوهاب بلغراس، 2011، ص. 118).
"الحقيقة" عند الأمير عبد القادر وعند الصوفية عموما ليست كلية وليست حقيقة عامة ومطلقة وأبدية، بل هي خاصة وظرفية وهي حقيقة مرتبطة بالوقت وبالموقف، فهي في ذلك الوقت وفي ذلك الموقف. ولا يمكن أن توجد علاقة بينها وبين المناسبة، أي لا يوجد مبرر ضروري بين الحقيقة في مناسبتها الظاهرية وتأويلها الباطني، وهذه الخلفية المعرفية في الرؤية إلى الحقيقة هي نفسها الخلفية التي من خلالها تُبنى الأحكام والقيم وبالتالي النظرة إلى الآخر المختلف عقيدة وحضارة ولغة. وربما هذا الذي يفسر الكثير من المفارقات والغموض الذي نجده في مختلف المواقف التي يقفها المتصوفة من مختلف الأحداث والتي كثيرا ما تبدو غير منسجمة (عبد الوهاب بلغراس، 2011، ص. 206).
الأمير عبد القادر ورؤيته إلى الآخر
لقد أشار محمد أركون إلى عدم تفطن السلطات الغربية إلى ضرورة طرح مسألة البعد الروحي وأهميته في الوجود البشري بشكل جدي، فالتجارب العديدة التي يقدمها تاريخ الأديان، تدلّ على أنّنا بالنسبة للإسلام المعاصر "إذا كانت لا تزال توجد صيغا روحانية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، فإن ذلك عائد إلى ديمومة البنى الاجتماعية التقليدية واقتصاد القناعة ... "(أركون، 1993، ص. 156)، ومن هنا تظهر قدرة الفكر الصوفي على إعادة تحيين وتجسيد الخطاب المتشكل عبر كل التجارب الصوفية، وأيضا تظهر أهمية البعد الرمزي وما يسمى بالتجربة الصوفية التي تؤول إلى التغير المستمر، بل وإلى المفارقات أحيانا. كل هذا يجعل الصوفي يستثمر الجانب الرمزي في الدين ثم يطوره. ولهذا فإن رؤية الأمير عبدالقادر إلى الآخر مرتبطة بمراتبه الروحانية الصوفية وتدرجه في الأحوال والمقامات -كما سبق ذكره-.
قسمنا نظرة الأمير عبد القادر للآخر إلى ثلاث مراحل انطلاقا من المراحل والمراتب التي تدرّجها في التصوف، وانطلاقا من تنقلاته الجغرافية.
الآخر محليا ومغاربيا
تبدأ الفترة التي سميناها بالمحلية والمغاربية، من طفولة الأمير عبدالقادر إلى مرحلة شبابه ومقاومته للاستعمار الفرنسي، وسميناها مغاربية لكونها تشمل على وجه الخصوص، وإلى جانب الجزائر، المغرب الأقصى الذي كان الأمير يتردد عليه ويستعين بفقهائه وأمرائه إضافة إلى لاستعانة العسكرية.
تتماشى هذه المرحلة من الناحية العرفانية الصوفية والفكرية مع المراحل التي عرفها الأمير في تدرجه في مقامات التصوف مع ما يمكن تسميته مرحلة التلقي والقراءة والاطلاع، حيث كان مرافقا لوالده الشيخ محيي الدين، وأثناء رحلته للحج زار العراق والشام وتعرّف على الطرق الصوفية خاصة القادرية والنقشبندية(7)، ويشير الأمير في كتاب المواقف إلى الصعوبة التي كان يلاقيها لدى مطالعته كتب القوم (الصوفية) وكيف كان يستعصى عليه فهمها(الأمير عبد القادر، 2004،ص. 58).
في هذه الفترة كانت مواقفه تحاكي مواقف المسلم العادي؛ لأنّه لم يكن قد تدرج بعد في التصوّف والعرفان. غير أنّ البعد الأخلاقي كان باديا على سلوكه. يقول عن مرحلة صباه : "كُنْتُ مغرما بمطالعة كتب القوم رضي الله عنهم (يقصد الصوفية) منذ الصبا، غير سالك طريقهم، فكنت أثناء المطالعة أعثر على كلمات تصدر من سادات القوم وأكابرهم يقف شعري وتنقبض نفسي منها مع إيماني بكلامهم على مرادهم لأني على يقين من آدابهم الكاملة وأخلاقهم الفاضلة..." (الأمير عبد القادر، 2004، ص. 59).
كما تتماشى على وجه الخصوص، من الناحية الصوفية والفكرية مع مرحلة الفتوّة والمرابطة : وهي عمليا ترتبط بمقاومته وجهاده ضد الاستعمار الفرنسي إلى جانب محاربة الظلم، وهي العناصر الأساسية في التصوف الذي يقوم على الفتوة أو الرباط(8). هذه الفتوة لاحظها الأوربيون الذين كتبوا عن الأمير عبدالقادر ويسمونها الفروسية، ومنها استمد رؤيته إلى الآخر، الفرنسي خصوصا والأوربي بصفة عامة، والذي تمثّله كمستعمر محتل لبلاده، وتمثله أيضا مختلفا عنه دينا وحضارة ولغة. هنا تتجسد قيم الفتوة بوصفها مقاما صوفيّا ليس فقط في الشجاعة بل في تسامحه مع الخصوم وحمايته ودفاعه عن المستضعفين.(بن تونس، 2009، ص. 26-27).
كانت رؤيته للكون وللناس المختلفين عنه تصدمه لأول مرة وهو في عز شبابه يواجه المستعمر الفرنسي الذي يختلف عنه دينا وحضارة وتاريخا، بل يرى فيه المستعمِر المغتصب للأرض والمستعبِد لأهلها، ويرى فيه المسيحي أو النصراني بالمفهوم المتداول آنذاك المختلف عنه عقائديا، إلا أنه، ومن جهة أخرى، كان يسهر على تأمين راحة العسكري الفرنسي حينما يقع أسيرا ويخدمه بيديه وهذا مذكور في مذكرات الكثير من الضباط الفرنسيين الذين شهدوا على معاملته للأسرى(9).
لقد اعتبر الأمير عبد القادر، وهو المحارب والمقاوم للاستعمار الفرنسي، أن كل جندي فرنسي يتم أسره يعتبر أسير حرب لا يسمح بإهانته، كما حرم تحريما قاطعا قتل الأسير وهو مجرد من السلاح، وكان دائما يدعو جنوده إلى معاملة الأسير الفرنسي أو الأوربي معاملة حسنة، وكان يسهر شخصيا على معالجة الجرحى والمرضى من الأسرى. وفي حال شكوى الأسير من سوء المعاملة، تسقط المكافئة المالية التي كانت تعطى لمن يقدم أسيرا وتتبعها عقوبات أخرى(10)، وهي وإن كانت مبادئ أساسية في الدين الإسلامي إلا أنّ الأمير عبدالقادر يجسدها تجسيدا كاملا وفعليا.
لقد كانت نظرته للآخر تتماشى مع المرتبة أو المقام بالمعنى الصوفي الذي بلغه وهو هنا مقام "الفتوة" وهي الصفة الحميدة التي يدل معناها الاصطلاحي على معناها اللغوي فتشمل الشجاعة والحلم والكرم، وهي وإن كانت مفاهيم قرآنية إلا أن الفلسفة الصوفية جعلت منها أكثر فاعلية. وهنا نجد في بعض المؤلفات المعاصرة (اتيان بونو، 1994، ص. 15-25) حديثا عن الوضع السياسي للأمير عبدالقادر والصراع الذي جمع الاحتلال الفرنسي من جهة، والعرب والأتراك والكراغلة في مدن كثيرة مثل مليانة وتلمسان ومستغانم ومعسكر من جهة أخرى. وهنا تميز عبدالقادر بدهاء وشجاعة وثقافة واسعة، إلى جانب أسلوب حياته وطريقة معيشته البسيطة في المأكل والملبس، كلها صفات جعلت منه في نظر الناس أميرا عظيما.
في هذه الفترة كانت مواقفه تحاكي مواقف المسلم العادي؛ لأنه لم يكن قد تدرج بعد في التصوف والعرفان، غير أن البعد الأخلاقي كان باديا على سلوكه، والفتوة هذه التي من خلالها تعامل مع الآخر المختلف عنه دينا وحضارة -بل المستعمر لأرضه- هي في هذه المرحلة تجمع بين الحقيقة الروحية والحقيقة المادية. وهنا تبدأ إرهاصات الرؤية بالحقيقة التي تختلف كليا عن الرؤية بالشريعة في تصور الآخر الذي هو "إنسان مثلك لا يحق لك إيذاؤه".
الآخر فرنسيا وأوربيا
تبدأ الفترة التي أخذت اسم الفرنسية والأوربية، أو الأمير عبدالقادر فرنسيا وأوربيا، ابتداء من أسره وسجنه بفرنسا إلى أن أطلق سراحه وانتقل إلى بروسة بتركيا ثم إلى دمشق بسوريا، والمقصود هنا الفترة التي كان فيها أكثر احتكاكا بالأوربيين؛ إذ أن شهرته آنذاك -وإن كان موجودا في فرنسا- جعلته يتعرف على الكثير من الأوربيين(11)، هذا الآخر نفسه أي الفرنسي أو الأوروبي النصراني المختلف دينا وحضارة ولكن هذه المرة بصورة أكثر وضوحا.
وترتبط هذه المرحلة في سلم التدرج العرفاني أو الصوفي بمرحلةالخلوة والتأمل والتعبد : وهي المرحلة التي قضّاها أسيرا ثم سجينا في فرنسا بعد توقف الكفاح المسلح. وفي هذه المرحلة تظهر قوة المتصوف في تحويل المحنة إلى منحة والصبر والشوق إلى فرج وتخلصٍ من الأسر؛ فقد رأى أن الابتلاء امتحان قابل لأن يكون منّة إلهية إذا استغل بصبر جميل.
ويشير في كتابه إلى هذه الخلوة : "دخلت مرة خلوة، فعندما دخلتها انكسرت نفسي وضاقت علي الأرجاء وفقدت قلبي، وإذا المعرفة نكرة والأنس وحشة والمطايبة مشاغبة والمسامرة مناكرة، فكان نهاري ليلا وليلي ويحا وويلا... وأي قرابة أردتها أُبْعِدْتُ بها،فلم يبق معي من أنواع الصِّلات إلا الصلاة، فكان هذا الابتلاء" (الأمير عبد القادر، 2004، ص. 378) وهكذا كانت هذه الخلوة فرصة للتأمل والتفكير الهادئ العميق، فكان يقضي أوقاته في الذكر والصلاة والدعاء وكانت ترد عليه "الواردات في الوقائع مشيرة وآمرة بالصبر".(الأمير عبد القادر، 2004، ص. 378).
تعتبر هذه المرحلة أهمّ تجربة يقطعها الأمير عبد القادر في مشواره الصوفي والحياتي؛ فهي إعداد واستعداد للمرحلة الكبرى التي سيصل فيها إلى ذروة التصوف والعرفان، كما أن هذه المرحلة عرفت إنتاجا فكريا غزيرا واكتشافات ومحاورات الآخر المتمثل في الفرنسيين والأوربيين المسيحيين بمختلف فئاتهم، وفي هذه المرحلة يلتقي بالشيخ محمد الشاذلي القسنطيني شيخ الشاذلية الذي كان يؤنسه ويحقق معه مساجلات شعرية وصوفية.
يكتشف الأمير، وهو في قلب أوربا حينما وقع أسيرا ثم سجينا ومنفيا في فرنسا، إلى جانب الخداع والمكر الذي واجهته به السلطة الفرنسية الحاكمة آنذاك، نوعا آخر من الأوربيين يختلفون عن الذين تعامل معهم أثناء مقاومته للاستعمار، فيشرع في اكتشافهم ثم محاورتهم، فيتم تأليف كتاب المقراض الحاد لقطع لسان الطاعن في دين الإسلام من أهل الباطل والإلحاد. وهو في الأصل رسالة للرد على أحد القساوسة الذين اتهموا الدين الإسلامي زورا بأنه يبيح الغدر والخداع، ألفه في سجن أمبواز(12) منطلقا من الاعتراف بأنه لم يكن يعرف شيئا عن هؤلاء الفرنسيين.
إن هذه المقولة للأمير تبيّن لنا أن من أهم معوقات الحوار بين الأديان والثقافات عدم معرفة كل طرف للطرف الآخر المعرفة اللازمة، وبالتالي بناء تصورات خاطئة وأحكام عامة، وينجم عن هذا التصور الخاطئ أو الناقص انسداد أبواب التفاهم وصعوبة التحاور بل استحالته، ليحل محلها الصدام والصراع. إنّ منهجية الحوار تقتضي أولا أن ينطلق المحاور من الاعتراف بنقصه وجهله ثم العمل على التعرّف على الآخر ثم الاعتراف به.
هذه الميزة الروحية الصوفية هي التي لم تجعل منه سياسيا يعيش المنفى بنفَس ضيّق، بل كان منفاه خلوة فعّالة، فقد أصبح محاورا والمؤسس للإرهاصات الأولى حول حوار الأديان والثقافات (عبد الوهاب بلغراس، 2011، ص. 208)، من خلال مراسلاته كبار القساوسة ومناقشاته في مختلف الشؤون السياسية والاجتماعية والعقائدية والفلسفية، بل تحوّل إلى جسر بين الشرق والحداثة الغربية على حد تعبير برونو إيتيان (2001، ص. 167). وفي الوقت نفسه، نجد المواقف البطولية والثبات والشموخ لدى هذه الشخصية الصوفية، فها هو يرد على الماريشال "بيجو" بكل قوة وطمأنينة : "لو جمعت فرنسا كل سائر أموالها ثم خيرتني بين أخذها وأكون عبدا وبين أن أكون حرا فقيرا معدما، لاخترت أن أكون حرا فقيرا فلا تراجعوني بمثل ذلك الخطاب فإنه ليس عندي بعد الخطاب جواب "(محمد، بن الأمير عبدالقادر، 1964، ص. 542).
بعد إطلاق سراحه كانت له محطة في "بروسه" بتركيا سنة 1853، حيث بقي حوالي ثلاث سنوات يدرّس بجامع العرب. وما ميز الأمير في تلك الفترة هو اهتمامه بأحوال المسلمين في مختلف مناطق العالم، لينتقل من "بروسه" سنة 1855 ويحل نهائيا بدمشق. وعموما فإنّ مساره المعيشي يعكس تجربته الوجودية والمعرفية. في هذه المرحلة من حياته كتب الأمير عبد القادر رسالة "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" وهي بصورة عامة إسهام منه في الأبحاث الفلسفية على عهده، وقد أصدرها في وقت كانت فيه مباحث معاصريه من أعلام الفكر لا تخرج عن دائرة الأبحاث الدينية والأدبية وغيرها. جاء في مقدمتها :" أما بعد فقد بلغني أن علماء فرنسا كتبوا اسمي في دفتر العلماء، ونظموني في سلك العظماء، فاهتززت لذلك فرحا، فرحت من حيث ستر الله علي حتى نظر عباده بحسن الظن إلي، ثم أشار علي بعض المحبين منهم بإرسال بعض الرسائل إليهم، فكتبت هذه العجالة للتشبه بالعلماء والأعلام، رميت سهمي بين السهام، وسميت هذه الرسالة، ذكرى العاقل وتنبيه الغافل"(13). وفي هذا المؤلف تتجلى مواقفه الفلسفية وثقافته العلمية التي تنم عن اطلاع على الفلسفة اليونانية والإسلامية والتاريخ والديانات إلى جانب التراث الصوفي.
تبد والحكمة الإنسانية من الاتصال بالآخر نابعة من الدين الإسلاميفي شكله الصوفي الروحاني ومن الأخلاق العربية النبيلة، سواء كان هذا الآخر صديقا أو عدوا، الأمر الذي جعل الأوربيون يعملون على ترجمة نصوصه ويكتشفون صورة متميّزة عن التسامح والتواصل مع الكل.
الآخر مشرقيا وعالميا
تبدأ هذه الفترة من خروجه من "بروسه" بتركيا واستقراره بالشام حيث بداية الاحتكاك بالمشرق العربي، لذا سميناها بمرحلة الأمير المشرقية، إلا أنّها في الحقيقة تتميّز بطابع العالمية؛ نظرا لشهرته ولقاءاته مع مختلف الشخصيات العالمية فيما بعد. تتطور أكثر هذه الرؤية وهذه الصورة الكاملة للأمير في اللحظة الشامية الدمشقية، بعد استقراره في سوريا، حيث تتبلور شخصية الفيلسوف الصوفي الإنساني الذي يتوسّط، بل يدافع عن المسيحيين، فقد ذاع صيته فيما يعرف بأحداث 1860 الدامية ضد المسيحين في الشام، ويتحوّل إلى ما يمكن اعتباره ملقّنا للروحانية الشرقية ومستعينا بما يمكن اعتباره تحديثا تقنيا غربيا.
ترتبط هذه المرحلة عرفانيا وصوفيا مع مرحلة النضج الصوفي وهي المرحلة التي يفك فيه أسره ويحقق مبتغاه المتمثل في الاستقرار بدمشق، وتعتبر أطول مرحلة في مشواره الصوفي حيث دامت قرابة الثلاثين سنة، تعمق فيها في علوم القوم (الصوفية) وتعرّف على دقائق الحقائق، وجال وصال واختلى واعتزل، وأشهر خلوته دامت لمدة عامين بين مكة والمدينة المنورة والكشف المبين كما يسميه، وسمح له ذلك بلقائه كبارَ الشيوخ في التصوف ومنهم الشيخ الفاسي الذي اختلى به في مكة.
ومن جهة أخرى، كانت له لقاءات ومناظرات مع مختلف الشخصيّات السياسية والعلمية والعسكرية خاصة الأوربية، مكنته -إلى جانب الرحلات- من الاقتراب من التقنيات الحديثة التي عرفتها أوربا في القرن التاسع عشر والتعرّف عليها عن قرب، إضافة إلى حضوره الكثير من الأحداث المهمة كتدشين قناة السويس بمصر إلى جانب زيارته للعديد من البلدان العربية والأوربية. وعن خلوته بمكة يقول ابنه محمد بن الأمير عبد القادر في "تحفة الزائر" : "وما تمّ له الارتقاء إلا في غار حراء ... ووقع له الفتح الربّاني وانفتح له باب الواردات واستظهر من القرآن آيات ومن الحديث النبوي أحاديث صحيحة" (محمد، بن الأمير عبد القادر، 1964،ص. 295).
وقد كان مؤلفه المواقف تجربة وجودية ذاتية ونتيجة معرفية تعود إلى تقاليد عريقة لتأويل، يكاد لا يفصل بين الذات العارفة والموضوع المعروف بين المؤوِّل والمؤوَّل، وهذا ما جعلها مرحلة النضج الصوفي. أمّا عن الأثر الصوفي الذي تركه الأمير في بلاد المشرق عموما وسوريا خصوصا، فلقد بين أن الشريعة والحقيقة لا ينفصلان "وكل من ادّعى أنه شم رائحة من طريق أهل الله تعالى ولم يزدد للشرع تعظيما وللسنة اتباعا فهو مفتر كذاب" (الأمير عبد القادر، 2004، ص. 49). في هذه الفترة، وهي الأطول في حياته المعرفية والتاريخية، ألّف المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد(14)، وهو كتاب من ثلاثة مجلدات خاصة بالتصوف على غرار الفتوحات المكية لابن عربي، فيه تفسير لآيات قرآنية وشرح لأحاديث نبوية وتبسيط للعقيدة إلى جانب المسائل الوجودية والتاريخية... .
ويرى بعض الدارسين (ومنهم جواد مرابط، 1966) أن الكتاب جاء بإلحاح من بعض العلماء الذين كانوا يترددون عليه آنذاك ومنهم الشيخ عبد الرزاق البيطار(15) وجاء في تحقيق كتاب المواقف : "لقد فرح بنا أهل البلد، وخرجوا كلهم لِلُقْيَانَا، الرجالُ والنساءُ" وفي موقع آخر يقول : "لقد استقبلني الدمشقيون أحسن استقبال وعدّوا يوم دخولي مدينتهم كيوم عيد، فالرجال والنساء قد تسابقوا أمامي" (الراسي جورج، 1997، ص. 60).
ومن المواقف التي تدل على مكانة الأمير في سوريا عموما، وليس فقط على المستوى الصوفي، هو الأحداث والمجازر ذات النزعة الطائفية التي حدثت في سنة 1860 وراح ضحيتها آلاف المسيحيين، حيث تدخل أولا لحماية القناصل الأجانب وأدخلهم إلى بيته، قبل أن يتدخل بالجيش. ولا أحد تجرأ على لمس حرمة داره لأنّه أحد الشرفاء من حيث النسب.
ثم بعد ذلك خرج بمجموعة من الفرسان الذين كانوا معه وتمكن من إنقاذ الآلاف من المسيحيين إلى جانب الذين آواهم في بيته، من ضمنهم أعضاء الإرساليات الأجنبية ورجال دين ورهبان، كما أنه وضع مكافأة مالية لكل من يأتيه بمسيحي لحمايته. وهنا ردّ على مكافئيه من الأوربيين : "إنني لم أفعل إلا ما توجبه علي فرائض الدين ولوازم الإنسانية" (برونو إيتيان، 2001، ص. 16) بعد هذه الأحداث، نجد الأمير عبد القادر الصوفي المتعمق من خلال المبدأ الذي يجعله يُنسب كل معرفة بالله إلى الله؛ لأن الله تعالى، كما يعتقد، هو الذي يرفع عنه حجاب الغيرية فلا مجال لها مع الله ومع الإنسان، لهذا فالنظرة إلى هذا الأخير مستمدة من النظرة إلى الخالق، وهنا تكمن قوّة الرؤية الصوفية. فالصوفي ينسب كل معرفة بالله إلى الله؛ لأن الله تعالى، كما يعتقد بذلك، يرفع عن العارف حجاب الغيرية والإثنينية حتى يصبح العارف عين المعروف (نيكلسون، 1969، ص. 116)، لذا، فالتوحيد الحقيقي لا يتحقق إلا في مقام الفناء الصوفي وزوال الإحساس بالتفرقة، كما أنّ العقل في نظرهم ينتج صورة محدثة مصنوعة لا تمثل أحدية القديم -الله-، هذه الأحدية التي تقتضي حسبهم توحيدا يلغي المسافة بين الإنسان وربه، بين الذات والموضوع، وبين العارف والمعروف (ناجي جودة، 1992، ص. 140).
لقد خاطب الأمير عبد القادر علماء دمشق ووجهاءها قائلا : "إنّ الأديان، وفي مقدمتها الدين الإسلامي أجلّ وأقدس من أن تكون خنجر جهالة أو معول طيش أو صرخات نذالة تدوّي بها أفواه الحثالة من القوم أحذّركم من أن تجعلوا لشيطان الجهل نصيبا، أو يكون له على نفوسكم سبيلا" (محمد بن الأمير، 1966، ص. 293). تتجلى من هذه الأمثلة، وفي مختلف المحطات التي مرّت بها هذه الشخصية القيم الإنسانية والأبعاد الصوفية الروحانية التي تدلّ على قبول الآخر والاعتراف به والتسامح بل التضحية من أجله.
الخاتمة
وخلاصة القول، إنّ الوجود أو الكون في رؤية الأمير عبد القادر الميتافيزيقية عبارة عن دائرة أو دورة أساسها أسماء الله الحسنى المنبثقة عن الأسماء العامة الأول والآخر، الظاهر والباطن، تشكّل جدلية بين المطلق والنسبي، وتجعل العالَم -بما فيه الإنسان- هو اسم الله الظاهر، وهذه الثنائيات أو المفارقات الشبيهة بالثنائيات الموجودة في القرآن الكريم والتي تميّز الخطاب الصوفي كله، ولا يمكن استيعابها إلا في إطار الدورة، فلا يمكن الحديث عن أول وهو آخر وعن ظاهر وهو باطن إلا ضمن هذه الدورة التي تعلن بدايتها عين نهايتها، وفقا للآية القرآنية "كما بدأكم تعودون".
16 لم نعد نجد في كتابات الأمير عبد القادر وخطاباته تلك العبارات التقليدية التي تميز بين ما يسمى "دار ا (...)
يعبّر الفكر الصوفي، باعتباره يؤسس لمبدأ التسامح والتعامل الحسن مع كل الأطراف والمذاهب والديانات، التعبير الراقي عن الاهتمام بالآخر الذييجد نفسه بالضرورة ضمن هذا الفكر بشكل أو بآخر. إنّ هذا التأسيس للاهتمام بالآخر تأسيس معرفي قبل أن يكون أخلاقيا، وذلك انطلاقا من أنّ صاحبه لا يعرف الحق إلّا بالحق(الأمير عبد القادر، 2004، ص. 117)، لهذا نجد المتشبع بالفكر الصوفي يدعو الله لجميع الناس، ويلتمس الرحمة الإلهية للنوع البشري كله.وإن كانت صورة الآخر -لا سيما الغرب الأوربي- حتى منتصف القرن التاسع عشر، صورة عامة عن بلدان تتقدم، إلاّ أنهلم يخالطها شعور بالدونية، على اعتبار أنّ التمايز الديني ظلّ التمايز الأساسي والحاسم في توجيه النظرة إلى الآخر وفي تقييم أوضاعه، ولذلك تواصل التمييز بين "دار الإسلام" و"دار الكفر والحرب"، وحافظت المناظرات مع الآخر على مفهومها الديني وبخاصة الفقهي، ولم يكتشف المغاربة أوربا، وفق طراز يدعو إلى الإعجاب، إلا مع منتصف القرن التاسع عشر، وهكذا بدأت الدهشة أمام تقدّم الآخر، وهذه النظرة تنطبق على الأمير عبدالقادر في مراحله الأولى، لكن مع تدرجه في المقامات الصوفية وتبنيه للفلسفة الأكبرية (نسبة لابن عربي الشيخ الأكبر) تغيرت نظرته(16).
وبناء على ذلك، فإن الأمير عبد القادر، باعتباره متصوّفا متدرجا في المقامات والمراتب، لا يبحث في الأديان على اختلافها، بل يبحث فيما وراء الأديان، وهمه وهدفه هو الحق أو الله، لهذا فهو إذ يتقرّب من الآخر المختلف دينا فهو يتقرّب من الله، ولا يحكم على الآخرين بالكفر لأنّهم يعبدون الإله أو الله فيما تجلى لهم فيه، وبالتالي كل عابد أو معتقد في الحقيقة ما عبد إلا الله، وما اعتقد إلا فيه أيّا كانت الصورة التي عبدها أو اعتقد فيها، ومن هنا لا بد من النظر إلى باطن الأديان لا ظاهرها، والعبور من التعدّد الظاهري إلى الوحدة الباطنية التي هي وحدة الذات الإلهية(17)، وبذلك يتمّ تجاوز الصراعات الدينية والمذهبية.
جوهر نظرية الإنسان عند الأمير عبد القادر هو مركزية الانسان المتمثلة في الكرامة والإرادة والقدرة الإنسانية في العالم : "وجود الانسان هو المقصود بالذات من وجود العالم"، ويبرّر فكرته هذه عن الإنسان تبريرا روحيا دينيا، فهو يبدأ مع فكرة خلق الله للإنسان على صورته، وبهذا ترتفع المرتبة الوجودية للإنسان، وتتم مشاركة "الانسان الكامل" لله تعالى في الأسماء الالهية وهذه الصفة للإنسان دون غيره على سبيل التشريف والتكريم. أمّا ما يتعلق بالأصول الفكرية والخلفية النظرية لدى الأمير عبد القادر، فنجدها في أحد أهم موضوعات الميتافيزيقا، وهو تصور الإنسان في العالم والكون وحريته ومصيره، وهو موضوع ذو انعكاسات سياسية، تلك الأصول الفكرية التي تمثّلها وأعاد صياغتها كسياسة تطبيقية في حياته ومعاملاته سياسيا واجتماعيا وثقافيا، فالقصد الأوّل من وجود الإنسان يتمثل في المعرفة بالله وعبادته والمعرفة بالله تتم من خلال صفاته.
تدلّ المواقف الصوفية للأمير وسلوكاته على الجمع أو الجدل بين الظاهر والباطن، أي ما يسمى في اصطلاحهم بالقراءة القرآنية، بين الغيب والشهادة، بين الحق والخلق. ومن هنا تنتقل قوانين الطبيعة من عالم الحس إلى عالم الخيال مبدع للمعنى على غرار الخيال الذي يتّصف به كل فنان، غير أنّه يعود إلى الفرق أو ما يسمى بالفرقان، أي مشاهدة الكثرة بعين الوحدة، ومن هنا تتّضح لنا حياته الاجتماعية والسياسية ومشاركته في كل مستلزمات الحياة.
الهوامش:
1 صورة الآخر : العربي ناظرا ومنظورا إليه، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1999 من أهم الدراسات حول صورة الآخر في العالم العربي، الأعمال التي أشرف عليها البروفيسور الطاهر لببب والتي جمعت أشغال ندوتين عالميتين على التوالي (1993 و1996) وطبعت تحت عنوان صورة الآخر : العربي ناظرا ومنظورا إليه. الذي يهمنا على وجه الخصوص هو نظرة العربي إلى الآخرين، حيث جاءت الدراسات لتبين أن نظرة العربي عموما إلى الآخر نظرة تداخلية أو جدلية أو هي نظرة الآخر القريب داخل الانتماء العربي ثم البعيد خاصة إسرائيل باعتباره الآخر العدو.
2 أما بالنسبة لما كتب حول الأمير فنشير هنا إلى مقال حول كيفية رؤية الآخر إلى الأمير عبدالقادر، شرشار عبدالقادر، شخصية الأمير عبد القادر من منظور الآخر، ترجمة كتاب عبد القادر لقوستاف دوقا أنموذجا، إنسانيات،19-20 | 2003, 19-31.
3 يشير علي الكنز في مساهمته بعنوان الآخرية والتراتب ضمن كتاب صورة الآخر : العربي ناظرا ومنظورا إليه، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1999 ص. 651، إلى أن البرهان في اللسانيات وفي التحليل النفسي على هذا دقيق جدا، ونحن نضيف هنا موقف المتصوفة الذين لا يرون الذات خارج الأنا، غير أن علي الكنز يرى أنه في الدراسات السوسيولوجية الأنا والآخر موجودات جماعية (جماعات وطبقات ...وبالتالي لا يمكن -حسبه- ربطها بالدراسات اللسانية والتحليل النفسي، إذ في المجال السوسيولوجي هناك محاذير إبستمولوجية عديدة لا بد من الانتباه إليها.
4 التجلي والجلاء لغة بمعنى الخروج. أنظر : ابن منظور (د.ت)، لسان العرب، المجلد التاسع، دار صادر، ص. 240.
5 "المقامات" تكون بالمجاهدة وبذل الجهد والترقي بالعمل والتعبد، بينما "الأحوال" تُمنح له من الله.
6 مفهوم الإنسان الكامل في الفكر الصوفي الأكبري نموذجه النبي محمّد (ص) وينطبق على الإنسان بالفعل لا بالقوة كلما حقق صورة الكمال الإلهي على اعتبار أن الله خلق الإنسان على صورته وهو الإنسان الروحي.
7 طريقتان صوفيتان مشهورتان (القادرية موجودة بقوة في المغرب الكبير أما النقشبندية فمقرها المشرق وآسيا).
8 الرباط في صورته التقليدية هو وقوف بعض المتصوفين على حدود الديار الإسلامية من أجل حمايتها من أي عدوان خارجي.
9 على سبيل المثال، يوهان كارل، بيرنت. (1997).الأمير عبد القادر، ترجمه وتقديم، أبو العيد دودو، الجزائر : دار هومة.
10 وهذا ما جعل فيما بعد أعدادا من الأسرى الفرنسيين القدامى، الذين تلقوا علاجا من قبل الأمير، يأتون من مناطق نائية إلى قصر "بو" وقصر "أمبواز" حيث كان الأمير معتقلا، لتحية من كان المنتصر بالأمس.
11 بما فيه اشهرته أوربيا التي ستتشكل بعد إقامته في الشام وبعد أحداث 1860 حيث أصبح موضوع احترام ملوك وحكام العالم الغربي.
12 السجن الذي سجن فيه في فرنسا بعد أسره من طرف الاستعمار الفرنسي.
13 لقد صدرت ترجمتها إلى الفرنسية سنة 1858 تحت عنوان Le livre d’Abdelkader اكتشف من خلالها القارئ الفرنسي مفكرا عربيا أصيلا تكمن قوة شخصيته في الرؤية المنطق ومتطلبات الدين الإسلامي، منتهيا إلى أن الديانات الثلاث تنبع من معين واحد، وأن رسالة الأنبياء والرسل لم تكن تهدف إلى تقويض المعرفة العلمية والفلسفية بل جاءت في مجملها لتكريس حرية الإنسان المتمثلة في التسامح والحب والتعاون بين الشعوب.
14 يعرف أيضا باسم المواقف الروحية والفيوضات السبوحية.
15 ابن البيطار من علماء الشام في تلك الفترة.
16 لم نعد نجد في كتابات الأمير عبد القادر وخطاباته تلك العبارات التقليدية التي تميز بين ما يسمى "دار الإسلام ودار الحرب" بل دعوة إلى التكامل بين المادي والروحاني.(مادية الغرب وروحانية الشرق الإسلامي).
17 النظرة الباطنية للديانات تحلّ مشكلة ما يسمى اليوم "صراع الأديان" وتفضيل دين على آخر، والمقصود أن كل صاحب دين يتعبد حسب ديانته.