معاهدة تافنة
بقلم: د. علي الصلابي-
استغل الأمير توجه كلوزيل إلى قسنطينة فأصدر أمره إلى خليفتيه مصطفى التهامي والبوحميدي بالتوجه على رأس جيش إلى وهران، ومحاربة القبيلتين اللتين تحالفتا مع الفرنسيين، وهما قبيلة الغرابة وقبيلة البني عامر والعشائر المتحالفة معهما، فاكتسح الجيش جنودهما واستولى على مواشيها وألحق بها هزيمة قاسية. وأمر الأمير خليفته محمد بن علال أن يتوجه إلى الجزئر، فانطلق بجيشه إلى متيجة ونواحي الجزائر، يدمر مزارع الكولون، ويستولي على مواشيهم، ويأسر بعضهم، ووصلت قواته إلى أبواب العاصمة ؛ التي هرب الفرنسيون وراء أسوارها، وأغلقوا أبوابها، وعاد إلى حاضرة ولايته، وبعث رسولاً يخبر الأمير.
عُيّن دامريمون حاكماً عاماً خلفاً لكوزيل المعزول يوم (12/2/1837م) وانتشرت أقاويل في باريس، مفادها: أن الأمير عبد القادر هو المعجب الكبير بالمدنية الغربية، ويعمل من أجل تجديد شباب القومية العربية، وتصور الفرنسيون أن بإمكانهم أن يجعلوا منه أميراً مسلماً بالاحتلال، يحكم الداخل لصالح فرنسا، وعيّن الجنرال بيجو قائداً للجيش الفرنسي في وهران ؛ الذي وصلها على رأس (000،15) جندي بتعليمات صارمة بضرورة عقد صلح جديد مع الأمير ووقف الحرب معه.
وجاء هذا القرار الفرنسي بعد أن تمكن الأمير من فرض حصار صارم على المدن المحتلة من الفرنسيين، وأرسل الفرنسيون إلى الأمير عبد القادر ابن دران اليهودي ليفاوض الأمير على الهدنة.
أرسل الجنرال بيجو الرسالة الأولى عارضاً شروطاً شديدة رفضها الأمير، الذي أجاب برسالة عرض فيها شروطه، ورد بيجو على الشروط بشروط مخففة، وهو يلقبه بسلطان العرب، وأرسل الأمير مرة أخرى جواباً على الرسالة، بشروط رفضها بيجو، وقرر وقف التفاوض والخروج للحرب، فخرج واحتل تافنة، وعلم الأمير فأرسل رجاله يستنفرون القبائل للجهاد، وعندما تأكد بيجو من قوة تحرك الأمير وألا قِبَل له بمواجهته الان تراجع، وقرر العودة للمفاوضات.
وعاد الجنرال بيجو إلى الجزائر في (نيسان «أبريل» 1837م) مشترطاً عدم رضوخه للحاكم العام في الجزائر، رابطاً علاقته مباشرة مع وزارة الحربية، واستقر في وهران، ودخل في مفاوضات مع الأمير عبد القادر، واشتكت الوزارة بأنه كان يتجاوز تعليماتها، وبأنه تنازل كثيراً للأمير، وكرر بيجو مع الأمير ما سبق أنْ فعله ديمشال.
انتدب الأمير ممثلاً له يتفاوض مع بيجو، وطلب هذا أن يعترف الأمير صراحة بالسيادة الفرنسية على مناطق محددة وتكون للأمير سيادته.
ورفض الأمير شروط بيجو الذي عرض عليه مناطق أخرى لاسترضائه كولاية تيطري، ومن باب إثارة الحزازات بين بيجو والحاكم العام في الجزائر، كان يفاوض الاثنين معاً، فاندلع جدال بين القائدين الفرنسيين حول اختصاص كل منهما، وتدخلت الحكومة الفرنسية، فكلفت بيجو بمفاوضة الأمير.
أرسل الأمير مرة أخرى مبعوثاً هو السيد حمادة السقّال رئيس حضرة تلمسان، وبعد أخذ وردٍّ حررت معاهدة تافنة يوم (20/5/1837م) وشروطها مختصرة، كما يأتي:
أولاً: يعترف الأمير بسلطة فرنسا على مدينة الجزائر ووهران.
ثانياً: يبقى لفرنسا في إقليم وهران ومزغران وموغران وأراضيها ووهران وأرزيو بحدود معينة يصير كل ما بداخلها من الأراضي للفرنسيين.
ثالثاً: على دولة فرنسا أن تعترف بإمارة الأمير عبد القادر على إقليم وهران وإقليم تيطري، والقسم الذي لم يدخل في حكم فرنسا من إقليم الجزائر، وبحسب التحديد المعين في الشرط الثاني، فله أن يمد يده لغير ما ذكر من أرض الجزائر.
رابعاً: ليس للأمير سلطة على المسلمين من أهل البلاد المملوكة لفرنسا، ويباح للفرنسيين أن يسكنوا في مملكة الأمير، كما أنه يباح للمسلمين أن يسكنوا في البلاد التابعة لفرنسا.
خامساً: يمارس العرب الساكنون في أراضي الفرنسيين ديانتهم بحرية.
سادساً: على الأمير أن يدفع للجيش الفرنسي (30000) كيلة من الحنطة، ومثلها من الشعير بمكيال وهران، وخمسة الاف رأس بقر، يؤدي ذلك على ثلاثة أقساط.
سابعاً: يسوغ للأمير أن يشتري من فرنسا البارود والكبريت، وسائر ما يحتاجه من الأسلحة.
ثامناً: على فرنسا أن تتخلى للأمير عن أسكلة رشكون، ومدينة تلمسان، وقلعة المشور، مع المدافع القديمة التي كانت فيها.
تاسعاً: تكون التجارة حرة بين العرب والفرنسيين.
عاشراً: يكون رد المجرمين بين الطرفين.
حادي عشر: يتبادل الممثلون بين الطرفين.
بعد توقيع المعاهدة طلب الجنرال بيجو أن يجتمع بالأمير، فعين له هذا مكاناً وتاريخاً، وجاء الجنرال في جيش ضخم بقصد التأثير على الأمير، وأعد الأمير عدته، وجاء في موكب كبير على رأس جيش يتكون من (15000) فارس، سائرين بنظام عجيب، في سهل يموج بهم، وظهر الأمير وقد أحاط به نحو مئتين من رؤساء القبائل ممتطين لخيول عراب، متمنطقين بأسلحة مصقولة، والأمير يتقدمهم على جواد عربي أسود من أجمل ما عرف بين جياد عصره، وحوله ستة من السياس. تقدم منه الجنرال فتصافحا ثم ترجلا، ودار الحوار التالي بين الرجلين:
ـ إنك تكسب أيها الأمير بهذه الهدنة، حيث إنني بمدتها لا أخرب المواسم.
ـ هذا لا يضرنا يا جنرال، حتى إني أعطيك الرخصة بأن تخرب ما تقدر عليه، ولا يمكن لك أن تخرب إلا بمقدار زهيد، ومع ذلك عند العرب حبوب وافرة.
ـ أظن أن العرب لا يفكرون مثلك، فهم يرومون الصلح، بعضهم أثنى عليَّ لكوني حافظت على المواسم، كما وعدت، ومنهم حمادة الصقال.
ـ فأجاب الأمير مبتسماً ما هي المدة التي يمكن رجوع الجواب فيها من فرنسا؟
ـ لا تكون أقل من أسبوعين.
ـ حيث إن الأمر كما ذكرت، فلا نجدد العلاقات التجارية، ولا نحدث شيئاً من مقتضيات المواصلة إلا بعد ورود الجواب من فرنسا.
ثم افترق الرجلان، ويروي ابن رابح، أحد ضباط الفرسان الذين كانوا في حرس الأمير: أنه عندما وقف الأمير لوداع الجنرال قُرّب إليه فرسه الأدهم الشهير ليركبه، وبعد أن صافح الجنرال ونزع يده من يده التفت إلى الفرس وعلا عليه في أقل من لمحة، وحرّكه بركابه فمرق بين الخيل مروق السهم، واندفع به ثلاث دفعات متوالية وعلى وتيرة واحدة. فانبهر الجنرال لذلك، وتعجب من سرعة ركوب الأمير وخفة الفرس، وبقي واقفاً برهة من الزمان ينظر نظر المتحير، ثم ركب فرسه ومضى، وبعد أن سار الأمير على مسافة بعيدة من موضع الاجتماع، أمر الجنرال أحد ضباطه أن يرجع إلى المحل ويأخذ مسافة ما بين تلك الدفعات الثلاث، فكانت مسافة ما بين كل منها تقرب من ثلاثين ذراعاً.
نالت اللغة العربية موقعها السيادي بالمعاهدة، وهو موقف ثابت للأمير، فقد ورد في نصها ما يأتي: حرر نص المعاهدة على شطرين عربي وفرنسي، فكتب الأمير اسمه بخطه على الشطر العربي وختم عليه بخاتم الإمارة، وكتب الجنرال بيجو اسمه بخطه على الشطر الفرنسي بخاتمه الرسمي.
وأعطى بيجو (5000) بندقية للأمير، وصادق الملك لوي فيليب على المعاهدة بتاريخ (15/6/1837م) ، وقد علق عليها رجال السياسة الفرنسيون: على أنها جعلت الأمير الأقوى بدون نصر عسكري، لكن في ذهن الجنرال بيجو فكرة يعمل من أجلها وهي تأمين جانب الأمير والتفرغ للإعداد لاحتلال قسنطينة وهزم أحمد باي، ثم العودة ومحاربة الأمير. وهذا ما لم يفهمه أحمد باي الذي رفض باستعلاء الانضواء تحت راية الأمير ؛ الذي يعتبر أقوى قائد عرفته المقاومة، ولو كتب لهذين الرجلين أن اتفقا لأمكن للتاريخ أن يغير مجراه.
وبعد المصادقة على المعاهدة أعطى بيجو أمراً للجنرال كافينياك بإخلاء تلمسان التي دخلها الأمير في موكب مبهر، واستقبله الشعراء بقصائدهم، وأنشد هو قصيدة حيَّا فيها تلمسان ورد فيها:
ونادت أَعَبْدَ القادر المنقذ الذي * أغثت أناساً من بحار هواها
لأنك أعطيت المفاتيح عنوة * فزدني أيا عز الجزائر جاهاً
1 ـ محاربة من شقوا عصا الطاعة:
ما إن وضعت هذه المعاهدة موضع التنفيذ حتى اتجه الأمير لتقوية الأوضاع الداخلية لدولته، فتوجه لمحاربة من شقُّوا عصا الطاعة، وبدأ بقضية محمد بن عبد الله البغدادي، فقد سبق أن حضر هذا الدعي من بغداد قبل سنوات، وزعم أنه من ذرية الولي عبد القادر الجيلاني، وأكرمه الشيخ محيي الدين والد الأمير، واستغل انشغال الأمير في ترتيب أمور دولته فتوجه إلى قبائل الزناخرة وأولاد نائل، والتقى بأكبر مشاغب ضد الأمير، وهو مختار محمد بن عودة ؛ الذي قدمه على أنه البديل للأمير، ووصفه بأنه محمد بن عبد الله المنتظر، فاجتمع له خلق كثير، فقرر الأمير وضع حد لذلك، وتوجه له على رأس ثمانية آلاف فارس وألف من المشاة وقطع من المدفعية، والتقى بالمنشقين في بلاد أولاد مختار، ودامت المعركة ثلاثة أيام، تعب فيها الأمير في كسر شوكتهم، ثم نصره الله عليهم.
توالى عليه شيوخ القبائل بالناحية، فشفعوا في العصاة فقبل الأمير شفاعتهم، وعقد لمحمد بن عودة رئيساً على قبائل الناحية بعد أن طلب العفو.
أما عن البغدادي، ففي أثناء هروبه تمكن بعض أنصار الأمير من أسره وتسليمه للأمير الذي عفا عنه أيضاً، فانتقل للمغرب الأقصى واستقر به.
بعد هذا الانتصار، قام الأمير بجولة في الجنوب، فقدمت له وفود من الأغواط، عرضت عليه طاعتها وطلبت منه تعيين من يسوس أمورهم، فعيّن السيد الحاج العربي ابن السيد الحاج عيسى الأغواطي، وأقام بالمدية فاستقبل العديد من الوفود ؛ التي قدمت له من سائر أنحاء القطر، حيث ألقى في الجهاد درساً في التوحيد.
وخرج من المدية على رأس جيشه بهدف تقويم اعوجاج قبائل وادي الزيتون، فهزم جموعهم وأسر رؤساء الفتنة، وجمع العلماء للحكم على هؤلاء ؛ الذين سبق لهم أن شقوا عصا الطاعة، وشملهم عفو الأمير، فحكم عليهم مجلس العلماء بالإعدام ومثُل أمامه (18) رجلاً منهم، وقبل تنفيذ الحكم فيهم طلب منهم التوبة، فأجاب أحدهم: إنَّ قطع أعناقنا أولى من تقديم الطاعة، فأمر الأمير الجلاد فقطع رأسه، ثم توالى الثاني والثالث فقطعت رؤوسهم، إلى أن وصل الدور لشيخ هرم فقدم له وهو يرتعد خوفاً فهجم أطفاله على الأمير، ووقفوا يتباكون وبينهم طفلة صغيرة السن خاطبت الأمير بقولها: بحق الله ووالديك وأولادك أن تعفو عن والدي، فلما سمع الأمير كلامها غلبت رحمته على غضبه وأمر بالعفو عن والدها وعن الباقين، واحتضن البنت وقبلها لتسببها في حلمه، وأعلن العفو عمن خالفوه، ورد أموالهم لهم، ولما سمعت القبائل المعارضة هرعت إليه وطلبت العفو، وعاد إلى المدية بعد أن ثبت رئيس كل قبيلة على قبيلته.
2 ـ التصدي للمتمرد محمد التيجاني:
سبق أن استقبل الأمير وفوداً من قبائل الأغواط الشراقة، حيث طلبوا منه قبول انضمام ناحيتهم إلى دولته، فقبل وعيّن على ولايتهم السيد الحاج العربي، لكن محمد الصغير التيجاني رفض الانضواء تحت راية الأمير، واستطاع التأثير على بعض القبائل فتبعته، فتوجه له الأمير على رأس جيش يوم (12/6/1838م) قوامه (6000) فارس و(3000) من المشاة وثلاثة مدافع وست هاونات، ووصل المنطقة بعد عشرة أيام سيراً في الصحراء، وكان التيجاني يتحصن في حصن بعين ماضي، حاول الأمير فتح ثغرة في الحصن، أو نفق يتسلل منه جنوده، لكن المحاولات باءت بالفشل، فقرر فرض حصار منيع عليه دام ستة أشهر، وعندما عض الجوع سكان الحصن ضغطوا على التيجاني ؛ الذي أرسل يوم (19 «نوفمبر» تشرين الثاني) إلى خليفة الأمير السيد الحاج مصطفى التهامي، يستأمن على نفسه وأهله وسكان الحصن، وطلب منه منحه مهلة أربعين يوماً لإخلاء الحصن، فعرض الخليفة الأمر على الأمير فقبل، وأخلي الحصن في التاريخ المحدد، وأمر الأمير بتدميره.
كان محمد التيجاني يعتقد أن الأمير عبد القادر سينهزم، وخطب في مريديه بقصره بعين ماضي قائلاً: إن عبد القادر سيفشل بحربه ضد فرنسا حتى إن انتصر لا يفيدنا بشيء، فنحن التيجانية خلفاء الله في أرضه.
بهذه القناعة كان التيجاني يتعامل مع أمير البلاد ؛ الذي كان يعتبرهم من المرابطين، على الرغم من ملاحظاته على بعض أفكارهم وتصوراتهم، ولكنه اعتبرها بينهم وبين رب العالمين، ولكن عندما قرأ رسالة بخط محمد التيجاني مرسلة إلى المارشال فاليه كتب له فيها: أشغل أنت الأمير من جهة البحر، وأنا سأشغله من جهة الصحراء. هذه الرسالة لم تصل إلى فاليه ؛ لأنها وقعت بيد فرسان الأمير أثناء أحد الكمائن، ومنذ ذلك الحين والأمير يتحين الفرص لإخضاع هذا المتمرد ؛ الذي كان يظنه من المتعبدين فخاب ظنه فيه، والذي لم يقتصر عمله على عدم دفع الزكاة ؛ التي فرضت على أساس شرعي فقهي، وإنما تطال إلى درجة الخيانة.
كان في ذلك المكان من الأغواط جنوب الصحراء نبع ماء منذ أقدم العصور، سمي المكان باسم العين «عين ماضي»، شيّد فيه أجداد محمد التيجاني ثلاثمئة بيت، وقصراً منيفاً وأبراجاً تحيط بها جدران كثيفة من الحجر، وزاوية تدرس فيها الطريقة التيجانية ؛ التي من أهم مبدأ في عقيدتها هو السلام، وهذا ما جعل الأمير وأركان دولته في البداية يظنون بهم الخير والصلاح، ولكن الأيام كشفت حقيقة هذه العقيدة، وأن مفهوم السلام عندهم هو القبول بحكم الأقوياء، حتى لو كانوا من الغزاة المحتلين، وتهيئة النفوس لقبول الاستعمار والاحتلال، على شرط عدم المساس بهيئتهم الشخصية، ومصالحهم الذاتية البحتة. وأيقن الأمير أن الحرب ليست بينه وبين جنرالات المحتلين فقط، وإنما بين قوى الشر أيضاً في البلاد، ومن خيمته داخل الأدغال أخذ يدير أعماله الإدارية، ويوقع على القرارات التي تستوجب توقيعه.
اضطر التيجاني نتيجة الحصار إلى التسليم، ونزل على شروط الأمير عبد القادر وهي:
ـ أن يرسل الشيخ أحد أولاده ليظل رهينة عند الأمير ريثما يتم الجلاء عن الحصن.
ـ أن يدفع الشيخ مصاريف الحصار للدولة.
ـ له الحق بأخذ جميع أمواله بلا استثناء.
فقبل التيجاني هذه الشروط ووقع عليها، وأرسل ابنه فأمنه الأمير وأحسن معاملته، وقبل انتهاء المدة كان الشيخ قد خرج بأهله من الحصن، وبعد ذلك بأيام وقبل عودة قواته إلى مراكزها أمر بتهديم الحصن والسور وسائر الأبراج، وسوَّاها بالأرض وغوَّر ماء الابار، فسارعت أكثر القبائل المحيطة بالحصن إلى دفع الزكاة، وكاتب وفد منها أمير البلاد، وعندما جلسوا بين يديه قال لهم: أيها المسلمون، لقد نصرنا الله على العصاة، أيها الرجال إننا نبني دولة تصون أعراضكم وتحميها وتؤمن لكم العزة والكرامة، وتحمي أموالكم ودينكم، إن الله سبحانه وتعالى أراد لي تحمّل هذه المسؤولية التي ليست مسؤوليتي وحدي، إنها مسؤوليتكم، وبناء الدولة والمحافظة على نظامها وقوانينها هي جهاد، لأن الجهاد في سبيل الله ليس فقط قتال العدو، وإنما أيضاً البناء وتقوى الله، فاتقوا الله في أنفسكم وفي دولتكم الإسلامية ونظامها الإسلامي الإلهي العظيم ؛ الذي تجدون فيه حلولاً لجميع المشاكل ؛ التي تعترض حياتكم الاجتماعية والزراعية والاقتصادية، قفوا بقوة في وجه تحديات المحتلين وإغراءاتهم، فهي مؤقتة وزائفة، فَعَلَتْ أصواتهم «الله أكبر» وخرجوا وألسنتهم تلهج بالدعاء لأمير البلاد.
كانت معاملة الأمير للأسرى الذين وقعوا في قبضته من أتباع التيجاني أثناء الحصار متقدمة ومتميزة، فقد كان جلّ هؤلاء الأسرى يقيمون مع المقاتلين بنفس الخيام، يأكلون معهم ويصلون خمس أوقات في اليوم معهم، وبعد أيام أعادوهم إلى الحصن، فأخبروا ذويهم عما شاهدوه من قوة جيش الأمير ونظامه، وشاعت هذه الأخبار كالنار في الهشيم بين سكان الحصن، فذهب عدد من المريدين لمقابلة شيخهم، قائلين: انظر ما آل إليه حالنا، وأنت الذي علمتنا عدم مجابهة بعثة العدو، وإن كان أقوى منا، وهذا العدو مسلم مثلنا، يصلي صلاتنا ويتكلم لغتنا، ونحن من بايعناه منذ سنوات. ولقد سمعنا أن الفرنسيين المحاصرين في وهران اضطروا لأكل القطط والفئران نتيجة الحصار الذي فرضه الأمير عليهم، فهز الشيخ رأسه، وأمرهم بالخروج من الحصن رافعين الراية البيضاء طالبين مقابلة الأمير، وتمّ بعد ذلك ترتيب أمور الاستسلام، وفق الشروط التي تمّ ذكرها.
3 ـ مراجعة علماء المغرب الأقصى:
كان الأمير يعمل على إحاطة دولته بسائر أنواع الضبط التشريعي والإداري، وكان يضطر إلى إنزال العقاب بالقبائل العاصية المتعاونة مع العدو، وأراد أن يحيط علماء المغرب ببعض المشاكل التي تواجهه، وطلب منهم الإجابة، فأرسل لجنة برئاسة عبد الله سقاط تحمل أسئلة موجهة إلى علماء المغرب الأقصى طالباً منهم الإجابة عليها، وقد أجاب عليها شيخ الإسلام الإمام التسولي. وقبل الاتصال بالعلماء قصدت البعثة سلطان المغرب حاملة رسالة من الأمير.
وكانت الأسئلة تدور حول: كيف تعامل القبائل المنهكة بالمحرمات والعصيان؟ كيف يعاقب الجواسيس والنصاب؟ وما هي الأشياء التي لا يجوز بيعها للنصارى؟ كيف يعاقب العاصي بالمال وما فيه من الخلاف وتضارب الأقوال؟ كيفية تحريم ترك الإمام ونواب الرعية على ما هم عليه من المفاسد وارتكاب المظالم؟ وما هو حكم المتخلف عن الاستنفار للجهاد وما العقاب المسلط عليه؟ وما ينبغي أن يفعله الإمام قبل أن يستنفر الناس؟ ما هي الأمور التي يجوز أن يُتصالح حولها مع العدو؟ ما هي المصادر التي يجوز أن يرتزق منها الجيش في حال فراغ بيت المال في الحال والأبدان والمال؟ ما حكم من ساكن العدو الكفور ورضي بالمقام معهم فيما لهم من البلاد والثغور؟
كان قصد الأمير من هذه الاستشارة القانونية من علماء المغرب إبراء ذمته أمام الله، وتجنبه من أن يعاقب خارج أحكام الشريعة، وتقوية موقفه أمام الناس ؛ الذين سيشعرون بأن الأمير يطبق عليهم ما أمر به الله بشهادة علماء متعمقين في الشريعة وأصول الدين.
4 ـ التوسع في بناء الحصون ومصانع الأسلحة:
كانت معاهدة التافنة هدنة مؤقتة يلتقط فيها أنفاسه، ويزيد فيها من قوته العسكرية والاقتصادية لا غير، ولقد ذكر الصحفي البريطاني شارل هنري شرشل بعضاً من نصوص هذه المعاهدة المهمة، وبناء على ذلك اعترف سلطان مراكش عبد الرحمن بن هشام بسلطة الأمير، مرسلاً إليه الهدايا الثمينة، وكتب ليون روش فقال: لقد خلع المبعوث الرسمي للسلطان عبد الرحمن في (3 يوليو من عام 1839م) قفطان المبايعة على الأمير عبد القادر، وهذا يعني اعترافه به كملك مع الهدايا النفيسة، وكذلك حذا حذوه أمير الحجاز وغيره من الحكام ؛ الذين اعترفوا بهذه الدولة الفتية.
وبهذه الهدنة المؤقتة نظم الأمير الكثير من الأمور التي تهُمُّ الشعب والجيش، وشيّد الكثير من القلاع والحصون: فأمر ببناء حصن من الخط الفاصل بين السواد والصحراء، وحصون أخرى منها: حصن سعيدة، وحصن سبدو في الجهة الغربية، وحصن تاكمدت الشهير في الجهة الجنوبية والشرقية وحصن بوغاز، وحصون سبأ وعريب وبو خرشفة وحصن طازة، وذات جولة مرّ بحصن طازة ورأى المنشات التي شُيّدت في أقصر زمن وحمد الله وشكره، وارتجل هذه الأبيات وأمر بكتابتها على باب الحصن بخط كبير مقروء:
الله أعلم أن هذا لم يكن منّي * على الأمد الطويل دليلا
كـلا وإن منيّتي لقريبــــة منّي * وأصبحُ في التراب جديلا
ورضا الإله هو المنى ويكون * من بعد انتفاعُ الخلق طويلا
كما أن مصانع عديدة أُنشئت في المدن التي كانت تحت سيطرة الأمير، وأن مطاحن البارود وإذابة الحديد اخذة بالعمل، وهي تنتج قناطير من البارود يومياً، وأنشئت مصانع كثيرة في قلعة بني راشد وحصن بلال وحصن شرشال، كما تصنع المدافع في تلمسان وغيرها من المدن والحصون.
هذه المعلومات العسكرية، كانت تصل إلى السلطات الفرنسية بواسطة خبراء من جنسيات مختلفة بسرية تامة، ويضيف دولا كروا: وإلى الان يوجد ثلاثة مدافع في متاحف باريس، نُقش على سبطاناتها بالخط العربي الجميل «عُمل في تلمسان وقت إمارة ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين سنة (1255هـ)».
وقد أُمر حينذاك كلُّ من يحصل على بارودة فرنسية أن يسلمها إلى رئيس معامل السلاح، ويأخذ ثمنها اثني عشر ريالاً جزائرياً، وجعل الأمير الحصون الكثيرة من الكوادر الصناعية لإصلاح الأسلحة وسروج الخيل، وكان أغلبهم من المسلمين القرداحية المشهورين بهذا النوع من العمل، ووضع الحاميات المسلحة في المضائق والنقط الهامة في البلاد كمخافر أمن، وجعل ألبستها في الشتاء الجوخ الأحمر.
كتب الصحفي شرشل فقال: إن هذا الشاب على الرغم من صغر سنه بنى دولة فيها جميع المؤسسات الرسمية التي لم يسبق لغيره أن أسسها قبلُ في تلك البقاع من العالم، ومنها فتح المدارس والمشافي الحكومية
5 ـ المارشال بيجو يخشى من توسع دولة الأمير:
أصاب بيجو غضب شديد عندما علم بانتصار الأمير على التيجاني وهزيمة بني عراش أيضاً وإخضاعه لمعظم القبائل، وتوسعه في بناء الحصون والمصانع وتطوير الجيش النظامي، وأنه في طريقه لإنشاء إمبراطورية جزائرية يصعب التفاهم معها، فكيف بالسيطرة عليها، وأصبح خطره أكبر على مدينة الجزائر، ومازال يعتبرها مدينة محتلة مع اعترافه بسيطرة الفرنسيين عليها، لأنه أمر واقع ولا يستطيع نكرانه، ورسائله إلى الملك تدل على ذلك، وعلى مفهومه للمعاهدة، وبهذا المنطق بدأ المارشال بيجو يقنع زملاءه من المارشالات، والوحيد الذي كان يجد أعذاراً للأمير، كان الدوق أرليون الذي اشتهر بذكائه، وصرّح ذات يوم للمارشال فاليه برأيه قائلاً: إنني لا أستطيع المشاركة في أمر يهدد السلام مع الأمير عبد القادر ولا أريد استفزازه، وهذه قناعتي ولا أوافق على احتلال مليانة والمدية ونسف المعاهدة، ولكن بيجو كان مصمماً على التخلص من المعاهدة بأي شكل.
بعث المارشال بيجو في رسالة في (24 «نوفمبر» تشرين ثان عام 1841م) إلى وزير الدفاع: هل نستطيع أن نجري في كل مكان..؟ هل نستطيع أن نصدّ جميع الضربات؟ هل نستطيع تجنيد مئة ألف رجل لملاحقة رجل واحد هو عبد القادر؟ من الواضح أننا لا نستطيع ذلك، مستحيل. لذلك يجب علينا الوصول إلى السكان الذين يمدونه بالعون، لابد من عمل متواصل لحصاره وتقويض أركان قوته من الداخل.
توهمت فرنسا أن هذه الاتفاقية ستجنبها شروراً كثيرة كانت تتهيب لها، منها دخول قواتها الصحراء، واجتياز جبال أوراس الصعبة المسالك والمختلفة المناخ، لاحتلال كامل التراب الجزائري، وكما تدل الأحداث كانت تفضلّ بالدرجة الأولى التحالف مع الأمير، ثم تحقيق السيطرة الاقتصادية، ومن ثمّ السيطرة السياسية، وهذا أفضل لها من خوض غمار حروب ومعارك دامية طويلة الأمد، ترهقها اقتصادياً وعسكرياً، ولكن الأمير كان صعب الانضواء، مدركاً تمام الإدراك مجريات الأمور.
ظل الأمير على هدفه الراسخ، وهو أن بقاء الفرنسيين في الجزائر ـ رغم انتصاراتهم ـ إنما هو بقاء السحابة الصيفية، وكان يرفض رفضاً قاطعاً الاعتراف بالسيادة الفرنسية على الجزائر، في كل المواثيق والمراسلات . وكان على يقين من أن موجة التاريخ وإن تصاعدت مع الفرنسيين في عهده، فإنها ستنحسر وتتراجع لا محالة، وتتكشف بعد ذلك عن فظائع ارتكبت في حق الإنسانية تحت غطاء الموجة العاتية. فقد كتب رسالة إلى بيجو سنة (1841م): إن فرنسا ستمضي وسنتراجع نحن، ولكنها بدورها ستضطر إلى التراجع، وعندئذ سنعود. وقد شبه الأمير مقاومته وهي في عنفوانها بالموجة التي لا تتأثر بلمسة من جناح طائر: هل تتوقف الموجة عن الصعود والتضخم عندما يلامسها جناح طائر أثناء طيرانه السريع؟ تلك هي صورة مروركم بالجزائر.
وبعد ثلاث سنوات من الهدنة وجد كبار السياسيين والعسكريين في فرنسا أن هذه الاتفاقية هي هدنة مؤقتة وليست صلحاً كما أرادوها، وأن الاستمرار فيها ينطوي على أخطار كبيرة على المصالح الفرنسية، وتأكدوا أن الأمير عبد القادر بدهائه السياسي وقدراته العسكرية وفريقه المتميز ومجالسه الشورية التي لاحظوها تنمو يوماً بعد يوم، وشعبيته التي تزداد انتشاراً واتساعاً سنة بعد سنة ؛ كان تهديداً لمصالحهم، ورأوا ضرورة القضاء عليه، بكل الوسائل المتاحة لديهم في مفهومهم الاستعماري، وهكذا بدأت الخطط تحاك في باريس، وأخذت الإمدادات العسكرية والمالية تتواصل بحراً إلى مدينة الجزائر، ووصلت أخبار هذه الإمدادات إلى أسماع الأمير بفضل جهاز مخابراته، فبعث إلى خلفائه في الولايات والثغور ينبههم ويحذرهم من غدر الأعداء، ويأمرهم بالتأهب للقتال إذا دعت الحاجة لذلك.
كان الأمير يريد إطالة أمد الهدنة، فعمد إلى إرسال رسائل إلى ملك فرنسا يشرح له مساوأئ بعض بنود المعاهدة، ومغبة انتهاك حرمة البلاد من قبل قواته في بلاد ليست له. ويطلب منه ترك المطامع في التراب الجزائري واحتلاله، على الرغم من إرادة أهله قائلاً: وإن ما أقوم به أوجبته عليَّ شريعة الدين الذي أؤمن به، وإن واجبي القومي والديني يأمرني بعدم التخلي عن شبر من أرض وطني ، وقواتكم تحتل قسطاً عظيماً من بلادنا، وتحاول التوسع على حساب شرفنا وكرامتنا، وهذه كلها أسباب تلزمنا باستنشاق الحرب وبالله المستعان، فاسحبوا وكلاءكم من بلادنا، والمسؤولية عليكم وحدكم. كانت هذه آخر رسالة كتبها الأمير قبل إعلان الحرب.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري، بقلم الدكتور علي محمد الصلابي