الجوانبُ الخفيةُ من تاريخ الأمير الهاشمي بن عبد القادر دفينُ بلدة بوسعادة
بقلم : محمد بسكر-
لا نعثر في الدراسات التي تناولت حياة الأمير الهاشمي بن عبد القادر إلا تلميحات قليلة عن تاريخه، يقتصر معظمها حول خلافه مع إخوته بعد وفاة والده، ثم انتقاله إلى الجزائر بدعم من القنصلية الفرنسية بسوريا، ومعظم ما كتب عنه من تقارير، وخاصة ما كتبه " " vassé، انصب حول ابنه الأمير خالد، الذي سيلعب دورا هاما في تاريخ الحركة الوطنية، فتاريخ الأمير الهاشمي يكاد يكون مجهولا بسبب قلّة التوثيق، وهي معضلة صادفت الأستاذ سهيل الخالدي (المؤرخ السوري) الجزائري الأصل عندما أراد أن يكتب عنه، فإنّه تحدّث عن زيارة جده للأمير الهاشمي بمكان إقامته بالجزائر، وأنّ زيارته حسبما أخبرته جدته تكررت، لكنه أسف لعدم وجود تفاصيل هذه اللقاءات في أي مصدر من كتب التاريخ التي تناولت أسرة الأمير عبد القادر.
المصادر المؤرّخة لحياته:
لم تسعفنا المؤلفات التي تحدثت عن أسرة الأمير عبد القادر إلّا بتفاصيل شحيحة عن حياة ابنه الأمير الهاشمي، لكونه لم يكن له تأثير كبير على الحياة السياسية أو الاجتماعية، كابنه الأمير خالد، ومعظم المصادر تناولته عَرضا، وهي مصادر في الغالب فرنسية ، والتي منها:
1: ما كتبه (بيير باردان) في كتابه " الجزائريون والتونسيون في الدولة العثمانية"، واتكأ الدكتور أبو القاسم سعد الله على هذا المصدر أثناء حديثه عن الهاشمي. وما ذكره الرحالتان، ج قيوشان ( Guiauchain.G )، ودوقلان ( De Galland.ch )، في كتابهما ( رحلة إلى بوسعادة والمسيلة سنة 1899م )، ص 47، عن زيارتهما لبيت الأمير الهاشمي ببوسعادة، ووصفهما له بأنّه لا يحمل أي طابع خاص، فهو ( عبارة عن بناء مكعب كبير، ودرج على شكل سلم يقود الى الحجرة التي فضل سي الهاشمي استقبالنا فيها)، لكنهما ركزا على نقل أوصاف الهاشمي التي تختلف عن صفات والده الأمير عبد القادر، ونقل كلامه عن سيرة والده وحياته بدمشق، ودوره سنة 1860م في حماية المارونيين المسيحين، وختما حديثهما بقولهما: « يعيش سي الهاشمي محروما من البصر، في عزلة مع ذكرياته، وخصّ أوقات فراغه لسيرة عبد القادر المدونة في جزأين ».
إضافة إلى المعلومات الواردة في تقرير " vassé " المكلف بتغطية التكاليف المالية الممنوحة من الحكومة الفرنسية لأسرة الهاشمي، وما جاء في الجرائد الفرنسية، التي قامت بتغطية أخباره باختزال بداية من استقراره بالجزائر، وزيارته إلى فرنسا ثم الإعلان عن تاريخ وفاته (سنة 1900م)، وبعضها انتقد السلطة الفرنسية التي تنفق عليه من غير طائل، وبأنّه رجل طمّاع لا يرغب إلّا في المادة.
2: ما كتبه الدكتور أحمد بن جدو عن (يوميات الأمير الهاشمي وأسرته ببوسعادة)، ونشره في جريدة المجاهد بتاريخ 12/01/1967م، وهو النص الوحيد الذي تناول جزءا من سيرته ببلدة بوسعادة، والدكتور أحمد بن جدو قيرش عميد كلية الترجمة، والمولود ببوسعادة سنة 1909م، اعتمد في جزء من دراسته على كتاب ( رحلة إلى بوسعادة والمسيلة سنة (1899)، وزاد عنه تفاصيل ممّا خزّنته الذاكرة الجمعوية لسكان بوسعادة، وما سمعه من تلامذة الأمير الهاشمي، وأتراب ابنه الأمير خالد.
3: مجموع رسائل منها: رسالة الشيخ محمد بن أبي القاسم، شيخ زاوية الهامل ( بدون تاريخ )، اضافة إلى رسالتين من الأمير الهاشمي إلى محمد بن أبي القاسم، الأولى بتاريخ 18 يونيو 1892م. والثانية بتاريخ 8 أكتوبر 1895م، ورسالة ثالثة إلى الشيخ محمد بن الحاج بلقاسم بتاريخ 6 يونيو 1897م.
المولد والنشأة:
ولد الهاشمي بن عبد القادر بن محي الدّين الحسني الجزائري سنة 1847م، وهو الابن الثالث للأمير عبد القادر، حبس مع والده بقصر آمبواز بفرنسا سنة 1852م، وكان سنه ثمان سنوات عندما استقرت أسرته بدمشق سنة 1855م، حيث أخذ تعليمه هناك على يد والده، ثم على يد الشيخ الطنطاوي صديق عبد القادر، وعن الشيخ محمد عبد الله الخالدي، وغيرهما من شيوخ الشام الذين أخذ عنهم إخوته، فقد بصره في فترة شبابه سنة 1881م إثر حادث وقع له بدمشق وعمره 34.
الانقسام المحتوم:
كان لوفاة الأمير عبد القادر سنة 1883م، تأثيره على تماسك أسرته، فحدث انقسام بين أولاده بسبب الضغوط القوية التي مورست على أسرهم من قبل الدولتين العثمانية والفرنسية، واختارت أسرة الأمير عبد القادر بعد وفاته الامير محمد باشا( مؤلف كتاب تحفة الزائر) ليخلف والده في الإشراف على كل ما يتعلق بها، وَوَقّع معظمهم على وثيقة الشرف والولاء للأخ الأكبر ( محمد باشا ) مؤلف كتاب ( تحفة الزائر )، غير أننا لا نجد اسم الأمير الهاشمي ضمن الموقعين، والذي استطاعت القنصلية الفرنسية بدمشق استمالته إليها ، ووجد رعاية خاصة، وقبلت فرنسا إدخال ابنيه خالد ومصطفى إلى ثانوية ( لويس لوغيراند ) بباريس سنة 1888م، ووفرت لهما منحة التَمدرس. بينما ارتبط بقية إخوته بحركة الجامعة الإسلامية وأعلنوا الولاء للدولة العثمانية، لاسيما محمد وعبد المالك ومحي الدّين، هذا الأخير حظي بالرّعاية والترقية من قبل السلطان عبد الحميد، وتمّ تكليفه بمقاومة السياسة الفرنسية بين أبناء الجالية الجزائرية في الشام، وحاول الدخول إلى الجزائر سرًا لإحياء المقاومة الشعبية من جديد، ويقول محمد باشا بأنّ والي دمشق أَخَّر قسمة ما رتبته الدولة العثمانية من منح على أفراد الأسرة في انتظار أن يعدل بعضهم عمّا هم عليه، ولما يئس منهم : « عَين لي ولمن تبعني من الإخوة والأقارب وأعيان المهاجرين ذلك المرتب ».
كان موقف الأمير الهاشمي المخالف لنهج إخوته أوقعه في مشاكل مع الموظفين المؤيدين للعثمانيين، فتميزت علاقته مع والي دمشق بالتوتر وقلّة الثقة، فكان كثير الشكوى، وخاصة فيما يخص حقوق المهاجرين، ممّا جعله يتبرم من مقامه بالشام، وصرّح أثناء زيارته لفرنسا بتاريخ 5/8/1894م بأنّه عانَ من مضايقات في دمشق، وأنّه تبعا لنصائح صديقه القنصل الفرنسي السّيد Patrimonio " "، اتّخذ قراره بالعودة إلى الجزائر، وأنّه أنكر على إخوته ( محمد ومحي الدّين وعبد المالك) انحيازهم للدولة العثمانية، ورفضهم المنح ( المعاشات) التي قدمتها لهم فرنسا.
تمتع الأمير الهاشمي بعلاقة وطيدة مع القنصل الفرنسي بدمشق، وحاول أن يمد جسور التواصل مع شخصيات فرنسية مختلفة، فكانت له مراسلات مع بعضها، للتهنئة بسبب مناسبات معينة، أو للتدخل في قضايا تخص أفراد عائلته، كالرسالة التي أرسلها الحاكم الفرنسي بالجزائر بتاريخ 18 نوفمبر 1890م، طلب فيها منه مدّ العون للسيدة آمنة بنت الميلود بوطالب، أرملة ابن عمه مصطفى بن عبد القادر، ختمها بقوله: « ولا أظنّ أنّ قلبكم الرؤوف يتأخر عن إعانة المحرومين ».
العودة إلى الوطن:
بسبب المضايقات التي تعرض لها الأمير الهاشمي طلب العودة إلى أرض الوطن، فأذنت له سلطة الاحتلال العودة إلى وطنه سنة 1892م، وهو الوحيد من أبناء الأمير عبد القادر الذي مُكّنَ من دخولها والاستقرار فيها، عاد إلى الجزائر « وخلّف وراءه مئات الأفراد من أبناء عمومته، ممن ضمّتهم الدولة العثمانية إلى أجهزتها وقياداتها العسكرية والسياسية والإدارية»، وموافقة إدارة الاحتلال على انتقاله يرجع لأسباب منها:
أولا: أنّه لا خطورة مرجوة من الأمير الهاشمي عليها، لكونه ضريرا، فليس بمقدوره القيام بأي نشاط معاد.
ثانيا: إحداث انقسام بين أفراد أسرة الأمير، مما يقلل من تأثير أفرادها على الجالية الجزائرية بالشام وفلسطين، ففي مسعى فرنسا لكسب تأييد عائلة الأمير عبد القادر، عقدت جلسة لمجلس الأعيان بتاريخ 31 يوليو 1884م، بناء على تقرير تقدمت به اللّجنة المالية، لمنح أسرة الأمير منحة ومعاشا تقاعديا مقداره 80000 فرنك، وبررت اللّجنة ذلك باعتبارات سياسية تتعلق بنفوذها في سوريا، ولقي المشروع معارضة شديدة من قبل بعض الأعضاء، إلّا أنّه تمّ اقراره، وأكدت اللّجنة أنّ المنحة « تقتصر على أبناء الأمير الذين يبرهنون بمشاعرهم وإخلاصهم وتعلّقهم ببلادنا، وأن تسعى إلى استبعاد غير المستحقين، والمعارضين، وتعمل على تكليف مندوبنا بسورية مراقبة فعلية للتأكد من أن هذه المعونة لن تذهب من فرنسا إلا لأصدقائها والعاملين لصالحها».
نزل الأمير الهاشمي أولًا بمنطقة مصطفى الأعلى بالجزائر العاصمة، ثم انتقل إلى بلدة أبي سعادة سنة 1894م، واستقر ببيت بحي الشرفاء، تكفّل المكتب العربي بسداد ثمن كرائه، وفي هذه الأشهر كابد الأمير الهاشمي الأمراض، وعان من انعدام الرّؤية، فلم يُقم ببوسعادة إلّا أشهرا قليلة رتّب فيها شؤونه الأسرية، لينتقل صحبة السيد vassé المكلف بشؤونه المالية رفقة ابنه خالد إلى باريس بتاريخ 25 جويلية 1894م، قصد استشارة مختصين، بعد أن نصحه الأطباء في الجزائر بذلك، أملًا أن يردّوا له بصره الذي فقده إثر حادث حصان وقع له في دمشق سنة 1881م، كانت أمنيته أن يعود إليه النظرُ، ويتمكن من رؤية قلعة آمبواز، فيعيد جزءا من ذكرياته الممتزجة بالسعادة والحزن، وقد صرح بذلك لجريدة (le matin): « لي رغبة واحدة أريد تحقيقها، وهي رؤية قلعة آمبواز، التي أمضى فيها أبي المبجل ساعات أليمة عندما كان حبيسا بها بعد استسلامه، كنت حينها صغيرا، ولكني احتفظ من ذلك الزمن بذكريات سعيدة وأخرى حزينة، والتي من المفيد أن أعيشها مرة أخرى لساعات»، وأظهر رغبته وحرصه على مقابلة (هانوتو) وزير الشؤون الخارجية وبعض أعضاء الحكومة ، وبعد ستة أيام من نزوله بفرنسا تمّ استقباله، وحسب تفسير جريدة ( figaro le ) « ليقدّم لهم شهادة على إخلاصه وتفانيه وحبّه لفرنسا ».
عاد الي بيته ببوسعادة من رحلة العلاجية، والتي لم يجن منها إلّا انتقادات حادّة من الصحافة الفرنسية، وخاصة جريدة (le figaro) التي تساءلت عن جدوى تخصيص نفقة له ولأولاده، وأظهرته بمظهر الذي لا يشبع من طلب المال، وان زيارته لباريس هي من أجل زيادة معاشه، وصرح بأنّ الحكومة الموجودة في باريس طيبة على عكس الموجودة في الجزائر.
قضى الهاشمي بقيت السنوات ببلدة بوسعادة يدرس طلبته، ويقضي حاجيات الناس، ويستقبل الوفود الزائرة من شتى القبائل، وتشير بعض المصادر أنّه لعب دورا في تهدئة النزاع الذي وقع بين أفراد الأسرة القاسمية، بعد وفاة الشيخ محمد بن أبي القاسم، فيمن له أحقية ترأس مشيخة الزاوية، ففي رسالته التي بعثها إلى الشيخ محمد بن الحاج محمد بلقاسم بتاريخ 06 يونيو 1897م، أوصاه فيها « بعدم التشديد ومعارضة السّيدة »، يقصد السيدة زينب ابنة الشيخ، التي كانت ترى أحقيتها في خلافة والدها، وإن كان فحوى الرسالة يبن ميل الهاشمي إلى تولية ابن عمها، حيث جاء فيها:« وكذلك اعلمك أن أحد أصدقائي، ممن يعتمد عليه، أرسل إخبارا وثناء عليكم، ومبايعتكم، إلى الجريدة وستدرج في هذين اليومين وتنشر في الأقطار، فبعدها أعرفكم من هو، وإذا جدّ عندكم أمر أفيدونا »، إنّ هذه الرسالة التي لا تُجلِّي موقف الهاشمي واهتمامه بشؤون الزاوية فقط، إنّما تظهر حرصه على أن تستمر في نهج مؤسسها، وإجراء ما كانت عليه من خدمة أفراد المجتمع، حيث أوصى الشيخ محمد بن الحاج محمد « بإجراء كلّ ما كان من السيد(محمد بن أبي القاسم) نور الله ضريحه من المواصلة للأرامل واليتامى والمحتاجين في هذا الموسم».
المرحلة المجهولة من تاريخه( 1894/1900):
لم تدم إقامة الهاشمي بمصطفى الأعلى بالقرب من العاصمة إلّا سنتين، لينتقل بعدها إلى بلدة بوسعادة سنة 1894م، وكُتب التاريخ الحديث أهملت عن هذه الفترة، وهي مدة خمس سنوات عاشها مع أفراد اسرته في استضافة سكان بوسعادة، ولعل عدم الالتفات الى هذا الفصل الأخير من حياته يرجع إلى قلّة نشاطه وخاصة في المجال السياسي، كما تجاهلت الدراسات التي تناولت حياة ابنه الأمير خالد هذه المرحلة من عمره، ويقول الأستاذ سهيل الخالدي أثناء حديثه عن الأمير خالد أنّه حاول أن يعثر على مصادر حول الأمير الهاشمي، وخاصة أن والدته حدّثته أنّ والدها ( محمد الخالدي )، هو من صَاحب الأمير الهاشمي من دمشق إلى الجزائر، وأنّه بقي يتردد عليه سنوات بين دمشق والجزائر، ثم يصرح قائلا: « وقد حاولت أن أعثر على ما يوثق كلام الوالدة علّني أصل إلى أسباب كثرة التردد على دمشق فلم أتمكن حتى الآن من العثور على مصادر كافية ».
الخمس سنوات التي عاشها الهاشمي مع أفراد عائلته ببوسعادة، لا نجد ذكرا لها إلّا في مقال الدكتور أحمد بن جدو، الذي نشره في جريدة المجاهد بتاريخ: 12/01/1967م. فهو يعتبر وثيقة هامة لكون كاتبها من بوسعادة وقريب عهد بالأمير الهاشمي، ولا ندري لما لم يعتمدها الدكتور بلقاسم سعد الله في كتابه عن (الحركة الوطنية)، واكتفى بنقل الأسطر التي كتبها عنه السيد (بيير باردن)، وقد يكون عذره عدم اطّلاعه على المقال المذكور، والدكتور أحمد بن جدو قيرش في سرده لقصة الأمير الهاشمي اعتمد على مصدرين، أوّلًا: ما ذكره الرحالتان ( De Galland.ch و Guiauchain. G) في كتبهما (رحلة من المسيلة إلى بوسعادة)، والمصدر الثاني وهو الأهم: توثيقه للرّواية الشفوية التي سمعها من شهود عيان من أصحاب الأمير وتلامذته.
تقارير دوائر الاحتلال حول الأمير خالد.
اتفقت التقارير الفرنسية التي كتبت حول الأمير خالد أنّه سيء السّمعة، ووصفته بالطّماع الطائش، كان والده ألحقه بمدرسة " "saint cyr العسكرية سنة 1893م غير أنّه تركها سنة 1895م قبل التخرج، بسبب اتهامه بالشغب والنوايا السيئة ضد فرنسا، ولفت انتباه الإدارة لاستقلال فكره وانتقاده لها، فاتصل بجمعية الشبان الجزائريين، وأرد الهروب مع أسرته، ( والحقيقة أنّ سبب تركه للكلية هو إصابة والده بمرض وصل به إلى مرحلة خطيرة، ونفاد موارده المالية، مما دفعه إلى استدعاء ابنه خالد للوقوف إلى جانبه، المهم في الأمر هو أنّ حكومة باريس شعرت بالقلق تجاه تقلب مزاج الأمير الهاشمي، ونواياه المضادة لفرنسا، علاوة على الديون الضخمة التي بات يرزح تحت أعبائها، ممّا قد يدفعه إلى الثورة أو ترك الجزائر مع كل أفراد أسرته مما قد يثير النقمة في ظروف كانت الإدارة الفرنسية تحرص كلّ الحرص خلالها على تهدئة البلاد وإخماد عوامل النقمة).
إنّ أسرة الهاشمى لم تحظ بالمعاملة اللّائقة التي كانت تنظرها في الجزائر، ممّا جعلها تفكر في العودة إلى دمشق أو الرحيل إلى مصر، وهذا ما عبر عنه الأمير خالد لأصدقائه في المدرسة العسكرية قبل أن يغادرها سنة 1895م، أنّه « إذا لم تحظ عائلته بما يليق بها من تقدير واحترام، فإنّه مضطر للتوقف عن الدراسة ومرافقة والده إلى مصر».
ومحاولة الخروج سرا من الجزائر إلى الشام أو مصر دفعت إدارة الاحتلال للتفكير في إبعاده عن العاصمة إلى عمق الجزائر جبرا ووضعها تحت الرقابة الدائمة، حيث يكون تأثير الأسرة أقل، والتقارير التي أعدّها vassé " ، عن الأمير خالد، تخبرنا أنّ عمره سنة 1893م 18 سنة، وأنّه تلميذ بثانوية (لويس لوغران) في باريس ، ويصفه بأنّه ممدود القائمة وضخم الجثة غير متجانس الجسم، وكان يرى فيه شخصا مظلما متآمرا. ويلاحظ أن التقارير التي أعدتها دوائر الاحتلال انصبت حول الأمير خالد، باعتبار أن والده لا خوف من جهته لعجزه ومرضه، ولذا فهو يرسم لنا صورة باهتة عن الأمير خالد « فهو الابن الذي كان في عائلة الهاشمي أقل عرفانا تجاه فرنسا »، وكان يرى فيه شخصا مظلما متآمرا،« لابد أنّ هذا الشاب يحب الظلام والصمت الملائم للأغراض المظلمة».
مستقرهُ بين الجبر والاختيار:
تخوف فرنسا من عواقب هروب أسرة الهاشمي، وما يترتب عن ذلك من فوضى هي في غنى عنها، دفعها للتفكير في إبعادها إلى العمق الجزائري، ويشير التقرير الذي كتبه(بيير باردن) في كتابه ( الجزائريون والتونسيون في الدولة العثمانية )،( ص60) أنّ الاحتلال فرض الإقامة الجبرية على الأمير الهاشمي في مكان بعيد عن التجمعات السكنية، ببلدة بوسعادة ، وإذا جارينا "بيير باردن" في اجبارية الإقامة بمنطقة بعيدة عن التجمعات السكنية، فإننا نخالفه في تعبيره وسياق كلامه، لكون المنطقة التي نقل إليها هي في حدّ ذاتها تجمعا سكانيا، فكانت بلدة بوسعادة تضم السكان الأصلين وقلة من اليهود والمعمرين، اضافة إلى القرى القريبة منها والآهلة بالسكان، كما شهدت المنطقة ثورات مختلفة، وهي معروفة بتأييدها لثورة الأمير عبد القادر وكثرة أنصاره فيها.
أمّا اجبارية الإقامة ببوسعادة التي ذكرها (بيير باردن) ونقلها أبو القاسم سعد الله عنه، فإنّ الشواهد والوثائق تثبت عكس ذلك، فاختيار الهاشمي وتفضيله لها كان من بين مجموع مدن جنوبية اقترحت عليه، وما يثبت ذلك عدة مؤشرات:
1: ما نقله الدكتور أحمد بن جدو في مقاله، بأنّه اختار بوسعادة نزولا عند رغبة والده ونصيحته له عندما أحس فيه ميلا للعودة للوطن، ومما جاء فيها: « إذ قدر لك أن تعود إلى الوطن الأم، أنصحك بالتوجه إلى بوسعادة، حيث لازلت احتفظ بأصدقاء أوفياء من الشرفاء والبساكرة »، فقد كان الشيخ قويدر بن بسكر من الموالين والداعمين له، وقد زار ولداه ( أمحمد ومحمد) الأمير عبد القادر في مقرّ إقامته بدمشق بعد عودتهما من آداء فريضة الحج، وبَقيا في ضيافته أزيد من شهر، فالهاشمي كانت له معرفة مسبقة بأفراد من أسرة (بسكر)، واختياره للاستقرار بهذه المنطقة لشعوره بأنّه سيجد فيها قدرا كبيرا من الاحترام والتبجيل، باعتبارها حاضنة لثورة والده، ومدعمة لها بالمال والرجال.
2: من الوثائق التاريخية التي توحي برغبة الهاشمي الشديدة في اختيار بوسعادة، رسالته الأولى التي بعث بها إلى الشيخ محمد بن أبي القاسم شيخ زواية الهامل، من مقرّ إقامته بالعاصمة بتاريخ 10 جويلية 1893م، أظهر فيها محبته له، ورغبته في الدخول تحت عنايته، وطلب منه الدعاء له ولولديه (مصطفى وخالد)، ومما جاء في نص رسالته قوله:« واستعطافي مراحمكم في ملاحظتي بعين عنايتكم، وعدم إخراجي من زوايا شريف قلبكم، وتعدّوني في جملة أولادكم »، وطلب منه أن يكرمه بتحرير ( رسالة) يبقيها ذخرًا له ولأولاده، فما جدوى هذه الرسالة التي بعثها من محلّ إقامته بمنطقة مصطفى الأعلى بالعاصمة، إن لم تكن له نية للانتقال إلى منطقة تضم أنصار والده ومحبيه، ولمعرفته ثقل الزاوية ووزنها السياسي والاجتماعي، وسبق لوالده الأمير عبد القادر أن تبادل المراسلات مع شيخها محمد بن أبي القاسم.
ويبدو أنّ السلطة الفرنسية تمنّعت من السماح للأمير الهاشمي بالانتقال، أو بالأحرى ماطلت في الإذن له، فرسالته الثانية إلى شيخ الزاوية بتاريخ 18 أكتوبر 1895م، توضح الدور الذي قام به شيخ الزاوية في ترجيح اختيار الهاشمي، وهذا ما نفهمه من قوله:« وكلّ ما حزته من التفات الحكومة (أي موافقتها) فهو ببركتكم »،« وإنّي حامدا لله وشاكرا الذي جعلني جواركم »، وقد التقى شيخ الزاوية به ووصفه في رسالته للشيخ المختار بن خليفة، بقوله: « فوجدته...جامعا بين سياسة الملك ومتانة الدّين ولله الحمد ».
3: رسالة ثالثة مرسلة من الشيخ محمد بن أبي القاسم إلى الشيخ المختار بن خليفة ( بدون تاريخ )، يخبره فيها باستقرار الأمير ببوسعادة، وفيها تصريح بأنّ قدومه كان اختيارا، ومما جاء في نصها قوله: « والسّيد الهاشمي نجل الأمير سيدي الحاج عبد القادر بن محي الدّين حل بأبي سعادة محافظة على أولاده من خلل الفساد من أهل الجزائر، وقد عُرض عليه الجلفة ..وبسكرة والأغواط، ففرّ من الكل لوجود العلّة ( عدم الدّيانة) في كلّ ذلك، واختار بوسعادة ونِعمَ الاختيار».
مقتطفات من يوميات الأمير الهاشمي وفق ما كتبه أحمد بن جدو:
مقال الدكتور أحمد بن جدو الذي كتبه باللغة الفرنسية ونشرته جريدة المجاهد بتاريخ 12/1/1967م تحت عنوان ( يوميات الأمير الهاشمي ببوسعادة)، يختزن معلومات كثيرة عن الحياة اليومية لعائلة الهاشمي، فهو يعتبر المصدر التاريخي الوحيد الذي يؤرّخ لجوانب هامة من تاريخ الأسرة المجهول، ممّا تتكون، وأسماء أفرادها، ونشاط الهاشمي التعليمي، وكيف كانت الأسرة تقضي أوقات راحتها، وزواج الأمير خالد ونحو ذلك، ويمكن تلخيص ما جاء فيه في النقاط التالية:
• أنّ أسرة الهاشمي مكونة من ستة أفرد: خالد ومصطفى، والبنت الشابة آمنة ذات 22 سنة، والتي كانت مقعدة ودائمة المرض، وأمها لالة عائشة السورية الأصل، وهي امرأة سمراء نحيفة الجسم، طويلة القامة في عقدها السادس، ثم والدتها لالة الفايزة، والتي لم يبين لنا النص صفاتها أو سنها، أمّا الأمير الهاشمي، فهو يشبه والده، « أسمر، طويل القامة، قوي البنية، نظره تناقص في الشام ليفقد بصره كليّة ببوسعادة».
• اختير لإقامة أسرة الهاشمي مسكن شيخ فرقة أولاد امحمد، عز الدّين بن العيفة، بحي الشرفاء، وتولت إدارة الاحتلال دفع أجرة الكراء، وتكفلت بدفع منحة شهرية لأمير مقدارها 60 قطعة ذهبية، وكان قادة الفرق الأربعة عشر المكونة لأعراش بوسعادة يزورونه ويزودونه بما يحتاجه من مؤن تكفي لنفقاته اليومية لأسرته وللوفود التي لا تكاد تنقطع عن زيارته.
• كان للأمير الهاشمي مجلس علمي، تأتيه جموع الطلبة للاستفادة من دروسه وثقافته الواسعة التي اكتسبها من والده وشيوخه بسوريا، وخاصة في السيرة النبوية، وذكر لنا (أحمد بن جدو) أسماء بعض طلبته، والذي منهم: أحمد بن محمد بن صالح، وعلي بن مقري، ومحمد بن امحمد بن الحملاوي، وقال بأنّ نجله المسمى الخذير، كان من خدمة الأمير الأمناء.
• لا تقضي النساء وقتهنّ محبوسات في البيت، فخلال الأسبوع يتركن المنزل في نزهة على ضفاف الوادي، سي عبد القادر بن بسكر -( المكلف من عائلته بخدمة الأمير وأسرته) والذي كان عمره ما بين 18 و20 سنة -، يحضر ثلاثة بغال قبل طلوع الفجر، تستقل النساء الهوادج، ويصحبه الأمير خالد، فيسلكون الوادي إلى أعلاه، حيث تنزل الأسرة للراحة، ويتوجه الأمير خالد مع مرافقيه في رحلة صيد إلى البراري والغابات للتمتع بصيد الأرانب والحجل والقطا، لقد كان ماهرا في القنص لا يمكن لأية فريسة أن تفلت منه.
• من المعلومات الهامة التي جاءت في المقال، زواج الأمير خالد، فأشار الدكتور أحمد بن جدو أنّه تزوج قبل وفاة والده من ابنة القاضي (سي بوبكر(، من افرد أسرة سيدي قادة، فرع من أقارب جدّه محي الدين، ومراسيم الزفاف أقيمت بالساحة المقابلة لبيت والده.
• انتقل الأمير خالد بأسرته إلى الجزائر العاصمة، واستقر بها في بيت قبالة مقام سيدي عبد الرحمان الثعالبي، ورافقه في رحلته أصدقاءه، أمثال سي عبد الله المنحدر من سيدي محمد بن إبراهيم، والحاج أحمد بن سنوسي، وعبد القادر بسكر، ويخبرنا ( أحمد بن جدو) أنّ زيارة خالد لم تنقطع عن بوسعادة إلّا فترة الحرب العالمية الأولى التي شارك فيها، وبعد انتهائها عاد إلى زيارتها، وساهم في مساعدة المحتاجين من أهلها.
للموضوع مصادره