خطبة الأستاذ الإبراهيمي التي ختم بها حفلة التكريم للأستاذ ابن باديس في كلية الشعب
بقلم: د. علي الصلابي-
ارتجل الأستاذ خطبته هذه فلم تصد أقلام الكاتبين من ألفاظها إلا قليلاً مشوشاً لم يحفظ ترابط المعاني بين أجزائها، فألح جماعة من السامعين المعجبين على الأستاذ أن يكتب ما علق بذاكرته من ألفاظها، ويضيف إليها بقلمه ما يربط بين معانيها حرصاً على تخليدها في خطب الاحتفال، فحقق رغبتهم بكتابة ما يراه القارئ منشوراً بعد هذا، وكانت خطبة رائعة مانعة معبرة نقتطف منها الآتي:
إن يومكم الذي نتحدث عنه هو اليوم الأغرّ المحجل في تاريخ الجزائر الحديث ولا أبعد إذا قلت إنه اليوم الأغرّ في قرون من تاريخ الإسلام.
هذا هو اليوم الذي يجب أن نؤرّخ له في الطور الجديد من أطوار نهضتنا العلمية الدينية، ونؤرخ به لمبدأ ازدهارها وإثمارها ونموّها وإبدارها.
هذا هو اليوم الذي التفت فيه الأمة حول دينها ولغتها فأثبتت أنها أمة مسلمة عربية يأبى لها دينها أن تلين فيه للأعاجم وتأبى لها عربيتها أن تدين فيه للأعاجم.
إن الأمة الإسلامية التي يقرأ الناس أخبارها في التاريخ فيقرؤون المدهش المعجب، ويرى الناس اثارها في العلم والتشريع والأدب والحكمة فيرون الطراز العالي البارع، فيستوي المحب والمبغض في الاعتراف بأن أمة هذه أخبارها وهذه اثارها لهي الأمة حق الأمة: إن تلك الأمة ما كانت أمة بذلك المعنى وتلك الأوصاف إلا بالقران.
فالقران هو الذي ربّاها وأدّبها وزكى النفوس وصفّى القرائح وأذكى الفطن وجلّى المواهب وأرهف العزائم وهذب الأفكار وأعلى الهمم واستفزّ الشواعر واستثار القوى وصقل الملكات وقوّى الإرادات ومكّن للخير في النفوس وغرس الإيمان في الأفئدة وملأ القلوب بالرحمة وحفزّ الأيدي للعمل النافع والأرجل للسعي المثمر، ثم ساق هذه القوى على ما في الأرض من شر وباطل وفساد فطهرها منه تطهيراً وعمرها بالخير والحق والصلاح تعميراً.
فيا أيها المشفقون على العالم الإنساني أن يأكل بعضه بعضاً، الصحوة بالرجوع إلى الإسلام وكتابه يجد فيهما ظلال السلم وبرد الرحمة وعز القناعة وشرف التقوى ويتمتع من كل ذلك بنعمة السلام.
ويا أيها المسلمون أنتم أطباء هذه المعضلات ولكنكم جاهلون، وأنتم الحكم المرضي في هذه المشكلات ولكنكم غائبون، ولو كنتم حاضرين حضور سلفكم لمشاهد العالم ومنازعته العامة لوقفتم ـ كما وقفوا ـ بعقائدهم وسطاً بين التناهي والتقصير، وبزكاتهم المرضية حكماً بين الغني والفقير، وبرحمة الإسلام سداً بين الاجر والأجير، وإذاً لزرعتم في طول العالم وعرضه الخير والرحمة وكشفتم عن أقويائه وضعفائه كل كرب وغمّة، وإذاً لرفعتم عن العالم هذه الاصار والأغلال، وفزتم من بين حكمائه وعلمائه بتحقيق نقطة الإشكال.
إن العالم في عذاب وعندكم كنز الرحمة، وإن العالم في احتراب وعندكم منبع السلم، وإن العالم في غمّة من الشك، وعندكم مشرق اليقين، فهل يجمل بكم أن تعطلوه فلا تنتفعوا به ولا تنفعوا؟
طبقوا على أنفسكم جزئية واحدة من إصلاحاته كالزكاة، وأظهروا بها للعالم على صورتها العملية الكاملة وحقيقتها العملية، ثم قفوا بين الصفين لا كموقف عمرو بمصاحفه يوم صفين وأشربوا نفوسهم ما أشربت نفوسكم في معنى قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ *} ومن معنى قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ *}
وأنا الضمين لكم أنهما يتحاجزان ويتسامحان في طرفة عين، إن دينكم دين إصلاح وسبب إصلاح ومظهر إصلاح وكما أوجب عليكم الإصلاح بين المؤمنين مدح الإصلاح بين الناس.
أحبوا قرانكم تحبوا به، حققوه يتحقق وجودكم به، أفيضوا من أسراره على سرائركم، ومن ادابه على نفوسكم، ومن حكمه على عقولكم تكونوا به أطباء ويكن بكم دواء، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *}
هذه الآية هي دستور الإسلام العام وهذه الآية هي التي نواجه بها كل من رمانا بالتعصب أو بالظلم أو بالأنانية أو بالقسوة، وصدى هذه الآية هو الذي سمعه الناس مردداً في الجامع الأخضر خمساً وعشرين سنة اخرها أمس.
أيها الإخوان:
تكلم الخطباء والشعراء في المعنى الذي أقيمت لأجله الحفلة، وهو تكريم أخينا الأستاذ عبد الحميد بن باديس وتمجيد أعماله في خدمة الدين والعربية والعلم، وشغلتهم حقوق هذه الحفلة عن حقوق يوم أمس المشهود وأوشكنا أن نضيع واجبه وأن يمر فلا يتغنى بأوصافه لسان، ولعل الأقلام تجفوه تبعاً لذلك فلا يجري في وصفه قلم.
وقد توزعتني الخواطر حين قمت: أأسلك ما سلكه الخطباء والشعراء من تمجيد أخينا بما هو أهله؟ ولو أني جريت في هذا المضمار وأسلس لي الكلام قياده، كان في ذلك الوفاء لأخينا المبجل والجفاء ليومنا الأغر والمحجل، وإن أنا قمت بما يوجبه الوفاء ليوم القرآن قصرت في حق أخ اعتقد أن ما قاله الشعراء والخطباء في حقه قليل، وكيف تفي حفلة مثل هذه محدودة الساعات بتمجيد رجل طوّقت هذا الوطن مننه، فإن قمت ببعض ما يجب للقرآن وليوم القرآن فحسبي في التنويه بأعمال أخي الأستاذ أن هذا اليوم بعض حسناته.
وعندما توفي الشيخ محمد رشيد رضا ولم يستطع أن يكمل التفسير، ووصل لسورة يوسف، وطبع الجزء الثاني عشر ثم حل الأجل، فأوجد فجوة واسعة في تاريخ الإسلام وثغرة كبيرة في التفسير الأمثل الذي يعتبر شارحاً لدستور الإسلام وهادياً للأنام في جميع المجالات الدينية والدنيوية، فالتقى الشيخان إثر الوفاة بأسبوع، وتحادث ابن باديس والإبراهيمي على ربوة من جبل تلمسان في إحدى زيارات أولهما للثاني، وكانا في حالة حزن عميق لفقد السيد رشيد رضا وتبادلا مشاعر الأسى والأسف لانقطاع التفسير بموت رشيد رضا صاحب القدح المعلى، فقال العلامة الإبراهيمي لزميله وصديقه ابن باديس: ليس لإكمال التفسير إلا أنت. وبادله ابن باديس شعوراً بشعور وتقديراً بتقدير، وهما فرسا رهان وبطلا الميدان، وقال الإبراهيمي: حتى لا يكون لي علم رشيد ومكتبة رشيد ومكاتب القاهرة المفتوحة في وجه رشيد؟ فقال ابن باديس: إنا لو تعاونا وتفرغنا للعمل لأخرجنا للأمة تفسيراً يغطي على التفاسير من غير احتياج إلى ما ذكرت.
وهكذا عرف هذان العملاقان كل منهما للاخر مقامه ومكانته، وهذا هو شأن العلماء الذين تفخر بهم الأزمان وتقل الفرص لوجود أمثالهما في علمهما وعملهما وتواضعهما، لقد تجدد الأمل في أن يتعاونا على كتابة التفسير الكامل، ولكن العوارض باعدت بين الأمل والعمل ثم حل الأجل.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)