الفتوى ومنهجها عند الشيخ الإمام عطية مسعودي (1900-1989م)

بقلم: د. مصطفى داودي-

إن المتأمّل في معرفة أسرار الله في عباده، وسننه التي أرادها قوانينا ذات حكمة تسيّر العباد في مختلف حياتهم -سواء كانت مع النفس من منطلق الحرية الذاتية أو مع المجتمع من منطلق تكاتفه وذوبان الحرية الفردية في إطاره العام -، يتيقن بأن الله لم يخلق الكون بما حوى عبثاً، ولم يترك الناس في هذه الأرض سدى و همّلا لا رقيب و لا حسيب، وإنما خلق الكل لغاية وحكمة، و ما سننه التي نراها في كل شيء إلاّ دلالة على دقة النشأة و جلل الغاية مصداقا لقوله تعالى:

﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)﴾[ سورة فصلت ].

وكان من تمام السنن أن ضبط الله للخلق ما يضمن سير الحياة لأنه هو الأدرى بما به يهتدي الخلق وبما به يحيدون وبما به ينتفع الخلق وبما به ينسفلون فسنّ لأجل ذلك لهم  قواعدا و أظهر لهم أحكاما وبيّن لهم نظما ، وفي ذلك قال :" شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدّين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب" سورة الشورى الآية( 13).، وإن خاتمة تشريع الله للخلق جوهره تلك الأحكام التي سنّها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سواء كانت اعتقادية بما تعلق بالله من ذات وصفات وبالإيمان به وبالنبوات من كتب ورسل  وبالسمعيات فيما تعلق بالملائكة والجن وباليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب - أو تهذيبية أخلاقية - بما تعلق ببيان الفضائل التي ينبغي أن يتحلى بها الخلق في هذه الحياة حتى تتحقق لهم الطمأنينة والاستقامة فردا وجماعة سواء تعلق ذلك باكتساب الفضائل من صدق ووفاء وأمانة وصبر، أو بترك الرذائل من كذب وغدر وخيانة أو عملية بما تعلق بأعمال العباد و أفعالهم مثل الصلاة والزكاة و الحج والصوم وحرمة الزنا و الربا وحل البيع والهبة وغيرها من الأحكام العملية .

وأن الشريعة الإسلامية في كل ما ذكرناه من أحكام لم تشذ عن الشرائع السماوية التي سبقتها لأن مصدرها واحد وهو القائل في محكم تنزيله: " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاّ نوحي إليه أنه لا إله إلاّ أنا فاعبدون " سورة الأنبياء الآية ( 25).

وقوله : " إناّ أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " سورة النساء الآية (162) ، وما اختلفت شريعة الإسلام على من قبلها إلاّ من حيث الأحكام العملية لأن الله لا يشرّع لقوم إلاّ ما يناسبهم عقلا وزمانا ومكانا وما يستوفي حاجتهم بناء على معرفة الله لخلقه ، ومن عجائب الله أن جعل هذه الشريعة مرنة تتصف بالشمول و التكامل وتستوفي حاجة الخلق في كل زمان ومكان و سر ذلك أن الله جعلها ختام رسائله للخلق وقد بين ذلك في قوله : " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون " سورة الزمر الآية (27).

وقال أيضا : " ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة و بشرى للمسلمين " سورة النحل الآية (89). .

لكن فقه هذه الأحكام لا يتأتى لكل البشر لذلك رغّب الله طائفة من الخلق ليتحملوا عبأ إيصال فهم هذه الأحكام لبقية عباده وفي ذلك قال عز وجل :" فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " ــ سورة التوبة الآية(122) ، لذلك فإن إفتاء الخلق بأحكامه جعل الله له ضوابط لا تتأتى لكل الخلق و جعلها تحظي باهتمام بالغ وعناية كبرى في الإسلام لا يجرأ عليها إلاّ من تبيّن له بجلاء حكم الله فيها لذلك شدد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بيّن ذلك في الحديث الذي رواه الإمام الدارمي رحمه الله في سننه (1/69) حيث قال: أخبرنا إبراهيم بن موسى، حدثنا أبي، حدثنا ابن المبارك ، عن سعيد بن أبى أيوب ، عن عبيد الله بن أبى جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أجرأكم على الفتوى أجرأكم على النار" وذلك لأن المفتى هو أمام أمر جلل يبين فيه حكم الله لعباده وأي خلل في تبيان هذا الحكم هو إحداث خلل في سنن الله التي أرادها لخلقه لدرجة أن أهل العلم وصفوا المفتي بالموقّع عن الله ، فمن يجرأ على التوقيع عن الله دون تفويض منه، وتفويضه هنا هو اكتسابه لخصائص المفتي التي أرادها الله له، لذلك اهتم الصحابة والتابعين بالفتوى عناية كبرى لدرجة أنه كان الواحد منهم يدفعها للآخر خوفا من تحمل عبأها والتقصير في حقها وفي ذلك قال عبد الله بن المبارك : حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يسأل أحدهم عن المسالة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول"، وأنه لا يستفتى أحدهم في مسألة إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه عكس ما يحدث اليوم في هذا الزمان من الجرأة على الفتوى من غير علم و أهلية لها ولا حتى أدنى ورع أو خوف رادع  يكفّهم عنها وفي هؤلاء قال الإمام الشافعي رحمة الله عليه : " وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب من السلامة له إن شاء الله " وكان حري بهؤلاء أن يعرفوا جلاء ما يفتون به  بمعرفة رؤى علماء الأمة للفتوى فهذا الإمام مالك رحمة الله عليه  لمّا سئل عن مسألة فقـال: لا أدري، فقيل له: يا إمام هي مسألة خفيفة سهلة. فغضب. وقال ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعتم قول الله تعالى:  " إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا " ، وقد يجيب بعد تفكير بلا أدري فذكر أنه سئل عن ثمان و أربعين مسألة فأجاب عن اثنتين وثلاثين منها بقوله :(لا أدري) .

وجاء رجل من سفر بعيد إلى مالك ، وقال له جئتك من مسيرة ستة أشهر حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها ، قال مالك  : فسل ، فسأله عن مسألة لا يدريها الإمام مالك ، فقال له مالك : ( لا أدري) ، فدهش الرجل لأنه كان يضن بأنه جاء إلى من يعلم كل شيئ في الدين ، فقال له : ( أي شيئ أقوله لأهل بلدي إذا رجعت إليهم ، فقال له الإمام مالك : قل لهم قال لي مالك بن أنس : ( لا أدري) .

وجاءه آخر فسأله عن مسألة ، فقال له مالك : ( لا أدري ) ، فقال الرجل متعجبا : أأذكر عنك بأنك لا تدري ؟ فقال مالك : (نعم أحكي عني أنني لا أدري) .

بل ثبّت الإمام مالك هذه المسألة فقال : ( ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول : لا أدري ، حتى يكون ذلك أصلا في أيديهم يفزعون إليه ، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري ، قال : لا أدري ) ، وهذا الشعبي والحسن وأبي حصين قالوا: " إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لجمع لها أهل بدر".

وكان الإمام عطية مسعودي من أولئك الذين أدركوا معنى الفتوى و أنها ابتلاء وتكليف وليست مكانة وتشريف  وهي عند الله عظيمة في الجزاء و العقاب لذلك كان يتحرى فيها مراقبة الله له و أمانة الخلق فيه وأنه تجرأ على الفتوى انطلاقا من واجبه الشرعي الذي سيسأله الله عنه إذا لم يؤدي حقه مصداقا لقوله تعالى: " و إذا أخذنا ميثاق الله للذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتومونه "، وأوعد من كتم علما بقوله : " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات و الهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب ، أولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاّعنون". 

وجاء في الحديث الذي رواه ابن ماجه والترمذي وحسنه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سئل عن علم فكتمه وهو يعلمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة " ، فكان يعتبر رحمة الله عليه أداء الفتوى هو خوف من ذلك الوعيد و أنه كان يقول : " أجيب السائلين بما أعلمه مع شدة التحري في أن لا أخرج عن حدود المفتي الذي هو الإخبار بالحكم الشرعي من غير إلزام  ، وإنني أشفق على نفسي من أن أدخل فيما يغضب ربي ، أو يوجب عليّ لوما ، وإنني فيها مكره أخاك لا بطل "

شروط الإفتاء ومكانة الشيخ عطية مسعودي منها :

اشترط أهل الحل والعقد في من اعتلى درجة الإفتاء شروطا ينبغي أن تميزه، وهي شروط وجوب كالإسلام و العقل و البلوغ و العدالة وشروط صحة وفيها أكّد العلماء بأنه لا بد للمفتي الذي يقوم مقام النبي صلى الله عليه و سلم في تبليغ الأحكام و التوقيع عن الله تعالى  أن يكون على قدر كبير من العلم بالإسلام و الخصوص هنا لكتاب الله تعالى و سنة رسوله عليـه الصلاة و السلام ، و أن يحيــط بأدلـة الأحكام و الدرايـة بعلوم العربيـة.

و العلم بأصول الفقه  - وهي مجموع القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية - ومسائل الإجماع و مآلات الأفعال ، كما على المفتي أن يكون على ثقافة و معرفة بعلوم وواقع العصر الذي يعيش فيه. 

يقول الشيخ يوسف القرضاوي: "إن من الناس من يجازف بالفتوى في أمور المعاملات الحديثة، مثل التأمين بأنواعه، و أعمال البنوك، والأسهم والسندات، وأصناف الشركات، فيحرم أو يحلل دون أن يحيط بهذه الأشياء خبرا، ويدرسها جيدا. ومهما يكن علمه بالنصوص، و معرفته بالأدلة، فإن هذا لا يغني، ما لم يؤيد ذلك بمعرفة الواقع المسؤول عنه، وفهمه على حقيقته"  وقد قيل:

تعلم من كل علــــم تبلغ الأمل   *    ولا يكن لك علـــم واحد شغـل

فالنحل لما رعت من كل نابتـــة    *    أعطت لنا جوهرين الشمع والعسل

فالشمـع نـور يستضاء به   *   والعسل يشفي بإذن ربه العـلل

والقارئ لسيرة الشيخ الإمام عطية مسعودي يجد بأنه بالإضافة إلى تميزه بشروط الوجوب من إسلام وعقل و بلوغ وعدالة فإنه كان  على قدر كبير من العلم بكتاب الله وما يتضمنه من آيات الأحكام و العلم بالناسخ و المنسوخ  و المحكم و المجمل و المؤول و المفسر ، و بسنة رسوله عليه الصلاة و السلام من خلال معرفة أحاديث الأحكام منها ، خصوصا و أنه منذ حفظه للقرآن الكريم وهو صغير أنكبّ على حفظ المتون الفقهية ودراسة أصول الدين من تفسير للقرآن الكريم وعلم الحديث النبوي الشريف وسيرته عليه الصلاة و السلام ، كما كان يمتلك أدوات الاجتهاد من علة وقياس ومعرفة لمسائل إجماع العلماء و الخلاف بينهم وكل ذلك شكل له مدارك للأحكام وطرائق للاستنباط .

وفي ذلك قال الشيخ عطية مسعودي  :

و الأصل في الشرع كتاب الله    *   مقدّما وسنة الأواه

إجماع أهـل العلم والقياس   *   بها لكل مهتد نبراس

ومما يدلل على تمكنه من مسائل الإجماع والخلاف عند العلماء قوله عن حكم المصافحة والمعانقة والقيام:

جرى الخلاف صاح في المعانقة    *    فمن مجيز و الحديث عانقــــه

ومـالك بذا الحديث لم يقــــــل     *    حيث رآه لم يصاحبـــــه عمـل

أما المصافحة فهي سنة     *     مما ارتضاه المصطفى وسنّه

وفي القيـام مع تقبيل اليد     *     أتى خلاف العلماء فاقتد

نص عليه صاحب الرسالــــــة     *     وصاحب المدخل أيضــــــا قاله

وبالقيام قال قــــــد جرى العمل     *    زروق وهــو شيخ علم وعمل

وقاله الأبي وابن ناجي       *     والعـز من أضاء كالسـراج

بل قال ذا الأخير لا يستبعد      *      حكــم الوجـوب فيه بل يعتمد

وقال بعض العلمـاء يندب      *      لأنه للإتــلاف أقرب

هذا إذا لم يكن شيخا أو أبــا      *      أو عالما أو حاكما محببا        

وكل ذلك يبين ثقافته الواسعة بمقاصد الشرع، وأن تلك المقاصد بالأساس هي تتمحور حولها فتاويه بكل ما يستعمل من أدوات كالقياس والاستصلاح والاستحسان ونحوها، كما كان على علم بوسائل الفتوى حينما يعلل الأحكام بالمصالح والمفاسد ويرتكز على قاعدة رفع الحرج، والهدف من كل ذلك عدم وضع المستفتي في ضيق وحرج، مصداقا لقوله تعالى: " ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج" ـ سورة المائدة ، الآية (06)

إضافة إلى كل ذلك فقد كانت له ثقافة بفقه الواقع لأن سلامة الفتوى تتوقف على ملاءمتها لروح العصر وتقدير الظروف البيئية و الأعراف السائدة - لأن للعرف في الفتوى مكان، فكان أهل الفتوى يسألون المستفتي من أي البلد أنت - والتثقف بعلوم العصر لأنها قوة وزيادة برهان في صحة الفتوى ومن تلك العلوم الاقتصاد و الطب و الفلك وغيرها... وكل ذلك كان داعما للشيخ في الكثير من الفتاوي التي سندرجها لاحقا.

ومن ملكاته التي ساعدته في الفتوى سرعة نباهة عقله وسلامة منطقه فقد حكي أنه وهو في طريقه أثناء رحلته العلمية إلى بلاد القبائل و في احد الأسواق صادف راهبا يوزع كتب الإنجيل على الناس وهم ملتفون حوله ومنبهرون بما كان يقول لهم من أن عيسى بن مريم حي، ومحمد بن عبد الله ميّت، والحي أفضل من الميت و أحق بالإتباع ، فعيسى إذن أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم حسب زعمه، فقال له الشيخ بنباهة عقل وسلامة منطق : هل والدتك حية ؟ فأجابه الراهب:أجل أيها الشاب، فقال له الشيخ على الفور: إذن فأمك أفضل من السيدة مريم -عليها السلام- مادام الحي أفضل من الميت عندك، فلم يجد الراهب جوابا فانصرف خائبا مخذولا.

كما كان من أعظم أدوات الفتوى التي تمرّس منها الشيخ هو تمكنه بدرجة عالية من قواعد اللغة العربية و آدابها و فنونها، وبرع فيها حتى أصبح يعلم الحقيقة و المجاز و الأمر و النهي و المجمل و المبين و الخاص و العام و المطلق و المفيد و الاستثناء ، ويذكر أنه لما عاد إلى الزاوية الجلالية بعد رحلته العلمية التي دامت سبع سنوات ـــ والتي انتقل فيها إلى بلاد القبائل و البليدة و الجزائر العاصمة أين كان يحضر دروس التفسير و علم البيان لمفتي الجزائر الشيخ عبد الحليم بن سماية ـــ كان يتداول الدروس الفقهية و النحوية و البلاغية مع كل من الشيخين نعيم النعيمي و ابو زيان الرحالة من بلدة ( فرندة)، وقد نشأ بينه وبين هذا الأخير خلاف في المسائل النحوية مما جعلهما يتحاكمان فيها للشيخ مبارك الميلي والذي كان حكمه بصواب آراء الشيخ عطية مسعودي وأجازه بتعليم اللغة العربية ، و لقبه بالأديب الفاضل .

    وقد اشتهر في التأليف ونظم القصيد ومن منظوماته الرائعة ما سماها المزدوجة و التي نظمها سنة 1930 ويقول في بعض أبياتها :

  حمدا لمن علمنــا    *   وبالهدى أكرمنـــــــا

  وأوسع الوجـــــودا    *   تكرمـــــــا وجـــــودا

وخــــــار مصطفـــاه   *  مـــــن خلقه اصطفاه

خير الورى الآحيــــد   *  محمد الــوحــــيـــــد

وهــذه عقـــيــــــدة   *   مليـــحـــة مــفيـــدة

سميتها(المزدوجة)   *  لمـن قرأها مبهجة

فإنمـا النفيس   *  يعرفه النفـيس

و الــــــدر لا يشريـــــه  *  إلا الــــذي يــــــــدريه

يا أيهـــــــــــا الأديــــــب   *  الفاضـــــل الأريب

انصب تصب مناكا   *  لا تستطل عناكـــــــا

وحصّـــــــل العقائـــــــدا  *  تصـــــيـــــر حبرا قائدا

فجانب المنــــــــاهي  *    وبـــــاعد الملاهي

واخش الإلــــــه غيبا   *    واســـتر أخاك عيبا

وابعد- نلت المرامــــــا-  *   عن بطنــــك الحراما

والفرج منك أحصــنه  *  والسمــع ياذا صنه

و النطق منك أحسنه  * بذكــــــــر الله زنـــه

وإن عصيت ربكا   * فاسألــه يمح ذنبكا

   واقلـــــع ولازم النــدم  *  وارســل دموع العين دم

ومن جماليات براعته في اللغة نظمه في إعراب ( لا إله إلاّ الله محمد رسول الله)

والتي يقول فيها :

  لكلمة الإسلام خذ إعرابـا   *   منظما يدني لك الصوابا

   فحرف لا نافيــة للجنس   *    إله إسمها فخذ يا أنســي

       نصب محله على الفتح بني   *  وحرف الاستثناء إلاّ فاعتن

         وأبدل الله ورفعــه اشتهــــر    *  من الضمير المستكن في الخبر

      أو أبدلنـــــه من محل لامع اس   * ــمها في قول سبويه فاقتبس

         ولا يصح رفعه على الخبر     *    فما للا في المعرفات من أثر

      و إن تشا فانصب على الاستثنا   * لا البدلية من اسم لا اهنا

     محمد مبتــدأ رســـول     *     خبـره لنـا وصـول

   وذا مضاف و المضاف إليه    *   اسم الجلالة اعتمد عليه

     وجملة الكلمة لا محلا    *   لها من الإعراب نلت الفضلا

أنواع الفتوى عند الشيخ عطية مسعودي:

لقد عرف الشيخ رحمة الله عليه بنشاطه التعليمي وتوجيهه التربوي، وتحمله لعبء إشكالات مجتمعه من إصلاح ذات البين وقيامه بمهمة الفتوى، حيث أسندت له قيادة جيش التحرير بالمنطقة مسؤولية الإفتاء والقضاء بين الناس أثناء الثورة التحريرية المباركة، واستمر في القضاء إلى غاية استقلال الجزائر في 05 جويلية 1962 ليكتفي بعده بالإمامة و الفتوى، وقد تميّزت الفتوى عند الشيخ بثلاثة أنواع: عامة و خاصة، وفتوي عبر المراسلة.

1 ـ الفتوى العامة:

ويقصد بها ما كان يفتي به في مجالسه العلمية مع الطلبة، و في حلق الدرس في المسجد مع عامة الناس و في مختلف المناسبات التي كان يلتقى فيها الشيخ مع عامة المجتمع، حيث كان يجيب سائليه عما استعصي لهم فهمه من أمور الدين، وما حلّ بهم من نوازل ووقائع استدعت أخذ رأي الفقهاء، وميزة هذه الفتاوى أنها تتسم بالعموم أنها تهم غالب المجتمع.

2ــ الفتوى الخاصة:

ويقصد بها هنا تلك الفتاوى التي جاءت بناء على النوازل والمسائل التي تحل بأفراد المجتمع أو أسره، فيأتيه أهلها فرادى للاستفسار عن الحكم الشرعي ورأي الدين فيها، وعادة ما تكون هذه الفتاوي في بيته حيث كان مقصدا لذوي السؤال، وميزة هذه الفتاوى أنها تتميز بالخصوصية باعتبار أنها تخص فرد أو أسرة دون عموم المجتمع.

3 ـــ الفتوى بالمراسلة :

وهو نوع أملته ظروف الواقع، وكان يتم عادة إما بين الشيخ وطلبته الذين درسوا عنده حيث كانوا يراسلونه من أجل أن يفتيهم في مسائل قد تستجد عندهم أو مواضيع استعصت عليهم، ومن هؤلاء نجد تلميذه "عيسى درماش" من عين وسارة و "محمد الزاوي" من المدية، وإما بينه وبين قرنائه من المشايخ ولذات الغرض كانت تتم بينه وبينهم مراسلات حول المسائل الفقهية ومن هؤلاء الشيخ  "لخضر بن خليف" من (فيض البطمة)، والشيخ الطاهر بلعبيدي من (تقرت) والذي كان يفضل القبض في الصلاة، ودليله أن الإمام مالك أورد في الموطأ حديثا لرسول الله عليه الصلاة و السلام جاء فيه : " إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا بِثَلاثٍ : بِتَعْجِيلِ الْفِطْرِ ، وَتَأْخِيرِ السَّحُورِ ، وَوَضْعِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلاةِ"، لذلك جرى بينه وبين الشيخ نقاش حول هذه المسألة، ومعروف أن الشيخ كان من الذين يفضّلون السدل وأنه كان يعتمد على مذهب الإمام مالك في هذه المسألة على الفعل لأن الإمام مالك كان يسدل رغم ذكره للحديث، وأنه اعتد بفعل الفقهاء السبعة ودليل الإمام مالك هو فعل الصحابة لأن الفعل أبلغ من القول رغم عدم نكرانه للقبض لأن كلاهما ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولمّا تحصل الشيخ الطاهر بلعبيدي على كتاب لأحد علماء شنقيط الذي كان مفتيا للمالكية بالمدينة بالمنورة عنوانه ( القول الفصل في تأييد مذهب أهل السدل) وكتب له فيه " سأعطيك سلاحا تحاربني به". 

منهجه في الفتوى :

لقد تميزت فتاوى الشيخ "عطية مسعودي" بمعالجة القضايا والمشكلات التي كانت تحدث للناس، ويحتاجون إلى حكم الشرع فيها بما يتماشى مع روح العصر، كما لم تكن فتاواه مجرد جواب عابر عن سؤال طارئ بل كانت فيها رسائل التثقيف والتوعية والتوجيه.

وقد عرف الشيخ بأجوبته المقنعة التي تقارع الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، ولم يكن مجرد ناقلا لفتوى غيره ومؤديا لما تلقاه، وإنما كان لبيب عارف، يسهم بما ناله من علم وما اكتسبه من رجاحة عقل في اجتهاده في استخراج الأدلة الشرعية من أجل مقارعة نوازل العصر، ورغم أن فتاواه كانت تراعي بالمجمل المذهب المالكي باعتباره قاعدة تكوينه الفقهي ومرتكزه في الفتوى، إلاّ أن ذلك لم يحده في بعض الأحيان لأن يخرج في فتاويه عن مذهبه إذا اقتضت الضرورة والمصلحة.

وينبغي أن ندرك بأن الفتوى عند الشيخ عطية مسعودي -مثلما أشرنا- لم تكن مجرد أجوبة عابرة بل كانت مؤسسة على مرتكزات أساسية بني عليها الفقه برمته، وهي ما تعارف عليها بأصول الفقه، والتي عرفها الفقهاء بأنها تلك المصادر التي يستنبط منها الأحكام، وهي القرآن و السنة و الإجماع و القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و العمل بأهل المدينة و الأخذ بأقوال الصحابة، كل هذه المصادر كانت مدار رحى الفتوى عند الشيخ عطية مسعودي، بمعنى أن فتاويه كانت مبنية على منهج متدرج تتحكم فيه مصادر التشريع الإسلامي درجة درجة، حيث كان أول منطلقه في الفتوى القرآن الكريم، ومن نماذج ذلك :

1 ــ سُئل عن المحرمات من النساء فأجاب بأن المحرم ثلاثة أقسام محرم بالنسب ومحرم بالرضاع ومحرم بالمصاهرة، وقد ذكرت في قوله تعالى: " وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ " إلى قوله تعالى : " وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ"  

2 ــ وسئل عن زوجة مرضت فهل يلزم الدواء زوجها أم لا؟ فأجاب بأن دواء الزوجة المريضة لا يلزم الزوج وإنما يكون من مالها إن كان لها مال، اللهم الاّ أن يتطوع الزوج أو أحد الأقارب فهو من الإحسان الذي حث عليه القرآن بقوله: " وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ "، وقوله: " وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"

3 ــ وسئل عن رجل طلّق زوجته ثلاث طلقات متفرقات فهل له إلى ردّ زوجته من سبيل؟ فأجاب: إذا طلّق الرجل زوجته مرة فله أن يردها ، فإذا طلقها الثانية فله أيضا أن يردها ويرجعها، فإذا طلّقها الثالثة فلا يحل له مراجعتها بحال من الأحوال، و الأصل في ذلك قوله تعالى : "الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ " ثم قال : " فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ".

4 ــ  وسأل ذات مرة : ما قولكم يا شيخ في تحديد النسل ؟ فقال: أنا ليس لي قول، إنه قول هذا الكتاب وكان يحمل نسخة من القرآن الكريم، لقد قال في صريح الآية " يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ"، هذه مشيئة الله وغير هذا هو تحد لهذه المشيئة، فاختاروا لأنفسكم ما يحلو ...

وكان إذا لم يجد دليلا من كتاب الله بحث عنه في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن نماذج ذلك:

1 ــ حينما سئل: هل تنفي المعصية الإيمان عن صاحبها حال تلبسه بها ؟ وما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يزني الزاني وهو مؤمن ..." ، فأجاب : قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" حمله شارح الحديث على أنه لنفي الكمال أي لا يزني وهو كامل الإيمان، نحو لا علم إلاّ بما نفع أو نفي نوره، وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من زنى نزع الله نور الإيمان من قلبه فإن شاء ردّه إليه رده".

2 ــ وسئل عن النصب التذكارية الموضوعة عند القبور هل لها أصل في الشرع ؟ فأجاب:

لعلّ الأصل في ذلك هو ما فعله النبي عليه الصلاة و السلام من وضعه على قبر عثمان بن مظعون رضي الله عنه حجرا ، قائلا : أعلّم به قبر أخي و أدفن إليه من مات من أهلي، فبناء على ذلك أجيز وضع حجر أو خشب عند رأس الميت، و أما وضع حجرين للذكر وثلاثة للأنثى فإنما هو للفرق بين الشخصين.

3 ــ وسئل عن مقطوعة الرأس بنحو عصا هل تؤكل أم هي ميتة ؟ فقال : مقطوعة الرأس بنحو عصا وقيذة ميتة لما في صحيح مسلم عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول النبي عليه الصلاة و السلام على صيد المعراض فقال : " مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْهُ ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَهُوَ وَقِيذٌ".

وكان إذا لم يجد الدليل في كتاب الله وسنة رسوله بحث عنه في مصادر الاستنباط الأخرى من أصول الفقه فكان إما يدلل بقول الصحابة، أو إجماع العلماء .

وما يلفت الانتباه أن الشيخ لم يكن أسير المذهب المالكي فقط في فتاويه، فكان في بعض الأحيان ورفعا للحرج و إيجادا للرخص بقصد التيسير على الناس يُفتي بما جاء في المذاهب الأخرى ومن ذلك مسألة (تحليل المبتوتة) والقصد هنا المرأة المطلقة ثلاث في عبارة واحدة، ورغم أن الشيخ كان متشددا في هذه المسألة، إلاّ أنه تيسيرا لرجل استفتاه وله أولاد، فرخص له انطلاقا من فتوى ابن تيمية في المسألة والتي يجيز فيها إرجاع المطلقة ثلاث في عبارة واحدة.

كما أفتى بما ذهب إليه الشافعية في مسألة (ذكر الله جهرا) فأجاب بقول الإمام السيوطي حينما قال بعد ما أورد الأحاديث الدالة على استحباب الجهر بالذكر : إذا تأملت ما أوردنا من الأحاديث عرفت من مجموعها أنه لا كراهة البتة في الجهر بالذكر بل فيه ما يدل على استحبابه إما صريحا أو التزاما.

ومن جماليات ملكات الشيخ، نباهة العقل وسلامة المنطق، وهو ما جعله يتميز في الكثير من الفتاوى بصياغة الحجج والأدلة انطلاقا من استخدام العقل وحسن توظيف وسائل العصر ونتائج علومه ومن نماذج ذلك:

1ــ أنه سئل عن بلوغ الصدقة للميت فقال الشيخ للسائل: لو أننا أعطيناك رسالة لتضعها في البريد  فهل تفعل ؟ فأجابه سأفعل ذلك، فقال له الشيخ: أنت متأكد من أنك لن تهمله في أثناء الطريق ، فقال له بالتأكيد ؟ ، فقال له على الفور: عندما نحمّل الله صدقة ليبلغها لفلان فهل نشك في أنه لا يفعل، فكذلك الصدقة للأموات ، فقد جاء رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم و قال له يا رسول الله أبويّا ماتا و أنا صغير فهل لي أن أبرهما ، فقال له عليه الصلاة و السلام : " زر قبرهما وتصدق عليهما تكتب بارا عند الله".

2 ـ وفي موقف آخر لمّا سئل لماذا لم يُقيّض لنا الله خليفة مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى في عدله وإخلاصه وتقواه، فقال الشيخ: نحن لسنا الصحابة، ولهذا فالذي يحكمنا ليس عمر بن الخطاب .

3 - وفي أحد الأيام جاءه أحد المهندسين الكهربائيين وقال له وهو في غاية الاستغراب كيف يمكن لملك الموت أن يقبض أرواحا متعددة في أماكن متفرقة متباعدة في لحظة واحدة؟ فأجابه الشيخ في الحال: عندما يريد العامل في مركز توزيع الكهرباء أن يطفئ النور على عدة مناطق من المدينة وفي لحظة واحدة هل يستطيع ذلك؟ فقال المهندس : باستطاعته أن يفعل ذلك، فقال الشيخ رحمه الله ، لم تستغرب فعل المخلوق، فكيف تستغرب من الخالق تعالت قدرته، أن يأمر بقبض الأرواح في شتى أنحاء العالم،  فاقتنع الرجل بمثل هذا المثال الحي.

4- وقال له أحد المسؤولين : لماذا نرسل إليك ولا تأتينا؟ فقال له الشيخ على الفور، لقد رأيت من هو أعظم مني ومنكم يرسل إليكم خمس مرات في اليوم ولا تأتونه، فلماذا تطلبون مني الإتيان إليكم؟ أتريدني أن أكون من شرار العلماء ؟ حيث قال الحسن البصري رضي الله عنه ، شرار العلماء الواقفون عند باب الأمراء، وخيار الأمراء الواقفون بباب العلماء.

5- وسئّل عن الربا هل هو حرام ؟ فقال لسائله بغضب وانفعال، تضعون الجمر في أيديكم وتسألونني إن كان يحرق أم لا ؟ إنكم تسخرون مني بطرح هذا السؤال.

6- وبعد الاستقلال جاءه ثلاثة رهبان مسيحيين وطلبوا منه أن يتحاوروا في أمور الدين، فلم يعارض المرحوم وإنما قال لهم : آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ، فقال أحدهم هل يعارض الله تعالى ما قاله بالأمس بما قاله اليوم ؟ فقال الشيخ : كلام الله صادق لا يتعارض ولا يتناقض وإنما قوله الحق المبين، فقال أحد الرهبان : ولكن مادام قد بعث عيسى عليه السلام ، فلماذا يبعث بعده بغيره ؟ فرد الشيخ ببداهته المعهودة : من هو رئيس الدائرة الحالي ؟ فقالوا له اسمه فلان فقال لهم من هو رئيس الدائرة السابق فذكروا له اسمه فقال لهم : إذا أرسل لنا كل من الرئيس السابق والحالي فلأمر أيهما نستجيب ؟ فقالوا: لرئيس الدائرة الحالي، فقال هكذا تكونون قد أجبتم أنفسكم ، ففهموا مقصده واستأذنوا بالانصراف.

7 ــ وفي حادثة أخرى، اعترض أحدهم في أن يكون الموتى يحسّون بنا ولا نحسّ بهم، فقال له الشيخ لقد أعطاكم الله مثالا من الواقع ومن صنع الإنسان ، فالتلفزيون نحن كلنا في بيوتنا نشاهد المذيع  ولكنه لا يشاهد أحدا منا.

وينبغي الإشارة بأن الشيخ لم يعتلى منبر الفتوى لحب ظهور أو لطلب جاه، أو ليقال أنه عالم فيشار إليه بالبنان، ولكن كان منطلقه في كل ذلك هو واجبه الشرعي الذي سيسأله الله عنه إذا لم يؤدي حقه مصداقا لقوله تعالى : "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" سورة البقرة الآية (158).

وقد بين ذلك في كتابه لأحد قضاة المحكمة، حينما حذّره من الإفتاء لأنه في نظره يسبب للمحكمة ارتباكا في أعمالها ، فأجابه بما نصّه :

(الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على رسول الله وآله وبعد : سلام الاحترام و التحية و التعظيم و الإكرام لجناب الأستاذ قاضي المحكمة و أعوانه وفّقهم الله وسدد خطاهم وأجزى على النهج القويم مسعاهم، فإنكم تعلمون ما ابتلاني الله به من معرفة مسائل الدين وواجب عليّا تبيينها للناس بمقتضى قوله سبحانه وتعالى : " وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ" سورة آل عمران الآية(187) وأوعد من كتم علما بقوله : "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" سورة البقرة الآية (158).  وقول النبي صلى الله عليه وسلم:" مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ ، أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ"  فخوفا من هذا الوعيد كنت أجيب السائلين بما أعلمه مع شدة التحري في أن لا أخرج عن حدود المفتي الذي هو الإخبار بالحكم الشرعي من غير إلزام، و أخيرا بلغنا أنكم مستاءون من إفتائي للناس فإن كان لضنكم أني متدخل في ما ليس من وظيفة المفتي مما يختص بالمحكمة فهو ضن غير مصيب، بل كثيرا ما كنت أحيل مسائل النزاع على المحكمة بشهادة كثير ممن يستفتونني واسألوهم إن شئتم يا إخواني. أنا أشفق على نفسي من أن أدخل فيما يغضب ربي ، أو يوجب عليّ لوما، ولست و الحمد لله ممن لا يعرف قدره أو يتعدى طوره، ومع ذلك فلو صدر إلي ّ منكم أمر بالمنع من الإفتاء لتلقيت ذلك الأمر بصدر رحب، و أرحت نفسي لأني كما قيل : " مكره أخاك لا بطل " والسلام).

كما ينبغي أن ندرك بأن إطّلاعه الواسع  وفهمه الملفت للمسائل الفقهية وتنوّع مصادر معرفته بالعلوم الإسلامية مكّنته من أن يتبوأ مكانة مرموقة بين أقرنائه من المشايخ، وسمحت له في النهاية بأن يعالج قضايا الناس ومشاكلهم بروح المتمرّس المجتهد الذي يعرف متى تؤتى عزائم الله ومتى تؤتى رخصه، وهو لا يفعل ذلك محاباة لصاحب سطوة أو تقربا لذوي سلطة وجاه، ولكنه يفعل ذلك عملا بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ".

من كل ما سبق، يتبين لنا بأن شيخ الجلفة الإمام "عطية مسعودي" الذي قال في حقه الشيخ محمد متولي الشعراوي عليه رحمة الله ، لما سمعه عن الشيخ من اتساع علمه و بداهة عقله في الفتوى : ( ليتني كنت فيها جذعا)، واستشهد بمسائله الشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله ، في محاضراته بالجامعة الإسلامية ( الأمير عبد القادر بقسنطينة ). قلت كان الشيخ الإمام (عطية مسعودي) عليه رحمة الله  يدرك معنى الفتوى و أنها تكليف وليست تشريف، وهي عند الله عظيمة في الجزاء و العقاب، لذلك كان يتحرى فيها مراقبة الله له و أمانة الخلق فيه، لذلك نهج فيها منهجا وسطا فهو لم يذهب مذهب التشديد الخالص الذي يدعو إلى تجميد كل شيء في الحياة والتقوقع على ظاهر النص، ولا مذهب التخفيف المطلق المؤدي إلى الانحلال و التميّع وتفسير الحقائق حسب الهوى ومراد النفس، فقد كان معتدلا يعتمد على الكتاب و السنة دون أن يغفل عن روح التشريع ومراعاة المصالح و المفاسد كأصل من أصول مذهب الإمام مالك، و التي من بينها درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكذا مبدأ التيسير ورفع الحرج و المشقة باعتماده على الأدلة العقلية كالقياس و المصلحة المرسلة والاستحسان و سد الذرائع مع مراعاة ظروف العصر.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.