رمز الجلفة وفخر الجزائر وأولاد نايل: الشيخ عطية مسعودي وجهوده في العلم والدعوة
بقلم: سليمان قاسم-
ما إن تمر علينا ذكرى وفاة العلامة الشيخ “عطية مسعودي” وإلا وتعود بنا الذاكرة إلى مدى تفريطنا في إحياء تاريخ هذه الشخصية العظيمة، التي استطاع صاحبها أن يصنع فارقا كبيرا طيلة قرن من الزمن، فرغم مصاعب الحياة إلا أنه أصبح قبسا منيرا في ظلمات الجهل والاستعمار إلى غاية نيل الحرية، فواصل خلالها عطاءه في العلم والتعليم والتربية والإصلاح، ولعل الأهمية الكبرى لشخصية الشيخ “عطية مسعودي” دعتنا إلى أن نكتب عنه في كل مناسبة من اجل تذكير الأجيال بمدى أهمية الالتفات والالتفاف حول التاريخ المشرق لعلمه ومسيرته وأدبه، ومن هذا المنطلق نحاول أن نسترد معالم سيرته العطرة التي ستبقى شاهدة على جهوده في العلم والدعوة والإصلاح.
مولده ونشأته
هو الشيخ عطية مسعودي الإدريسي الحسني ولد قرب الزاوية الجلالية على مشارف مدينة الجلفة سنة 1900 م من أبوين كريمين قانتين وكانا فقيرين، ترعرع في أسرة ملتزمة عرفت بالزهد والتقوى والصبر، كان أبوه طرقيا رحمانيا متعلقا بشيخه “عطية بيض القول” متفانيا في حبه وطاعته وخدمته هذا ما عطف قلب شيخه عليه وعلى أبنائه لاسيما الهادي وعطية.
حفظ القرآن الكريم على يد أخيه الشيخ “الهادي بن مصطفى” بالزاوية الجلالية وعمره لا يتجاوز 09 سنوات، واخذ عنه بعض مبادئ العلوم، سرّ به الشيخ “عطية بيض القول” ودعا له بان يبلغ ما بلغه أخوه الشيخ الهادي من العلم والمعرفة، وبدت علامات النبوغ وسماته تظهر على هذا الشاب الذي لازم أخاه الأكبر عدة سنوات، درس خلالها مبادئ الفقه وعلم اللسان العربي، ولما توفي أخوه الهادي سنة 1916 وشيخه عطية بيض القول سنة 1917، انتقل إلى زاوية الشيخ “عبد القادر بن مصطفى طاهيري” بمدينة زنينة – الادريسية حاليا- فمكث عنده ما شاء الله أن يمكث، فدرس هناك علم التوحيد والفقه و أجازه شيخه في الشريعة والطريقة، في مرحلة التتلمذ زاول الشيخ عطية مسعودي مهنة التدريس في زاوية بن عرعار بالقرب من حاسي بحبح في الفترة مابين 1917-1919 حيث درس بها القران الكريم وبعض مبادئ اللغة العربية، وذلك بطلب من سكانها فلبى رغبتهم ثم عاد إلى الزاوية الجلالية .
رحلته العلمية
انتقل بعدها مرتحلا طالبا للعلم عبر ربوع القطر الجزائري، فدرس بمختلف زوايا القبائل كزاوية “سيدي علي موسى” بسوق الاثنين، انتقل بعدها إلى العاصمة وقد احتضنته العائلة الكريمة عائلة محي الدين الباي بالجزائر العاصمة التي أحسنت وفادته وإحاطته بالعطف والمحبة طيلة إقامته بالجزائر، التي كان يحضر فيها دروس الشيخ عبد الحليم بن سماية ليتوجه بعدها إلى البليدة وحضر فيها بعض الحلقات والدروس الفقهية للشيخ “محمد بن جلول” ثم قصد زاوية عين الحمام، وقد دامت رحلته العلمية سبع سنوات ثم عاد إلى مسقط رأسه الجلالية .
الزاوية الجلالية معهد العلم الجامع بينه وبين الشيخ نعيم النعيمي
بعدما رجع إلى مسقط رأسه، أوفده أستاذه و مربيه الشيخ عبد القادر بن مصطفى- شيخ زاوية الإدريسية – وهو في سن 30 لزاوية الجلالية معلما للقرآن و مبادئ الشرع و اللغة، في هذه الفترة اتصل به الشيخ “نعيـم النعيمي” ولازمه 07 سنوات من الدراسة و التعلم به، فقد كانت بينهما صداقة متينة وعلاقة حميمة قوية عاشا معا فترة في الزاوية الجلالية يقرآن ويتباحثان في مسائل علمية وفقهية ولغوية، من علوم التفسير والحديث، وعلم الكلام، وعلم الأصول، وغيرها، ومما ذكره نجله الأستاذ “يحي مسعودي” أن الشيخ “نعيم النعيمي”، كان عضوا في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أقام مع زوجته في بيت الشيخ عطية عامين كاملين ولم يشعر أي أحد منهما بأن الانتماء يفرق بينهما ثم إن هناك مراسلات أدبية بين الشيخ عطية والشيخ مبارك الميلي، وقد أثنى الشيخ مبارك الميلي على الشيخ في إحدى رسائله.
مكانته عند العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس
سنة 1932 التقى بالشيخ “عبد الحميد بن باديس” أثناء زيارته للجلفة، حيث ذكر الشيخ سي عامر محفوظي أن الشيخ عبد الحميد بن باديس زار مدينة الجلفة وطلبت منه الجماعة أن يقوم بإلقاء درس، فاستجاب الشيخ وطلب منهم أن يحضروا في مجلسه أحد العلماء الفقهاء العارفين بالدين فأرسلوا مركبة إلى قرية الجلالية زاوية الشيخ سي عطية بيض القول، التي يقطن فيها الشيخ عطية مسعودي، فدعوه إلى مرافقتهم لحضور درس الشيخ.
وفي هذا الخصوص أكّد نجل الشيخ عطية مسعودي الأستاذ “يحيى مسعودي” في مقال له على جريدة “الجلفة إنفو” تعقيبا على موضوع “مدرسة الإخلاص بالجلفة بين الحقيقة والتزييف” (أن حضور الشيخ سي عطية رحمه الله، لم يأت لرغبة من دعاه، فالذي دعاه لم يكن مجهولا، وإنما رغبة من الشيخ عبد الحميد بن باديس نفسه، فالقصة وما فيها كما رواها لي الشيخ رحمه الله وكما قصها على غير واحد ومن بينهم سي عامر محفوظي رحمه الله أن الشيخ عبد الحميد بن باديس عندما جاء الى الجلفة طلب من الحضور أن يستقدموا أحد رجالات العلم من المنطقة فأرسلوا ناقلة (عربة تجرها الأحصنة) الى الجلالية فجيء به مُكرما، وليس من عادة الشيخ رحمه الله أن يدخل دون استئذان أو يأتي دون دعوة، وهو الذي علمنا في دروسه من يستوجبون الصفع، والذين من بينهم “داخل الدار تطفيلا بغير دعا” بل إن الشيخ عبد الحميد قال له يومئذ بالحرف الواحد: أشر عليّ بعنوان الدرس، وكان الشيخ عبد الحميد رحمه الله ينوي درسا في التفسير، فأشار عليه الشيخ عطية بان يفسر قوله تعالى : “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” فأعجبه الاقتراح، وقال للشيخ عطية “لقد صادقت ما في نفسي، فأنا أنوي تفسير هذه الآية”) .
مدرسا في مدرسة الإخلاص وإماما للمسجد الكبير بالجلفة
في سنة 1943 بادر أهل مدينة الجلفة بإنشاء مدرسة حرة ” الإخلاص” تابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فاختير لها الشيخ عطية مسعودي مدرسا و نجم عن هذه العلاقة تقدير ملموس في نفوس مواطني البلد وقد استمر في التعليم بالمدرسة إلى غاية 1947 أين طلبت منه الجمعية الدينية للمسجد الكبير بالجلفة إمامة المسجد وذلك عقب الحرب العالمية الثانية، حيث أن الجماعة بالجلفة لم تجد بدا من اللجوء إلى الشيخ عطية بن مصطفى للقيام بمهمة الإمامة و التدريس ولم يسعه – بعد استشارة شيخه – إلا تلبية الرغبة، وفي هذا الأساس يذكر الأستاذ يحي مسعودي في مقاله المذكور آنفا ما يلي : (فمن دعاه للإمامة هو الشيخ سي عبد الحميد مختاري شيخ زاوية أولاد جلال وكان مقيما عند الرجل الفاضل السيد “سعد لحرش”، ومعهما عدد من أعيان الجلفة).
شرع بعدها الشيخ عطية مسعودي في إعطاء هذا النشاط بعده الحقيقي و بدأت مكانة الشيخ تسمو، لما كان يتحلى به من خصال المعلم الناجح والعربي العارف والموجه النصوح لدرجة أن أصبح مضرب المثل في وسط سلوكا ومعرفة. ومما يذكره الإمام مصطفى بلخيري انه قبل التحاق الشيخ مسعودي عطية بالإمامة بالمسجد الكبير كان قد التقى بالشيخ محمد بن عبد الرحمان النعاس بدار الشيوخ فحينما سمع بثناء الناس على الشيخ عطية مسعودي بعدما أكمل دراسته استدعاه في الزاوية وأقام عنده ضيفا لمدة 03 أيام تحاور خلالها معه في مواضيع عديدة فأعجب به ودعا له بالتوفيق وقال له: “يا ولدي كنتُ عازما أن اعرض عليـك وظيفة الإمامة بمسجدنا وإلقاء الدروس للطلبة بزاويتنا لكن بعدما أجريت هـذا الحوار معك تبيّن لي أن مستواك لا يواكب قريتنا الصغيرة لأن العالم إذا سكن البادية أو القرية يموت علمه وينساه الناس، فأنصحك أن تلتحق بمدينة الجلفة”. وقد أصبح الشيخ عطية مسعودي إماما لمسجد سي احمد بن الشريف جامع الجمعة بمدينة الجلفة فيما بعد.
صناعة رجال الإمامة والتعليم بالجلفة
منذ 1947م إلى أواخر حياته ظل الشيخ عطية مواظبا على أداء مهمته بدور الداعية والإمام الخطيب والمفتي المعلم و ذلك على أحسن وجه و أفضل حال. وفي نهاية الخمسينات فكر الشيخ في إنشاء مدرسة قرآنية تقوم إلى جانب تحفيظ القران الكريم بتلقين العلوم الشرعية واللغوية، فجمع ثلة من الناشئة من بينهم الجابري سالت، محمد بوخلخال، يحيى مسعودي، عامر محفوظي واستغرقت الدراسة أربع سنوات ما بين 1959- 1963 وقد تخرج من هؤلاء الطلبة وتوزعوا على مناصب الإمامة والتعليم عبر ولاية الجلفة وضواحيها.
القاضي العادل الذي لا تبدله الصراعات والأهواء
في فترة الحرب التحريرية و أيام الانتقالية و إلى تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة أسندت إليه جبهة التحرير الوطني مهمة الإفتاء والقضاء بين الناس لعلمه و تقواه و وطنيته، وفي هذا الصدد يذكر المجاهد المبخوت البار مسؤول ناحية المجاهدين بالجلفة بعد الاستقلال “انه كلف الشيخ عطية مسعودي في ذلك الوقت بان يتابع قضايا الناس وان يحكم بينهم بالعدل، وكان هذا ديدنه فهو العالم بدينه والتقي الورع الوطني حتى النخاع، حيث انه لم يكن طرفا في الصراعات التي حدثت بعد الاستقلال ولا أدل على ذلك القضية التي أثيرت في السنوات الأخيرة والمتعلقة بقضية حضوره للأمان الذي أعطاه العقيد محمد شعباني لجيش عبد الله السلمي وهنا نقف عند شهادة المجاهد المبخوت البار الذي نفى نفيا قاطعا مشاركة الشيخ عطية مسعودي في هذه القضية، التي لم يكن طرفا فيها لا من قريب ولا من بعيد، مضيفا أن شهادته تطابقت مع ما ذكره المجاهد دلولة بلعباس الذي نفى هو الآخر حضور الشيخ عطية مسعودي في ذلك الاتفاق وانه براء من هذا الافتراء…
مراسلاته مع المشايخ والعلماء
كانت للشيخ عطية مسعودي اتصالات و مراسلات مستمرة مع شيوخ الزوايا و العلماء منهم من لحق بالرفيق الأعلى و منهم من ينعم بالصحة و هؤلاء منهم :الشيخ سيدي المختار بن علي حسني بوشندوقة الحمدي الذي كان قاضيا بمدينة البيض، و الشيخ بلكبير بأدرار و الشيخ بيوض ( شيخ المذهب الإباضي) و الشيخ عبد القادر عثماني بزاوية طولقة و شيخ زاوية الهامل و الشيخ الطاهر العبيدي (الذي أجاز الشيخ سي عطية لما زار مدينة الجلفة) و شيوخ الزاوية التيجانية و الشيخ الصالح ابن عتيق و ابن أشيط و الشيخ الرابحي مفتي مدينة البليدة والشيخ الزبير بالبليدة أيضا و الشيخ سي أحمد الخطابي و بعض علماء باكستان و الأزهر الشريف والعراق وقد استشهد به الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في عدة محاضرات.
مناقبه ومنهجه بعيون تلاميذه وطلبته
وقد ذكر الشيخ عبد القادر الشطي مناقبه حيث قال “أن الشيخ عطية مسعودي كان أستاذنا وشيخنا وهبة من الله تعالى وعطية، ومنحة منه جل وعلا وهدية، لهذه الأمة الإسلامية عامة، ولسكان منطقة وولاية الجلفة خاصة لأنه ولد بين سكانها وترعرع ونشا فيهم وهو من أسرة كريمة منهم، وعاش أطوار حياته معهم طفلا وكهلا وشيخا عرفوا أصله ونسبه وسلوكه وعلمه وفضله وكرمه وإحسانه ونشاطه وجده واجتهاد تقواه فلم يأل ولم يقصر أبدا في وعضه وإرشاده وإسداء نصائحه”.
أما نجله الأستاذ يحي مسعودي فقد ذكر انه ” حياته كانت كلها في سبيل الله، جهادا في طلب العلم و جهادا في الدعوة إلى الله على بينة وبصيرة، و على عمل صالح و تقوى من الله انطبع علمه على علمه و تصرفه على معاملاته خوفا من الله وتقربا إليه، و مع الناس صدوعا بالحق وإرشادا إلى الخير و دعوة إلى التسامح و المحبة و صلة الأرحام. عندما تلفظ عبارة الشيخ سي عطية فالجميع يتبادر إلى أذهانهم ذلك العالم الوقور السمح المتواضع الكريم الذي جمع الناس لا على حبه، وذلك الورع الزاهد والإمام القدوة حيث أن سكان المنطقة كانوا إذا حل شهر الصيام يسألون إن كان الشيخ صائما وان حل العيـد ينتظرون منه أن يقول لهم انه يوم العيد، أن تقواه واحتياطه لدينه وحرصه على توخي صحة الفتوى حب الناس فيه وجعلهم أكثر توقيرا و إجلالا لشخصية الفذة”.
من جانبه الشيخ الجابري السالت ذكر أن الشيخ عطية مسعودي “قد واكب المنهجية السائدة في المؤسسات الزوايا التي تعتمد على اعتبار السلوك الخلقي أساسا للتعليم، و ترتب الحفظ شرطا للانتقال إلى الفهم و راجت بينهم المقولتان (اجعل عملك ملحا و أدبك دقيقا ) و (أحفظ النص يأتك المعنى)، فوقف الشيخ من المقولة الأولى موقف السائد ووقف من الثانية موقف المتحفظ بحيث كان ينصف ملكة الفهم و التأمل ولو على حساب الحفظ، ولا يستعيد هذا من رجل تشرّب معاني كتاب “الإحياء” و أعجب بالمواقف الفكرية لمؤلفة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي كما سمح الشيخ لنفسه بإدخال مقررات في المنهاج المألوف كالسيرة والبلاغة ورواية الحديث، هذا علاوة على أسلوبه المتميز بضرب الأمثلة و قياس ” الغائب على الشاهد ” تقريبا للمعاني من الأذهان و نفعا للملل.
بقي الشيخ عطية مسعودي مواظبا على تعليم العلم ونفع الناس داعيا إلى العقيدة الصحيحة والدين القيوم، رغم انه عاش مريضا طوال حياته فقد انقطع عن التدريس منذ 1970 وأعطى الإذن لتلميذه الشيخ محفوظي عامر إلى أن وافته المنية في 27 صفر 1410 هـ الموافق ليوم 27 سبتمبر 1989 وشيع جنازته جمع غفير من المشايخ والعلماء والأعيان القادمين من جميع نواحي الوطن، ودفن بمقبرة الجلالية بالجلفة.