الفتوى وأهلها
بقلم: الشيخ أحمد حماني –
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم وأضلوا ” حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
الفتوى – لغة : من مادة الفتاء بمعنى الشباب عنوان القوة كما حققه اللسان، وهي اسم مصدر الإفتاء، والفتيا – كما قال – تبين المشكل من الأحكام، وأفتى المفتي إذا أحدث حكما أو جعل لمن استفتاه رخصة و جوازا.
وإنما يبين المشكل ويوضحه، ويصدر الحكم ويشرعه، يوسع وما من ضاق الأمر يشرحه ومن كان عليما بالأمور، خبيرا يحل العويص منها، عارفا بطرق علاج العسير وذلك ما يعالجه المفتي في الإسلام.
منصب المفتي:
هذا المنصب فى الإسلام من أعظم المناصب وأخطرها، لا يتولاه – في الأصل – إلا العالم الذي بلغ درجة الاجتهاد في الشريعة، لأنه قائم مقام صاحبها عليه الصلاة والسلام في إصدار الأحكام وبيان الحلال والحرام.
قال الشاطبي في الموافقات “المفتي قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم” وساق على هذا أدلة كثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام:
“إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما و إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ” رواه أبو داود و الترمذي من حديث أبي الدر داء رضي الله عنه.
ومنها قوله صلى الله وعليه وسلم “بلغوا عني ولو آية” رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو.
والتبليغ وظيفة النبوة:
ومنها قول الله سبحانه: “فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم” والنذارة – كالبشارة – من مهام النبوة.
ثم ذكر الشاطبي أن المفتي مخبر عن الله، وموقع على أفعال المكلفين بحسب نظره ونافذ أمره في الأمة.
وهو في هذه الأمور كالنبي وارث له قائم مقامه واجب أن يطاع.
وأن العلماء هم أولو الأمر في قوله تعالى:
“يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم” فهذه منزلة خطيرة تبوأها المفتي أو المجتهد كما هو اسمه أيضا عند أهل الأصول.
المفتي لا يكون إلا عالما:
فمن البديهي أن المفتي لا يكون إلا عالما لأنه مبين لأحكام الشريعة وموضح لما أشكل منها على المستفتي.
وإنما ورث من النبوءة العلم كما صرح به الحديث والآية توجب طلبه، فالتفقه في الدين فرض على المفتين وإجابة الرؤساء الجهال بغير علم لما سئلوا جعلهم من الضالين المضلين.
ولهذا أجمع علماء الأصول على أنه لا ينتصب للإفتاء إلا من كان جامعا لعلوم شتى، وشروط معدودة إن اختل واحد منها لم يجز أن يستفتى ولا أن يفتي.
وكان مالك بن أنس وشيوخه لا يسمحون لكل من شاء أن يجلس في المسجد للأخذ عنه حتى يكون أهلا لذلك.
أما شروط المفتي أو المجتهد التي لابد أن تتوفر فيه وأجمع عليها الأصوليون فهي:
أولا: أن يكون عالما بنصوص الكتاب والسنة فإذا قصر في أحدهما لم يكن أهلا للإفتاء.
قالوا ولا يشترط فيه الإحاطة يهما وبعلومهما، وإنما الشرط فيه أن يعرف كل ما يتعلق بحكم الشرع. وبالغ بعضهم فاشترط أن يحفظ المفتي خمسمائة حديث، ونسب إلى الأمام أحمد، ونسب إليه أيضا أنه قال: أقل ما ينبغي معرفته الأصول التي يدور عليها العلم على النبي صلى الله عليه وسلم وينبغي أن تكون ألفا ومائتين “اه.
وقال الشوكاني في “إرشاد الفحول”: “أن الحق الذي لا شبهة فيه أن المجتهد لا يكون إلا عالما بما اشتملت عليه السنن التي صنفها أهل السنن كالأمهات الست … وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف”
ثانيا: أن يكون عارفا بمسائل الإجماع
أي بالمسائل التي انعقد عليها الإجماع في عصر من العصور السابقة حتى لايفتي بخلافها لأن وقوع الإجماع دليل على أنه الحق فما خالفه باطل.
ثالثا: أن يكون عالما بلسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب
وإنما يعرف ذلك من كان عالما بالنحو والتصريف والمعاني والبيان حتى يصير في كل منها ذا ملكة راسخة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه، ولا تنبت له هذه الملكة القوية في هذه العلوم إلا بطول الممارسة وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن.
رابعا: أن يكون عالما بأصول الفقه، طويل الباع بهذا العلم، مطلع على ما قرره فيه علماؤه مختصراتهم ومطولاتهم.
فإن هذا العلم هو عماد الاجتهاد وأساسه.
خامسا: أن يكون عارفا بالناسخ والمنسوخ بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك مخافة أن يقع في الحكم المنسوخ.
فهذه الشروط الخمسة متفق عليها.
وزاد بعضهم شروطا لم يجمع عليها كالعلم بأصول الدين “علم الكلام” وكالعلم بفروع الفقه والتبحر في كتبه.
ثم لا بد بعد أن استكمل في المفتي شرائط الاجتهاد المتقدم ذكرها – من شروط العدالة ومن الكف عن الترخص والتساهل.
مجال نظر المفتي:
وأما مجال نظر المفتي (المجتهد) وميدان اجتهاده فهو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع، فما كان دليله قاطعا، وحكمه معلوما بالضرورة انه من الدين كوجوب الصلوات الخمس، الزكاة، والحج على من استطاع، وكحرمة الزنا، والخمر والربا وعقوق الوالدين فلا نظر فيه للمجتهد، فالحق قد تعين، ومنكر وجوب الواجب أو حرمة المحرم كافر لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة.
فتوى من لا يبلغ درجة الاجتهاد:
أجاز الأصوليون لمن كان عالما ولم يستكمل شروط الاجتهاد السابق ذكرها أن يفتي بمذهب مجتهد من المجتهدين، بشرط أن يكون أهلا للنظر مطلعا على مأخذ ذلك القول الذي أفتى به متبحرا في مذهب إمامه متمكنا من ترجيح أحد قوليه على الآخر.
وعلى المستفتي أن يسأل – إذا نزلت به نازلة – .. أهل الديانة والورع عن العالم بالكتاب العارف بالسنة المطلع على ما يحتاج إليه في فهمهما ليسأله عما نزل به إذا لم يكن في البلد عالم اشتهر عند الناس بالفتوى وهو أهل لها واتفق علماء الأصول على أنه لا يجوز أن يستفتى مجهول الحال حتى يمتحن من العلماء ويراجع وتثبت أهليته.
ثقل مسؤولية المفتي:
شدد العلماء في شروط المفتي (المجتهد) احتياطا لدين الله، وحماية للشريعة من تلاعب الجهال والزنادقة، والفساق، لأن قول المفتي يصبح شريعة يحكم بها، وقد تهرب العلماء من إفتاء ومناصبه خوفا من الله ومهابته، وخشية أن يقولوا – ولو مرة – بغير علم.
ومن انتصب منهم للفتوى كان شديد الاحتياط، يتوقف كثيرا قبل الإجابة، ولا يتسرع، فإن بان له وجه الحكم نطق به، وإن أشكل عليه أو غاب عنه أجاب بقوله “لا أدري” ولا يخشى من إعلان جهله أمام الناس، فإن ذلك أولى من أن يقول بغير علم فيضل ويضل غيره وقد اشتهر عن – مالك ابن أنس – وهو عالم المدينة وإمام الأئمة أنه سئل عن ثمان وأربعين مسألة فأجاب في اثنتين وثلاثين منها قوله “لا أدري”.
قال ابن وهب سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يسأل وسمعته عند ما يكثر عليه السؤال يكف ويقول “حسبكم، من أكثر أخطأ” ويعيب كثرة ذلك، نقل هذا أبو إسحاق الشاطبي.
باب الاجتهاد مازال مفتوحا ولكن …
الإسلام دين العلم، والدعوة إلى التفكير والتدبير واستعمال العقل لا يمكن أن يحجر على المسلمين الاجتهاد، وقد نصّ علماؤنا على أن باب الاجتهاد يبقى مفتوحا.
ومذهب الأمام احمد أنه لا يجوز أن يخلو عصر من العصور من وجود مجتهدين، وهذا يستلزم بقاء بابه مفتوحا لكل من بلغ درجته، واستكمل شروطه أن يجتهد، ولا يجوز له أن يقلد .
قال أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات “الاجتهاد على ضربين:
أحدهما: لا ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف وذلك عند قيام الساعة.
والثاني: (يمكن) أن يقطع قبل فناء الدنيا … ا ه.
فهذا الأصولي العظيم عندما ذكر انقطاعه ذكر كلمة (يمكن) مجرد الإمكان ولم يجعله حتما.
فما على من أراد أن يطرق الاجتهاد أن يشمر على ساق الجد حتى يستكمل شرائطه وينتصب حبرا أعظم في مجتمع المسلمين …
ولكن إذا قلنا أن باب الاجتهاد مفتوح فليس معنى هذا أنه (يجوز) لكل أحد أن يلج منه، ويتربع على كرسي المفتي ليكون قائما مقام النبي صلى الله عليه وسلم يشرع للناس ما لم يأذن به الله، ويحل ما حرم الله، و يحرم ما أحل الله.
إن هذا الباب محجور دخوله إلا على من ملك وسائله وتوفرت فيه شروطه، من التبحر في علوم الشريعة المتقدم ذكرها ومن التزام أحكام الدين والاتصاف بالعدالة، والبعد عن التساهل وتتبع الرخص.
صنفان خطيران من مجتهدي العصر :
صنفان من مجتهدي العصر نبتت نبتتهما في مجتمعنا المعاصر في الشرق والغرب، أحداهما عن سوء نية وسبق إصرار، والأخرى من حسن نية و(تقليد) وجهالة بالإخطار.
نحن حرب على الأولى، ودعاة للهداية والإرشاد للثانية.
الطائفة الأولى: قالت إن الإسلام فتح باب الاجتهاد فنحن أهله وأولى الناس به فتعالوا نجتهد ونجدد، إذ لا خروج لنا من التخلف إلا بالاجتهاد والتجديد، فيم نجتهد وماذا نجدد؟ في النظر فيما علم من الدين بالضرورة كركن أو واجب أو حلال أو حرام، ينسخون ويمسخون ويبدلون كلام الله و(يجتهدون).
واقتحموا – فيما اقتحموا صوم رمضان، وإباحة تعدد الزوجات في الإسلام، وقضية الميراث، وأحكام الزواج والطلاق والعدة وإباحة ما حرم من المأكل والمشروبات.
ولهؤلاء نقول ليس هذا اجتهادا ولا تجديدا وإنما هو إلحاد وزيغ، لا اجتهاد فيما فيه النص، وما علم من الدين بالضرورة ولستم ممن توفرت فيه شروط. الاجتهاد من الرسوخ في العلم، ولا ممن اتصف بالعدالة التي هي أول شروطه وكيف يتصف بها من أنكر وجوب الأركان، وعطل آيات القرآن؟
وأما الطائفة المرحلة النهائية: فاجتهدت فى العبادة وتهجدت، والتصقت بالسنة وتزمتت ثم قالت:
نرفض الأحكام المنصوصة في مذاهب الأئمة المجتهدين، وفي كتب العلماء والفقهاء المؤلفين ونأخذ الأحكام مباشرة بما جاء في الكتاب المبين أو في حديث خاتم النبيين.
وأخذوا يحكمون بالبدعة فيما هو موطن خلاف، ويحدثون الفرقة بين جماعة المسلمين.
ونحن نقول مرحى لشبيبة الإسلام المفلحين، إن في كلامكم هذا مسحة من الحق قد تؤدي إلى الهلاك المبين، إن هذا القول يوهم أن ما تركه مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وأصحابهم من العلماء المحققين قسيم للكتاب والسنة، وعلى كل مسلم إما أن يأخذ بالكتاب والسنة أو يأخذ بما تركه هؤلاء الأئمة من إرث في الدين وليس هذا هو الحق، وإنما اجتهد هؤلاء الأئمة وبينوا واستنبطوا الأحكام وأزالوا الشبهات.
وهم أولوا العلم الذين أرشدنا ربنا ألي الأمور إليهم رد فى قوله تعالى: ” ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ” فهم اللذين يكشفون لنا من الشبهات ما يخفى على كثير من الناس كما جاء في قوله صلى الله عليه و سلم:
“الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس” كل من هؤلاء العلماء والأئمة التزم الكتاب والسنة وترك لتلاميذه وصية ” إذا وجدتم قولي يخالف الكتاب أو السنة فاضربوا به عرض الحائط “.
وإنما نقلدهم فيما اجتهدوا فيه – دون أن نتعصب لواحد مخصوص فيهم – لأنهم بلغوا درجة الاجتهاد وقصرنا.
وليس لأحد منكم أو منا أن يقول أن باستطاعته – في حالته الحاضرة – أن يستنبط بنفسه في الكتاب والسنة، فإن زعم ذلك فقد ادعى الاجتهاد وصدق عليه أنه ترأس قوما لم يبق فيهم عالم فسئل فأجاب بغير علم فأضل و أضل فخذوا إرث هؤلاء المجتهدين .
وحذار من كتب حديثة ودعاوي مدعين فإنهم وضعوا أنفسهم موضع المجتهدين، وقالوا لكم خذوا بأقوالنا، وذروا أقوال المتقدمين، وحكموا على كل من خالفهم بالابتداع، مع أنه له مستندا، وفسقوا المثقفين، ومن قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما كما جاء في سنة الرسول الأمين.
إننا ننصح لهؤلاء الأبناء والإخوان أن يطلبوا العلم حتى يتمكنوا من فنونه ويكونوا من أهله، ويصبح لهم ملكة راسخة يكتشفون بها ما أشكل ويعرفون رجاله الحقيقيين، والأدعياء المزيفين، والكتب الصحيحة المعتمدة في الفتوى عند أهلها وأهل العلم.
وليكن التصدي لتفسير القرآن وشرح الحديث بعد التمكن من فنون العلم واستكمال الأدوات وليكن الانتصاب للفتوى بعد توفر الشرائط، وقد سمعنا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من انتصاب الرؤساء الجهال وإقدامهم على الجواب بغير علم، فاتهم نفسك يا أخي، واسألها، ولا تركن إليها فإنها لأمارة بالسوء .
* نشرت بمجلة الرسالة التي كانت تصدر عن وزارة الشؤون الدينية بالجزائر العدد الأول سنة 1400 هـ/1980 م